يحقُّ لفيروز أن تغضب

*إبراهيم نصر الله

(هيدا الشريط حقه 20 ليرة، واللي بيبيعه أغلى من هيك بيكون حرامي، واللي بيبيعه أرخص من هيك برضو بيكون حرامى).
في أواسط الثمانينيات أطلق زياد الرحباني في مطلع ألبومه الرائع (أنا مش كافر) هذا الكلام، الذي يحمل الكثير من المعاني، لكن، لا زياد، ولا أي واحد منا كان يتخيل إلى أي مدى ستصل حدود القرصنة، التي كان أقصاها نسخ الشريط، وهي قرصنة مخيفة، رغم أنها كانت في أبسط أشكالها، مقارنة بقرصنة اليوم.
تغيّر الزمان بتغيّر ناسه وما قدمه العلم من وسائل استثنائية على مستوى نقل المعلومات، للمقرصنين والمستفيدين، والضحايا أيضا، ولمن يرفضون القرصنة. ولذا يفهم المرء تلك الحرقة التي تعتصر قلب ريما الرحباني ابنة الفنانة الكبيرة فيروز، وهجومها الضروري، لأنه ليس دفاعا عن فيروز وحدها، وأغنيتها (لمين) التي تحولت فريسة لبعض تجار الموسيقى، فنُسخت ووزعت، وتم التلاعب في تسجيلها.
المؤلم في الأمر، إن الذين يتشوقون لطلة فيروز، كما يتشوقون لطلة قديسة، هم أول من يطلقون النار على عملها بسرقتهم له، تماما مثل أولئك الذين كلما غنّى عصفور فوق غصن، بدل أن ينصتوا لهذه النعمة، تحسسوا بنادقهم دون أن يرفعوا نظرهم عنه، وأطلقوا النار عليه.
تقول ريما: تسرقون فيروز وتسألون بكلّ وقاحة لماذا لا تصدر فيروز أيّ عمل جديد؟ فما رأيكم أتريدون أن تقّدم لكم كلّ تعبها على طبق من ذهب لتستفيدوا انتم؟
أعترف أنني كتبت مقالا لينشر في هذا المكان، قبل أشهر، ولكنني لم أجرؤ على نشره، وهو يتعلق بحقوق التأليف أيضا، وبالذات توزيع الكتب، وإعادة طباعتها في نسخ مزورة وعلى نطاق واسع. تساءلت فيه عن حدود الجشع الذي يسكن قلوب البعض، وإن لم يعودوا بعضا، فهم كثر، حين ينقضّون على كل عمل جديد حتى قبل صدوره، هم الذين يحققون أرباحا تفوق حقوق الكاتب بأربع مرات، وحقوق الكاتب والناشر بخمس مرات.
وعلى الجانب الآخر، تجد أيضا أن كثيرا من أولئك الذين ينتظرون بلهفة عملا جديدا لفنان، أو كاتب، لا يترددون في توجيه طعنة له من الخلف بشراء النسخ المزورة، ويتجرأ كثير منهم أن يأتي إلى القاعة التي توقّع فيها النسخ الأصلية، مادّا يده بنسخة مزورة لتوقِّعها له!
شخصيا أرفض توقيع النسخ المزورة لأنه مباركة للمزوِّر ومن يشتري بضاعته.
إن كل عمل فني أو أدبي يُنتج هو حصيلة عمر لا يقدر بثمن، وبعض الأعمال ينفق عليها المبدع ربع أو ثلث عمره، وهي حصيلة جهد خلاق، وحصيلة تكاليف إنتاج ليست قليلة، وفي النهاية، ستكون ضمانة لاستمرار الكاتب أو الفنان، أو سبب توقفه، فالفنان لا يستطيع أن يكتب في غرف الجوع والحاجة والشعور بالضعف، في وقت يبدع فيه ليكون الناس أقوى وأجمل وخارج قبضة وحش الحاجة والاستغلال والجوع.
لا أريد أن أرثي زمنا مختلفا عشناه، كان فيه الناشر صاحب مشروع تنويري، وكان الموزع، الذي يناولك ألبوما أو كتابا، صاحب مشروع وطني، وكان صاحب المكتبة يدس في يدك الكتاب الذي يوسع أفق وعيك، لا أريد أن أرثي، لأن هناك من يفعلون هذا حتى وإن كانوا على وشك الاختفاء.
هناك فنانون ومبدعون يقدِّمون الأجمل الذي ينتظره الناس في زمن لم يبق فيه لنا سوى القبح القائم في مجانية القتل ومجانية تدمير الأوطان والمبادئ وطمس أي جهة يمكن أن تشير إلى الأمل، ولكن لنعترف أن هذه الفئة من المبدعين والمفكرين تدفع ثمنا مضاعفا. وفي وقت قد يقول لك فيه أحد الناس: إن سعر الأسطوانة الأصلية مرتفع وسعر الكتاب الأصلي مرتفع، مبررا شراءه المزوَّر الأقل جودة، والمشوّه غالبا، في حين أن نفقات أي هاتف محمول باتت اليوم تفوق أي ميزانية مخصصة لشراء الكتب.
بات المبدع، أي مبدع يتردد في نشر عمله، لأن ثمة آلاف الضباع تنتظر أمام باب البيت، وخلف شاشة حاسوبه لابتلاع كل ما ينتج، فمن المرعب أن تحس وأنت منشغل في ألبومك أو كتابك أو.. أن هنالك من يستعجلك، ليأكلك، بكل ما فيه من جشع. ولذا أفهم صرخة ريما الرحباني، وأفهم كل تلك المرارة التي تعتصر قلب فيروز، وبخاصة من هم مثلها الذين يشكل مردود أي عمل لهم عماد حياتهم كي لا يكونوا فريسة الحاجة.
قد تتحوّل إنجازات كثير من المبدعين، بعد رحيلهم، إلى سلعة للتجارة السوداء، ولكن المؤلم أن يرى المبدعون كيف يتمّ التهامهم وهم أحياء، وسط تصفيق من يحبونهم ومن يسرقونهم أو يستغلون أعمالهم بلا أي رادع، وهؤلاء لا يدركون أنهم يضعون الحجارة في داخل مجرى نهر الإبداع، ولا يدركون أنهم خاسرون حين يتوقف هؤلاء عن تقديم الجديد.
هل على المبدع التوقف عن نشر ما يُنجزه؟ أعترف أنني أفكر أحيانا، وجدّيا، بالتوقف عن النشر، ومواصلة الكتابة فقط، مع أنني لا أعاني أبدا مع ناشري، بل مع من خارج دار النشر، مع أن آخرين يعانون مع دور النشر، وأن أترك ما أكتبه لينشر مستقبلا، حتى لا أكون مضطرا للشعور كل لحظة بأنني أُلتَهَم حيًّا.
هل يكون المبدعون مضطرين في يوم من الأيام لفعل ذلك، هل سنجبر فيروز وسواها على فعل ذلك؟
إن الذين ينظرون إلى الفنون والآداب كسلعة فقط، يرونها كذلك لأنها سلعة تدر لهم الأرباح الفاحشة وحدهم، ولأن على الفنان وأبنائه أن يعيشوا على الفتات المتناثر من صحون طعام أولئك وطعام أبنائهم.
ذات يوم أرسل لي أحدهم عقدا يتضمّن أن يحصل على خمسين في المئة من حقوق ترجمة كتُبي، وخمسين في المئة من قيمة أي جائزة أحصل عليها، مقابل عشرة في المئة يمنحها لي كحقوق! فكتبت له، ساخرا، بنودا جديدة نسيَها، وأرسلت له العقد، ومنها: يحق له أن يحصل على كامل الحقوق المادية لأي جائزة أنالها على أن اكتفي بمردودها المعنوي! يحق له الحصول على نصف راتبي من أي عمل أعمله! ونصف أي زيادة سنوية، وفي حال توقفي عن العمل، تكون حصته من الراتب ديونا متراكمة عليّ! وأخيرا: يحق له الحصول على نصف الأبناء الذين أنجبهم!
وبعد:
في الخليج العربي عموما، استطاعت الدولة والمؤسسات التعليمية والثقافية، ومعارض الكتب، الوقوف في وجه التزوير، ونجحت كثيرا، ولكن الأمر منفلت في معظم الدول العربية وبخاصة مصر، الأردن، وفلسطين أيضا، للأسف، وسواها، ويبدو اتحاد الناشرين العرب كاتحاد الفنانين العرب غائبين تماما، بل صامتين.
يحق لفيروز أن تغضب، يحقّ لريما، يحقّ لنا، ويحق لزياد أن يختصر هؤلاء بكلمة واحدة: حرامية!
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *