قبل أن تكتب رواية


*مريم الساعدي

تبدو كتابة الرواية موضة رائجة بين الشباب هذه الأيام. تقلب في أغلب هذه الروايات التي تراها متصدرة واجهة المكتبات فتجدها بسيطة، أو هي أعمال لا تقول شيئاً على الاطلاق، قد تكون لغتها جيدة في أفضل الحالات ولكن هذا كل شيء. يكتبون كمن يتزحلق على سطح المشهد الخارجي. من دون أي «عمق». وأتساءل لماذا يودّ كل هؤلاء الناس كتابة رواية؟. لسهولة النشر ربما، وللألق الذي يضفيه لقب «كاتب وروائي»؟، لكن هل حقا يدرك هكذا كُتّاب سحر كتابة الرواية؟. أعمالهم لا تحمل أي «فكر» على أي مستوى. كأن الواحد منهم يستيقظ ويقول اليوم سأكتب رواية. وبعد أن يغسل أسنانه، ويتناول إفطاره، يكون قد انتهى من الكتابة. ويبعثها لناشر قطع على نفسه نذراً أن يطبع ألف رواية في كل سنة بغض النظر عن القيمة الأدبية. فينشرها له بافتخار، يقيم له حفلات التوقيع والندوات الأدبية، وحين يُسأل هذا الكاتب عن عمله القادم يقول بثقة وبساطة أن لديه عشر مخطوطات روائية جاهزة للنشر. فهو يكتب قبل وبعد الطعام. وناشره الجالس بجانبه يصفق له. والجمهور من أصدقائه وعشيرته يصفقون له. والنقاد والصحفيون من الذين يعدون حبات القمح في «لقمة العيش» يصفقون له. ويصير لدينا كاتب جديد سعيد. ولا أحد يخرج خاسراً في النهاية. سوى الأدب. يخرج كسيراً حزيناً لأنهم يحشونه بالكثير من القش وقصاصات الورق ومحارم مستخدمة وعلب معدنية صدئة وبقايا طعام عشاء ليلة البارحة وأكياس بلاستيكية، وكل ما يمكن أن يلوث قلبه، فحوّلوه لصحراء نزهات لا ينظفها أحد.

أسأل أحد هؤلاء الكتاب «الروائيين» عن الروايات التي يحب قراءتها. يقول بثقة العارف «أنا لا أقرأ الروايات ولم أقرأ رواية في حياتي». وكأنه ينفي عن نفسه تهمة. ولسان حاله يقول إنه لا يحتاج لمنبع لإلهامه، إبداعه قادم من ذاته. فلماذا يشغل نفسه بقراءة أعمال الآخرين وهو صانع الأعمال العظيمة!
إذاً لدينا كُتّاب لا يقرؤون نضعهم في واجهة العرض قدوة للشباب. وبنفس الوقت نتحدث عن وجوب تشجيع القراءة بين الشباب، والشباب يبحث عن الكتاب السهل، ستجدهم يتزاحمون على ناشر الكتب السطحية الخالية من «العمق» ليشتروا كتباً «سهلة» لن تكلفهم عناء التفكير بالتالي سيضربون عصفورين بحجر: لن يُتهموا بعدم القراءة، ولن يتورطوا في القراءة. فكل ما سيقرؤونه سيكون مجرد ألوان اصطناعية لا تحمل أي قيمة غذائية.
أتحدث كثيرا عن «العمق» أليس كذلك؟، العمق كلمة سيئة السمعة ربما. تعني انعقاد حواجب، وخطوطا متعرجة على الجبين، ونظارة طبية، ومجلدات كتب ضخمة بلغة مستعصية، وشخص عصبي لا يعجبه العجب. لا، ليس هذا ما أعنيه.
العمق هو أن تخرج صباحاً لاصطياد سمكة تشويها لغدائك مع أهلك. هو أن تقف على أطراف قدميك لكي تفسح مكاناً لآخر في مكان مزدحم. هو أن تعرف قيمة دفء الشمس في الشتاء، وظل الشجرة في الصيف. هو أن يكون منظر نملة تنجح في اجتياز الطريق بحمولة ظهرها مصدر سعادتك، هو أن تمتلك إنسانية تقدير التفاصيل الصغيرة، هو أن تضحك من قلبك، وتحب من قلبك، وتتحدث من قلبك، وتساعد من قلبك، وتفتح باب بيتك من قلبك، هو أن تعيش من قلبك. هو الصدق. هو ألا تقول إلا ما تعني وتحس. هو ألا تكون إلا أنت. وإن لم تكن محترقاً من الداخل بجمرة الكتابة، فما حاجتك لكتابة رواية؟.
________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *