ترجمة الشعر.. خيانة مشروعة

*يوسف أبولوز

قبل الدخول إلى عوالم الترجمة.. وتحديداً هنا ترجمة الشعر يليق بالشعر أن نعرفه أو نعرّفه من داخله ليتبين بالتالي صعوبة ترجمته، وفيما إذا كانت الترجمة خيانة أم نصف خيانة، وثم، فيما إذا كان لا بد من الترجمة بوصفها جسراً حقيقياً بين آداب وفنون الشعوب.
يقوم الشعر العربي بشكل خاص بلاغياً على المجاز والكناية، والاستعارة.. يقوم أصلاً على الصورة الشعرية، والموسيقى والإيقاع، ومن حيث المعنى فهو الأهم في الترجمة، فالمعنى عند العرب هو في بطن الشاعر «أي المجاز أو التورية» وما أصعب أن يبحث المترجم عن المعنى في بطن شاعر عربي تمتلئ لغته العربية التي هي لغة شعر بامتياز بما يسمى الطباق والجناس على سبيل المثال، إضافة إلى التشبيه والجناس، وأكثر من ذلك البناء إلى المجهول والمعلوم، ثم الضمائر التي توجه دفة الكلام من ضمير متكلم إلى ضمير غائب إلى ضمير مخاطب.

يقوم الشعر العربي أيضاً على الصورة الشعرية وتقارب وتباعد أصوات الحروف ثم الوزن والتفعيلة والقافية، أقصد علم العروض.
هذه عتبة أولى حول الشعر العربي وصعوبة ترجمته إلى اللغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية في ضوء مكوناته البلاغية والصرفية والنحوية واللغوية، فهل هذه المكونات الشعرية العربية موجودة أيضاً في الشعر الأجنبي؟ وكيف يتصرف المترجم إذا واجه شيئاً من هذه المكونات في القصيدة الأجنبية عند نقلها إلى العربية؟ وسريعاً نجيب باقتضاب أن ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية أسهل من ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأجنبية لأن محمولات الشعر الأجنبي البلاغية والصرفية والعروضية والصورية والمجازية والترادفية، (من المرادفات أو الترادف) إضافة إلى التضاد والكناية والمجاز والاستعارة وغير ذلك هي محمولات أقل أو أخف.. هذا إذا لم تكن هذه المحمولات غائبة أصلاً في الشعر الأجنبي، وأن هذه القلة وهذه الخفة تسهّل عملية ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية.

الأمانة.. اللا أمانةرغم هذه السهولة أو رغم هذه الخفة تقول بيلار ديل ريو أرملة الروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو وهي مترجمته إلى الإسبانية وهو شاعر أيضاً: «عملية الترجمة بشكل عام في كل اللغات في العالم عملية صعبة للغاية.. ليس هناك مترجم كامل، وليست هناك ترجمة كاملة..» أي أن ترجمة الشعر هي ترجمة ناقصة وأحياناً يقوم المترجم بإكمال هذا النقص بالطبع على حساب النص ولكن الطريف أو المدهش أن «ديل ريو» تضيف: «.. قد تكون هناك تراجم هي أبدع وأفضل من النصوص الأصلية».
ومرة ثانية سنعود إلى مربع مقولة الخيانة في الترجمة (الأمانة أو اللا أمانة في النقل من لغة إلى لغة)، وفي هذا السياق يقول د. بشير العيسوي في كتابه «الترجمة إلى العربية – قضايا وآراء»: «.. من خلال استعراضنا بعض القصائد المترجمة إلى العربية نجد أن بعض المعاني في النص الإنجليزي قد غابت أو فقدت في النص العربي، كما أن معاني أخرى في النص الإنجليزي زادت أو اكتسبت في النص العربي». ويضيف: «إن الترجمة الأمينة سوف يعلوها كثير من القبح، كما أن الترجمة الخائنة سيعلوها كثير من الجمال ولكن على حساب النص».
عند نقطة الترجمة الأمينة يكون فيها الكثير من القبح بإمكانك أن تعود إلى الترجمات العربية للشعر الأجنبي في بداية ظهور ترجمة الشعر، فقد كان الكثير من المترجمين العرب ينقلون إليوت أو شكسبير أو عزرا باوند أو لوركا إلى العربية بأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي (وبأمانة كاملة للنص) فتبدو تلك الترجمات وكأنها تحشو النص الأجنبي في العروض العربي الخليلي.. ويا له من حشو بائس «الخيانة» أفضل منه بكثير.
يضيع جوهر الشعر في الترجمة كما يرى د. العيسوي، حيث إن القصيدة المترجمة لا هي إبداع (محض) ولا هي ترجمة محضة «فهناك المترجَم وهو البوتقة التي ينصهر فيها النص الأجنبي وبعدها ينتج نصاً عربياً» لكن قبل «البوتقة» تأتي اختيارات المترجم لنص بعينه فقد يختار المترجم نصاً شعرياً ما استناداً إلى إيديولوجيته الفكرية أو السياسية، وقد يذهب المترجم إلى نص بعينه استناداً إلى عرقية ما أو عقيدة دينية في حد ذاتها أو استناداً إلى تبني لغة ما بكل مدلولاتها السياسية على سبيل المثال، وإنه علينا أن ننتبه جيداً إلى مسألة اللغة في الترجمة، فالترجمة أحياناً تأتي لغرض سياسي أو إيديولوجي وهنا نستحضر السيل (العرم) لترجمات الشعر الروسي والشعر الصيني عن طريق دار (التقدم في موسكو) وذلك خلال صعود الاشتراكية الأممية والفكر اليساري الشيوعي في ستينات القرن العشرين.
مصدر القيمة
القيمة في الشعر هي الصورة الشعرية بناء على اللغة والكلمة والقيمة أيضاً في عملية ترجمة الشعر.. إنها قيمة إثراء اللغة، «جسد ذلك الفيلسوف الفرنسي جان لورون دلمبير (١٧١٧ ١٧٨٣) في كتابه ملاحظات على فن الترجمة، إذ قال إن الترجمات الجيدة هي أسرع وأيقن الطرق لإثراء اللغات».
ويخبرنا هذا الكتاب الموسوعي البانورامي: أن ستة آلاف لغة يتم التخاطب بها بين البشر في العالم، ولكن، فإن بضع مئات فقط من بين تلك اللغات لها تقاليد أدبية مكتوبة أي أن الشعر العالمي المنقول إلى العربية بكلمة ثانية، ينحصر في عدد قليل من اللغات بالنسبة للغات العالم البعيدة النائية، فنحن نقرأ بصراحة شعراً مترجماً إلى العربية من اللغات: الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية (بنسبة أقل)، وبنسبة أقل من الأقل: الصينية والألمانية، لكن اللغة الإنجليزية في ترجمة الشعر تحديداً هي الأكثر تداولاً، بل هي اللغة الوسيطة (الثالثة) عادة في كثير من الترجمات، أي أنك تقرأ قصيدة لشاعر صيني مترجمة من اللغة الصينية إلى الإنجليزية، ثم من الإنجليزية إلى العربية، ولكن ماذا عن هذه الإنجليزية التي هي الناقل أو الشاحن الكبير للكثير من شعر العالم.
بدايات الطهطاوي
في ضوء ذلك كله، وعودة إلى الترجمة الكاملة أو الناقصة، الترجمة الأمينة أو الخائنة نذهب الآن إلى تطبيق عملي واستدعاء تطبيق آخر للكيفية التي يتعامل بها المترجم مع النص.
قبل قليل أشرت إلى (حشو) النص الشعري الأجنبي في العروض الخليلي. وعلى ما يبدو لم يعد الآن مثل هذا الحشو قائماً، فالمترجمون القدامى مثل اللغة يموتون وينبعثون من جديد.
لفهم الشعر الأجنبي المترجم إلى العربية عليك العودة إلى كتاب نادر أو مهم صدرت طبعته الثانية عام ١٩٩١ عن دار المعارف في القاهرة للدكتور حلمي بدير بعنوان «الشعر المترجم وحركة التجديد في الشعر الحديث» يعود فيه إلى جذور الترجمة منذ الخديوي توفيق وبداية التدخل الأجنبي في مصر في الربيع الأخير من القرن التاسع عشر، ويرى د. بدير أن أول عهد العصر الحديث بالترجمة الشعرية الأعمال التي قام بها رفاعة الطهطاوي كما يقول «على استحياء بالغ»، ويرد في الكتاب نموذج لقصيدة فرنسية مترجمة إلى العربية على هذا النحو العمودي:
وإذا القلوب تعلقت
رأت الجميع جميلا
كسفينة تسعى إلى
شعب يكون مهولا
لهفي على زمن الهنا
إن صح كان بخيلا
كما نرى تم إقحام النص الفرنسي في نظم عمودي عربي قتل روح القصيدة، على أن الأخطر من ذلك أن دم القصيدة قد يتوزع بين المترجمين، وكل مترجم ينقل النص إلى العربية بحسب لغته وثقافته ومرجعياته، فتقلب القصيدة الواحدة على أكثر من وجه، وإليك هذا النص بالإنجليزية الذي ترجم على أيدي أكثر من مترجم لا نعرف أيها الصواب إلا من خلال تذوق الترجمة العربية الأقرب إلى القلب.. والنص من كتاب «الترجمة إلى العربية – قضايا وآراء للدكتور بشير العيسوي صفحة ١٨٨، وصفحة ١٨٩»:

To a Skylark
Hail to thee, blithe spirit
Bird thou never wert
That from heaven, or near it
Pourest they full heart
In profuse strains of unpremeditated art
«أيها الطائر الكريم الذي من أعلى السما يسكب قلبه الرقيق بألحان عذبة شجية تحية وسلاما.
تارة تحلق إلى أعالي السماء. وطوراً تجري سابحاً في عرض الفضاء حتى تلامس الشفق الساطع بأشعة الشمس الغاربة. شادياً أبداً ما ارتفعت ومرتفعاً ما شدوت كأنك الفرح المجسم في أول نشأته وبداءة عهده».
– ترجمة فيلمون أفندي خوري «المورد الصافي» المجلد الثالث ص ٤٣-٤٤.
«أيها الطائر المحلق في الجو. تعروني لذكراك هزة، وتأخذني إذا ما أردت تبيان حقيقة أمرك حيرة وارتباك. لا أستطيع أن أعرف أيها الطائر هل أنت من فصيلة الطير التي تنطلق في الفضاء».
-ترجمة علي محمود طه سنة ١٩٢٦ السياسة الأسبوعية المجلد الأول عدد ٤٢ ص ١٨
«أسراباً تصدح وتغرد، أم أنت أعجوبة من بدائع صنع الطبيعة.
ألا أيتها الروح الهوائية، الضاحكة، الجذلة، الطروبة بين الأفنان والأغصان المترنمة الشادية في الحدائق والرياض، يحييك قلبي عن كثب».
– ترجمة محمد علي ثروت مجلة «السفور» المجلد الخامس عدد ٥١٣ ص٤
تقسيم البرابرة
بحسب بحثي وقراءاتي لقصيدة «في انتظار البرابرة» فقد ترجمها كل من: سعدي يوسف، رفعت سلام، د. نعيم عطية، أحمد مرسي، عبد القادر الجنابي، إلى جانب دراسات في القصيدة لشوقي بدر يوسف، ووسام الدويك، وكل له ترجمته وسآخذ مقطعاً صغيراً من القصيدة، وأترك للقارئ مدى تحولات النص بحسب كل مترجم.
الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي ينقل المقطع الذي يخص الإمبراطور في القصيدة على النحو التالي:
«لماذا صحا الإمبراطور مبكراً اليوم؟
ولماذا يجلس على عرشه مزيناً بالتاج
عند البوابة الرئيسية
لأن البرابرة يصلون اليوم
والإمبراطور ينتظر ليرحب بقائدهم
وقد جهز كل شيء ليقدم له شهادة فخرية
مليئة بالألقاب والأسماء الهامة».
فيما تأتي ترجمة د. نعيم عطية للمقطع نفسه على النحو التالي:
«لماذا صحا إمبراطورنا مبكراً هذا الصباح
وجلس عند البوابة الكبيرة في المدينة
على عرشه مرتدياً تاجه وزيه الرسمي؟
لأن البرابرة يصلون اليوم
والإمبراطور في الانتظار ليستقبل رئيسهم
بل وأعد الإمبراطور العدة كي يمنحه
شهادة فخرية يضفي عليه فيها
رتباً وألقاباً».
ويترجم رفعت سلام المقطع:
«لماذا ينهض إمبراطورنا مبكراً هكذا
ولماذا يجلس عند البوابة الرئيسية للمدينة
على العرش في أبهة، وهو يلبس التاج
لأن البرابرة سيأتون اليوم
والإمبراطور ينتظر لاستقبال قائدهم
بل إنه أعد وثيقة ليقدمها له
مليئة بالألقاب والأسماء المهيبة».
شاعر عراقي آخر يترجم المقطع كما يلي:
«لِمَ يستيقظ إمبراطورنا مبكراً، هكذا؟
ولِمَ يجلس الآن، معتلياً عرشه، معتمراً تاجه
عند البوابة الكبرى للمدينة
لأن البرابرة يصلون اليوم
الإمبراطور ينتظر استقبال قائدهم
والحق أنه تهيأ ليوجه إليه خطبة
خلع عليه فيها كل الأسماء والألقاب».
المعنى في هذه الترجمات الأربع متشابه أو يكاد يكون متطابقاً، لكن النص إلى العربية يختلف من مترجم إلى آخر، هذا الاختلاف بالذات هو واحد من علل ترجمة الشعر. لكن في النهاية، وكما قالت أرملة ساراماغو: لا توجد ترجمة كاملة.. ما هو كامل تماماً هو اللغة عندما تكون قيمة، وصورة شعرية فاتنة.
_____
*الخليج

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *