قبل أن نودّع حضارتنا!


*خليل قنديل

بدا «شبنغلر» وكأنه يقيم جناز وأد حضارتنا، وهو يقدم المثال تلو المثال كي يدلل على سقوط حضارتنا في وحل المادية، وبدت حضارة القرن الـ20 في كتابه، وكأنها تقدم الدليل القاطع على تدهور مريع؛ له في لحظة السقوط دويّ القرون المتخلفة التي عاشتها البشرية جمعاء؛ بحيث كان ذلك الدويّ الذي خلفه السقوط صوتاً جارحاً لحضارات بشرية حاولت النهوض؛ لكنها سرعان ما خرّت في الرمال المتحركة لوهم التحضر!

وقد شاهدنا في الكتاب كيف اعتذر رواد حضارتنا بالتدريج عن كل المكتسبات البشرية التي حققتها الإنسانية، وكان درس «شبنغلر» يقوم على أساس أن الحضارة ذاتها تصاب في بعض لحظاتها التاريخية بنوع من الاعتلال الذي يأكل عظم حضارتها، ويظل الأمر على هذا النحو حتى يصاب عظم الحضارة بالهشاشة وفقدان القدرة على التماسك؛ وبالتالي السقوط والانهيار!
ومن يرقب صعود نجم الحضارات الإنسانية سيلحظ هذه السمة الملحة للحضارات الإنسانية وهي تتقلب في مرجل التاريخ رافضة فكرة الاحتراق والدفن القسري في الرماد، والغريب أن الحضارة التي تبدأ التآكل والسقوط في عتمة التخلف الموحشة تفعل هذا الانكسار في لحظات تاريخية ليست متوقعة.
والمراقب لدوي سقوط الحضارات البشرية لابد أن يلحظ قوة التسارع الهائلة لسقوط بعض الحضارات البشرية، وغيابها في السراديب الرملية للتاريخ!
إن البشرية وعلى الرغم من الفطنة التي تدعيها في تعاملها مع مشهدها الحضاري، إلا أنها تبدو على الأغلب في منتهى الغباء وهي تودع حضارتها القائمة بالحروب المدمرة والرؤوس النووية!
والحال أننا وفي غمرة انهماكنا بمشاهدة حضارتنا القائمة وهي تواجه حماقاتنا التدميرية المقترحة فإن الأجدر بنا أن نمسك بتلابيب هذه الحضارة العظيمة الشأن، ونسعى إلى التشبث بها كي تتأخر قليلاً عن ذاك الغياب النووي الماحق الذي ينتظرها بيد بشرية لا تخلو من الشيطنة والصبينة!
والحال أيضاً يدعونا كي نمسك بروح الأرض قليلاً لنتشبث بكل هذا العطاء الإنساني الذي قدمته البشرية قبل أن يترجرج هذا الكوكب وتزول علاماته التحضرية!
إننا بحاجة بالفعل إلى دعوة أمنا «الأرض» كي تتريث قليلاً؛ قبل أن تتركنا وحدنا مع هذا النثار النووي الذي لن يبقي بالطبع على ملامح حضارة كنا قد أنجزناها.
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *