*حاورته/ نـوّارة لحــرش
في هذا الحوار، يتحدث القاص والناقد قلولي بن ساعد، عن الرواية الجزائرية وتباين تجاربها لغة وموضوعات وكذا انفتاح أبنيّتها السردية على اللاّنهائي، ومدى انفتاحها على حقول المعارف الإنسانية. كما يتحدث عن حضور المحمول الديني والتاريخي في الرواية ونهلها من هذه المرجعيات، واستثمار الخصوصيات المحليّة للتراث الجزائري الشفوي والمدوّن، وعن عودة التاريخ في الكثير من الروايات وإسقاطه على الراهن والواقع.
يذكر أن للكاتب مجموعة من الإصدارات النقدية والقصصية. ففي النقد: “مقالات في حداثة النص الجزائري” منشورات اتحاد الكُتاب الجزائريين، 2005، و”استراتيجيات القراءة/ المتخيل، الهوية والاختلاف في الإبداع والنقد” منشورات دار الهدى، 2012. وفي القصة: “سلطانة والعاصفة” منشورات أرتستيك 2009، و”صدر الحكاية” منشورات دار الكلمة 2016.
لديك دراسات عديدة حول الرواية الجزائرية الجديدة. ما الذي يمكن أن تقوله في هذا الشأن انطلاقا من موقعك كناقد ومتتبع للمشهد الروائي؟
قلولي بن ساعد: حين نتحدث عن الرواية الجزائرية الجديدة ينبغي الحذر من مغبة الانسياق وراء ما يحيل إليه هذا المصطلح في صِلته بتيار الرواية الجديدة في فرنسا الذي أرسى دعائمه النظرية والروائية كلّ من “ناتالي ساروت” و”آلان روب غرييه” و”كلود سيمون” بِفِعل الاختراقات الشكلية والبنائية التي أحدثها هؤلاء في تجاربهم الروائية. وعليه فالأمر لا يتعلق سوى بمدونة نصيّة روائية جديدة من الناحية الزمنية لروائيين جزائريين دون تمييز اعتباطي بين جيل وآخر خارج ما يقوله النص، سعت بعد صدمة أكتوبر 1988 والانفتاح الديمقراطي وأفول بريق اليتوبيات الاشتراكية وسقوط مختلف الوثوقيات العمياء وإحلال الاختلاف محل التطابق والتماثل إلى محاولة التخلص من هيمنة الإيديولوجي على الإبداعي والجمالي الصرف وكلّ أشكال التسطيح والتصحر الإبداعي باتجاه كتابة تخترق سطح المعنى الجاهز والمبتذل وشطط التناول الإبداعي، وتجتهد في إرباك جاهزية الكتابة الروائية المألوفة في خطيتها المكرورة لتدفع بوجهة السرد إلى آفاق تغامر صوب التخوم النائية للذات والمخيال والوجود بإسناد من أساليب متعددة كفيلة بمنح باقي الفواعل السردية لأن تُعلن عن شكواها بعدما غيبها ردحا طويلا من الزمن ذلك النمط السردي العام الذي اتخذ من السارد المهيمن أداته الأولى والوحيدة في ملفوظاتنا الروائية، رغم أنّها كما يقول الناقد فخري صالح “تقيم تشابكا على صعيد الرغبة في انتهاك الشكل والتعبير بصورة جديدة عن العالم، أي بصورة مختلفة عن تلك الطريقة التي عبرت بها الرواية الواقعية عن العالم”. بالتالي قول ما لم يُقل بهذا القدر أو ذاك ضمن تجارب إبداعية متباينة لغة وموضوعات انفتحت فيها أبنيتها السردية على اللاّنهائي من الاستملاكات الجمالية والأنماط الأسلوبية في مرحلة مغايرة تماما لما سبقتها.
هل يمكن القول أن تباين التجارب الروائية لغة وموضوعات وانفتاح أبنيتها السردية على اللاّنهائي، جعلها من جهة أخرى تنفتح على حقول المعارف الإنسانية؟
قلولي بن ساعد: هذا صحيح، لقد انبعثت في التجارب الروائية الجديدة حقول المعرفة الإنسانية، وانفتحت عن آخرها، لتبدع صِلات جديدة من “الإنتاجية النصيّة” بتعبير “جوليا كريستيفا” مع مختلف النصوص الإبداعية والأنواع الأدبية السريعة التحوّل هي الأخرى ضمن حوارية مثمرة وبناءة في اتجاهاتها التجريبية عبر انفتاح السرد الروائي على الشِّعر والتشكيل الفني والموسيقي، وفن الرسائل الأدبية والمقامات والخِطاب الإعلامي والعوالم الافتراضية، وحتى الثقافة البصرية لروايات كُتبت بمخيال مشهدي بصري، هو أقرب إلى مُتخيل السيناريست مثلما هو الشأن في رواية “لاروكاد” لعيسى شريط، وحديث “الأدب عن الأدب” كما يسميه رولان بارت، أو “الميتا أدب” مثلما وظفته كأداة إجرائية الدكتورة آمنة بلعلى في حديثها “الميتا روائي/ وسؤال الكتابة”.
إلى أيّ حد تنهل الرواية الجديدة من التراث والتاريخي والديني؟
قلولي بن ساعد: الرواية، تنهل دائما من التراث والتاريخي والديني والأسطوري. وحضور المحمول الديني والتاريخي واستثمار الخصوصيات المحليّة للتراث الجزائري الشفوي والمدوّن كنصوص غائبة أو مرجعية في سيرورة لا تتوقف بعد استنفاذ مشروعية المشاريع الإيديولوجية والتحديثية والنهضوية ووصولها إلى أفق مسدود خلال العقود السابقة، ليس هذا فقط بل إنّ هناك روايات سعت إلى تمثل بعض خصوصيات العوالم الافتراضية والتواصل الاجتماعي الثقافي الذي وفرته الشبكة العنكبوتية.
أيضا أرى أنّ أغلب الروائيين الجزائريين انساقوا خلال فترة السبعينيات من القرن المنصرم صوب التضحية بالفن والجمال لحساب الدعاية الإيديولوجية. وفي اعتقادي أن ذلك ليس فقط رغبة منهم في التجديد والتجريب وإنّما أيضا لعوامل نفسية ووجودية جعلتهم يسبحون في عوالم اللغة، وينخرطون في التجريب محدثين قطيعة مع منجزهم الروائي الواقعي الملتبس بإيديولوجيا الصراع الطبقي والامتلاء بالآخرين وهمومهم على صعيد صيغ القول الروائي باستخدام لغة المقامة والتراث السردي العربي الشفهي، منه والمدوّن لإضفاء بعض السحر الحكائي وشد القارئ. كلّ هذا في محاولة للخروج بالرواية الجزائرية إلى آفاق أخرى، للتخلص من الجمود الأسلوبي الذي خيّمَ على السرد الروائي في صوره وتمظهراته الخطية كأفق لنمط واحد من الكتابة يحتل فيها السارد المهيمن العالم بدواخل الشخوص، بوصفه المتحدث الأوحد كمعادل موضوعي لصوت الشاعر الذي يفترض صيغة ضمير المتكلم ومن أطراف المجتمع التخييلي للرواية، وهو مجتمع له قوانينه الخاصة وليس المجتمع الخارجي الذي يعرفه القُراء ولا حاجة لهم به، يُضاف إلى ذلك على الصعيد الموضوعاتي الغوص في بواطن الذات والتاريخ والمجتمع عبر العودة من جديد إلى الماضي الفردي والجماعي من غير أن تبدو هذه العودة بمثابة القيمة السلبية في انبثاقها وتحولها إلى كتابة روائية تحاكي التاريخ القريب أو البعيد كمعطى إبداعي، وليس كتوجه مقصود وُظِفَ لغرض ما، ينخرط فيه الروائي في استدعاء ما لم يقله التاريخ الرسمي أو سكت عنه ضمن لعبة سردية تكسر النمط الكرونولوجي للحدث في خطيته المتواترة لتدفع بالسرد واللغة إلى التنامي مما يجعل الحاضر ينصهر بالماضي من أجل تقديم وظيفة سردية محددة هي ما يسميه إمبرتو إيكو “التسارد”.
هناك عودة للتاريخ في الرواية. هل ترى أنّها كانت موفقة في إسقاطاتها على الراهن والواقع؟
قلولي بن ساعد: إنّ هذه العودة للتاريخ تتمظهر في قدرتها على نوع من قراءة التاريخ مُسقطًا على الراهن والواقع باعتبار أنّ “النص المستوحي للتاريخ يُشكل وجها من أوجه الواقع”، كما يرى جورج لوكاتش. ونجد هذه العودة جليّة في الكثير من النماذج الروائية، مثل “كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد” و”أصابع لوليتا” للأعرج واسيني، و”مرايا الخوف” لحميد عبد القادر، و”متاهات ليل الفتنة” لأحميدة عياشي، و”تلك المحبة” للحبيب السائح، و”هلابيل” لسمير قسيمي، و”نورس باشا” لهاجر قويدري، و”بحر الصمت” لياسمينة صالح، حتى وإن لم يكن التاريخ يُشكل المحور الأساسي في نص ياسمينة صالح وفي “تلك المحبة” للحبيب السائح، بل هو جزء منه فقط.
هناك نماذج روائية أخرى أيضا، اتسمت بنوع من العودة إلى بعض الإحداثيات التي تشكل المكوّن الأساسي لتراثنا الشفوي والأسطوري والسردي فيما يشبه المطابقة والاختلاف في نفس الوقت، ترفدها في ذلك خبرة الروائي السوسيولوجية والأنتروبولوجية وثقافته التي تجمع الأسطوري بالمتخيّل بالواقعي بالفانتازي، كما في “التراس” لكمال قرور، و”الغيث” لمحمد ساري، و”تلك المحبّة” للحبيب السائح و”حروف الضباب” للخير شوّار”، و”جبال الحناء” لعبد القادر برغوث، و”وحده يعلم” لعايدة خلدون. وهي شتات حكايات وأحداث محتملة في الحياة والعالم الماورائي الميتافيزيقي. ذلك أنّ شخوصا مثل الزواوي في “حروف الضباب”، و”ميرة” في “جبال الحناء”، و”سطورة وابن عمها خثر” في “وحده يعلم”، و”اللقلق ونانا خدوج والعرافة” في “التراس”، وما تحيل إليه من وقائع غرائبية وحالات أقرب إلى الفناء والتجلي بالمعنى الصوفي وهي تغوص عميقا في المنسي والمغيب عن معنى للاختلاف يسكن تجاويف الطفولة والحبّ والأنوثة والمعرفة والسلطة والشفوي والعالم والوعي الجمعي والوجود، في سعيها للكشف عن رؤية مختلفة وعن وجه آخر لسؤال الكتابة الروائية وهو يختبر فعله الإبداعي الجديد عبر العودة إلى بعض إحداثيات التاريخ ومكونات المجتمع الهوياتية وتراثه السردي وملاحمه الشعبية التي تعود بجذورها في التراث الروائي الجزائري إلى تلك التجربة المفصلية التي دشنها الأعرج واسيني بنصه الروائي “نوار اللوز”.
هل أحاط النقد بكلّ هذه النماذج الروائية إحاطة معرفية إلى جانب الإحاطة الفنية، أم أن الانسياق وراء المناهج النقدية هو الغالب؟
قلولي بن ساعد: بعيدا عن الوهم بالإحاطة المعرفية، والبريستيج الأكاديمي والتطرف لصالح منهج محدّد في النقد الروائي، لا كقواعد مؤكدة وضابطة إذ رعاها الإنسان كان في مأمن من أن يحسب صوابا ما هو خطأ، على رأي الفيلسوف ديكارت. ولا كمنظومة من الأدوات الإجرائية المُساعِدة على تفكيك رموز الخِطاب الروائي وإنتاج معرفة نقدية به، وإنّما فقط كقناع يتخذه أدعياء الكتابة والنقد كنوع من الممتلكات الخاصة الواجب التلويح بها وقت ما تطلب الأمر ذالك في ظلال من الوهم بالتقعيد المدرسي وكافة المتعاليات الذوقية والمعيارية والتربوية لتصير مجرّد ملفوظات للعرض والطلب لا غير، لأنّ الرواية وإن كانت “تنوع كلامي منظم فنيا” كما يرى ميخائيل باختين فينبغي أن يقابلها أيضا بعض التنوّع والتعدّد في مشارب القول النقدي وليس “مأسسته” وحصره في زاوية واحدة هي الزاوية التعليمية، لتأخذ التجارب الروائية الخصبة حيزها المناسب في المساهمات النقدية ذات الطابع الشمولي، وفي أجواء من الحوار النقدي والمعرفي والثقافي المسؤول المُنتج لقِيم نوعية تطرح حضورها المكثف المسكون بالتعدّد والاختلاف الناشئ وهو يناوش الوعي النقدي المدرسي السائد، الوعي الشبيه باللوغوس أو الدليل الواحد في سرديات النقد الروائي الجزائري للذهاب عميقا صوب ضخ دماء جديدة فيه تأخذ بالتنوّع الحاصل على صعيد انبثاق تعدّد منظورات الكتابة النقدية ورؤياها المستندة على قِراءة لأغلب الأعمال الروائية الصادرة في السنوات الأخيرة والوثيقة الصلة بتحولات المجتمع النوعية على أصعدتها المتعددة لإضفاء نوع من المعقولية النقدية وهي تتأسس على الاختلاف والتنوّع وتبتعد قدر الإمكان عن الأحكام الوثوقية وثقافة الحسم النهائية في ما لا يقبل الحسم لزحزحة الطرح الدوغمائي العاطفي الذي لا يتوّفر على أي مرجع أو خلفية تستند إلى قراءة واعية وشاملة نسبيا للمنجز الروائي الجزائري، ولأصول النقد الروائي الجدير بالطرح والتداول الإعلامي والنقدي.
إنّ الرواية الجزائرية فيما أرى وكذلك كافة أشكال الإبداع الأخرى تحتاج إلى “تلاحم في إنتاج العلامات” مثلما يرى رولان بارت، “فالناقد يضاعف المعاني ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى للأثر، أي أنّه ينتج تلاحما في العلامات”.
ما الذي يحدث في ظل غياب الوعي النقدي مثلا؟
قلولي بن ساعد: في غياب وعي نقدي نسبي على الأقل بأهمية التجربة عبر القراءة والتمثل، كثيرا ما يحل التلفيق والقِيم النفعية، ومحاولات التواجد الصوري محل التشبع والتمثل “لوصل القارئ بالمقروء” بتعبير الجابري، ليغطي على الموضوعية في نسبيتها، وهو ما ينبغي الحد منه للتأسيس لحوار نقدي مُنتج ومُثمر يستوعب مختلف التوجهات والآراء اختلافا أو ائتلافا، ولا بأس أن يشارك فيه الروائيون والنُقاد معا، لأن شهادة الروائي مهمة أيضا وقد تشكل نواة أساسية تساعد الناقد على مده بالمفاتيح الضرورية للكشف عن عوالمه الروائية والأسئلة التي تلامس مُكونات مختلف التجارب الروائية الجزائرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصدر/ جريدة النصر الجزائرية