كمال العيادي *
في خريف 1985 كنتُ شابًّا يتوقّد حماسة، تخلّص للتوّ وبأعجوبة من معاطف غيلان القيروان والمدرسة الصّوفيّة الصارمة المُحنّطة. وكنتُ قد حللتُ ضيفًا مُشاكسًا على كُتّاب وشعراء العاصمة الذين استقبلوني في البداية بتوجّس وريبة، بسبب عدائهم المُزمن مع المدرسة القيروانيّة، وتلقفني الطّلبة اليساريون منهم، رغبة في تدجيني وضمّي خطيًّا إلى جماعاتهم المتناحرة، وطمعًا في فوائد إتقان الكتابة بالخطّ الكوفيّ الجميل الذي سيوفّر عليهم مشقة البحث كلّ يوم عمَّن سيكتبُ لهم المنشورات النّارية ويستنسخ لهم الشعارات على رقع الأقمشة البيضاء التي تعلّق فجرًا على حائط وسور مبنى الجامعة.
كنتُ أيامها أفاخرُ بأنني أكتبُ على بحر الكامل فقط، ككلّ فحول الشّعراء، وأتعالى على بقيّة البحور وأتجنّب خصوصًا الكتابة على بحرالوافر والهزج والرجز والرملوالسريع والخفيف والمقتضب والمتقارب، حمار الشّعراء الأنصاف كما كنّا نُسميه.
كُنتُ صهريجًا يغلي ويمور من الغرور، وكانت ثقافتي ثقافة عناوين وقشور. أحفظ كالببّغاء وأردد مقولات وشعارات جوفاء وأدافع عنها بعناد وشراسة.
وانتبهتُ بعد ذلك بسنوات طويلة، وبعد حرث في غابة الخبز واللّغة والغربة والوحدة والقراءة بنهم والتجمّع في صحاري الصّقيع والثلج بروسيا، وبعدها بألمانيا التي سلختْ وحدها ربع قرن من العمر القصير انتبهت بل أيقنتُ أنّ كلّ ما كتبته من قصائد كانت مجرّد استنساخ بليد لتجارب غيري وخصوصًا من شعراء الصوفيّة ومن شعراء الثورات والقصائد الاحتجاجيّة المُولولة الصمّاء.
والحقيقة أنني لم أحزن كثيرًا على كلّ السّنوات التي صرفتها ببذخ في استنساخ تجارب غيري واقتفاء آثارهم. ذلك أنّ المسألة حُسمتْ حين طرحتُ على نفسي سؤالاً مُربكًا، وطالبتُ نفسي بالإجابة بصدق وبدون تضليل. ويا كم كنتُ أضلّل نفسي وأتعلّق بدُخان الأوهام ! كان سؤالي لنفسي هو: (هل أنت متأكّد أنّك الشاعر؟) وأقصد الشاعر بالألف واللّام، أي ذلك الذي قدّر له الله بمشيئة أن يسعى إلى بيته ويصله ويسكنه إلى الأبد. وكانت الإجابة بداية طريقي.
لست الشاعر
لقد اقتنعتُ ونهائيًّا بأنّني لستُ ذلك الشاعر، وبأنّ كلَّ ما كتبته وما سأكتبه، إنّما هو صدى لكلّ الذين يسكنون ذاكرتي ولساني. واعتكفتُ سنوات لا أكتُب شيئًا تقريبًا واكتفيت بالقراءة وكنت أتلذذ استحضار إحدى القصائد التي كتبتها، لكي أفكّ شفرتها ومناخها وأحلّل كيميائها بصرامة وأعيدها لاسم ورسم صاحبها، وربّما كُنتُ أبالغ أحيانًا، ولكنّني كنتُ في حاجة مُلحّة لأن أسوق لنفسي البراهين الدّامغة التي لا تُدحض، بأنّني لستُ شاعرًا حقيقيًّا طالما في ذاكرتي وكيمياء وعناصر لغتي كلّ هؤلاء الغيلان.
وبدلاً من السكوت نهائيًّا والاكتفاء بقدري كمهاجر يحرث في غابة الخبز، قرّرتُ أن أعود خطوتين وأسلك الطريق الأرحب الذي يناسبني حقًّا والذي يمكنني أن أزعم أنّه طريق خاصّ بي وحدي.
فبدأت بغزل نسيج السّرد، وكتبتُ أوَّل قصّة لي وكان عنوانها: (باريسا ألكسندروفنا) وفوجئت بأنّ الجميع تلقّفها وكأنّها لؤلؤة بكر. والحقيقة أنني أنا أيضًا أعجبت بها ومازلت ألوذ بها وأعيد قراءتها كلّما أحسستُ بوهن في قلمي أو تكاسل أو خمول.
الشيء الملفتُ للنظر أنني حين كتبت هذه القصّة لم أكن أنوي نشرها كقصة، وإنما كنصّ أو لنقل كمقال صحافي عادي، أشارك به في جريدة (بريد الجنوب) التي كانت تصدر بفرنسا ويديرها الصديق صبحي حديدي في بداية التسعينيات وقد حدث وأنه طلب منّي عن طريق الصديق حسّونة المصباحي الذي كان يعيش أيضًا بمدينة ميونيخ أن أكتب له عن الشخوص التي قابلتها في المهجر والتي ارتسمت ملامحها إلى الأبد في ذاكرتي ووجداني.
حين كتبتُ وأرسلتُ المقال الثاني والذي كان عن إحدى المآسي الحقيقية لعائلة تونسية كنتُ أدرس لأبنائها وانتهت بخيانة وانتحار. وكان النص بعنوان (موت بدون وصيّة)، فوجئت برئيس التحرير وهو يهاتفني من باريس ليخبرني أنّ ما كتبته هو أحد أجمل ما كُتب في السرّد التونسي الحديث.
أحسستُ بنشوة وغبطة لا توصف. وتأكّدتُ أنني خُلقتُ لأكون ساردًا وأنّ السّرد طريقي وضالّتي وفيه سأكون وأتحقّق.
تجربتي
تيقنتُ من ذلك، لأنني كنتُ على يقين وللمرة الأولى بأنّ ما كتبته هو ملكي أنا، وتجربتي أنا، ومن ذاكرتي أنا. وأنّ ما أكتبُ قريبٌ فعلاً إلى القلب والرّوح، ويصدّقه الجميع فورًا، حتّى ولو كان نصفه من نسج الخيال ونزق العبارة المارقة. لم أجنح إلى التكلّف والتقعّر في الوصف ولم أبالغ في الاسترداد، ولم أنتقِ كلماتي ولم أتكلّف. كنتُ أحسّني وأنا أكتبُ مثل آلة يابانيّة متطوّرة الإمكانيات، تعدّل وتضئ أكثر وتزّين وتتدخّل في الألوان وتخفي تجاعيدَ أو بُقعًا وتؤطر وتقصّ وتوزّع الخطوط، ولكنّها تنطلق وتحاصر صورة حقيقيّة. هي الأصل والمنبع، وزاد عشقي لشارلي شابلن وعبقرية البساطة النافذة في تشخيصه مع كمّ المرح المذهل، من ترسيخ قناعتي بأنني لم أخلق فقط لكي أكون ساردًا، ولكن لأن أكون ساردًا ساخرًا مَرِحًا تحديدًا. بعد ذلك توالت القصص التي كتبتها وتراكمت بين دفتي أغلفة ورقية، وتحوّل بعضها إلى خطوط رئيسة لرواية وهكذا بدأتُ.
أظنّ أنّ تأثّر الكاتب الشاب بالكتاب الكبار شيء ضروريّ جدًّا في البداية، فهذا هو الطريق الشرعي لكي يكون في أمان، ويمضي صوب تحقيق اسمه وترسيخ رسمه والدّخول في دائرة الضوء حتّى يعتاد على القناعة والإيمان الكامل بأنّه خُلق لكي يكون كاتبًا. أكرّر وأصرّ أنّ ذلك ضروريّ في البداية فقط…
ولكن بعد ذلك، ومــع تجمّع نصوصه والاكتفاء بما نُشر منها، عليه قبل أن يُصدر باكورة أعماله أن يحاصر نفسه ويسائلها بقسوة ويبحث عن المندسين في قلمه وذاكرته وأسلوبه ولغته، وأن يخــرجهم بلطف ويستغلّ كلّ المساحات الفارغة التي تركوها لطلاء نصه بلونه هو وتأثيثه بلغته وقاموسه ومزاجيته هو: متجهّمة كانت أو مرحة… مستفزة أو هادئة، حكيمة أو متهوّرة. المهمّ أن يتأكّد وبصرامة، وبدون تضليل بأنّ ما يكتبه هو خاص به هو ويحمل جيناته ولــيس جيــنات غيره. وحينها فقط، ســيرى معجــزة النّحلة المتفرّدة حتى وهي بيــن القطــيع، وهي تحوّل خام الرّحــيق المــرّ إلى عسلٍ مُصفّى، حلو المذاق، ومشبّع برائحة الزهرة. لكنّه أيضًا خاص به، ومختلط بكيميائه ومــزاجه وعناصره.
* السفير الثقافي
( أديب من تونس )