رسالة الرئيس السرّية

خاص- ثقافات

محيي الدين كانون*

أن تبدأ من نقطة الصفر ، تلك هي دائما البداية المتجددة ، وذلك هو قدر الغريب أيضا ، غربتك أن تنازع أبدا لونك الأسمر  في كوميديا طويلة تعود منها دائما خائبا ، وقد أكد ختم  جبهتك المتغضنة  بخطوط عرضية  حقيقة هجين بشرتك البرنزية  . منذ سنوات الفجيعة التي كابدت المروق منها ، من بذرة وافدة من  مساحات  شاسعة  في القارة السمراء عبر تجارة  القوافل ، حملها أحد التجار الشراكسة البيض  من الشمال ، واستزرعها هنا  في جنوب الصحارى الكبرى  ، فكنت  أنت بأمر الله  كن ؛ مزيج من صبر الكثبان الرملية وأفق البحر البعيد وريح الغابات . وكان عليك أن تدفع  ثمنا باهظا للعيش لمجرد العيش بين ظهرانين كابوس مدينة تدعى (طلانكا) وأخرى تدعى (مغازي) الواقعتان على الخط الساحلى بفاصل ألفي كيلو مترا،  وقد عشت في  الأولى  شرنقة  الطفولة وفيهما معا شرخ الشباب ومقتبل الرجولة ، ثم  رأيت أنه لا مفر من الانفكاك النهائي منهما إلى  أجل غير مسمى ، إلى مدينة  أخرى تدعى (تردام ) فى شمال البحر الكبير ما بعد بحري الأسود والميت  فكانت هي  المدينة الملجأ والبلسم والتكوين  ،  وبهذا يكون قد مرّ عليك نصف قرن-  يا إلهي كم يمرق الزمن و يتسرب  كالماء بين الأصابع ؟! –   وأنت تضطرب بين فساد هاته الأمكنة .

***
ابنتاي*  :

” كرّت أعوام  وأعوام  كحبات السبحة بين أصابع الزمن ، هي كالأمس مرقت ، لا أدري كيف مرقت ، ولا أدرى كيف أصفها لكما …..!

ابنتاى ….. عندما يبلغ والدكم  القمة ، يكون قد بلغ  سفح الحافة في نفس الوقت ، تلك هي لعبة  الزمن المنحدرة من طبيعة الأشياء النهائية التى عرفتها من تبدل الأشياء والأشخاص ، خبرتها بالأصالة عن نفسي ، وأيضا بالأصالة عن الآخرين ، وبالأصالة عن مزيج أرومتي  المضحكة البائسة . الآن أُطلق سراح أغنيتي الحبيسة بين جدران قلبي الأسيان ، وقد  أصبحتما صبيتان مزدهرتين ، بينما صرت أنا  كهلا على عتبات الشيخوخة ، لا أخفيكما أني بدأت أشعر بالوهن ، لقد فطمني الرحيل عنكما في لحظة تمزق  زمني معكم ” تتداخل الأزمنة وانكسارها ” ولم أبرأ منه حتى هذه اللحظة  . كم أشتاق إليكما ، وأشتاق  إلى لحظة  طال انتظارها، لحظة لم تبرحني منذ خمسة وعشرين عاماً  حيث  يحدوني  أمل مصالحة انكسار زمني الخاص ، وإمكانية رأب الصدع بيننا ، أسميها اللحظة الأمدية التى لم تفارقني ، فقد أسكنتني انتظارا إلى  حد الوجع كالمهماز اليومي الداخلي الذي ينوس في صدري … صحيح  إنّي الآن في قمة  الهرم حيث أشرف من  موقعي كأكبر موظف  ليس لأعتى دولة  ديموقراطية عرفها العالم ، بل لدولة تحترم مواطنيها وتجعل من كلماتهم في الشأن العام  قوة  متنفذة ، وحقوقهم الاعتبارية  مكفولة لا يسرقها شيطان واحد  تسلل  من الإنس أو الجن  إلى الجهات التشريعية أوالتنفيذية  . وهأنذا  اليوم من مسافة زمنية بعيدة ، ومن فوق قمة مسئولياتي المكتسبة أحس بنداء الفزعة كحالة صرع  أولى . وفى عتبة الخريف من عمري ، أبدأ معكن ربيع  جديد  ،  وبعد مضى ثلثي عمرى في غربة  لم أخترها ، وحياة   اخترتها مضطراً ،    المهم  دائما البدايات  … أنا  أبدأ الآن معكن والوقت ليس متأخرا ،  المهم  أن  نلحق قطار الزمن معا ، ربما لن تضمنا قاطرة واحدة بعينها  ، ولكن سيسعنا القطار نفسه ، قطار يقفز فوق جسر غربتنا ، ذلك أقصى ما أتمناه  شخصيا أن  يأتني كتعويض لأيام خلت ولفراق طال أمده  .  فقد وقفت نفسي لهذه  اللحظة ، إنها اللحظة  الأبدية  التي لا يعيش مقامها إلا المتصوفة  الذي احترقوا بنار ” الحب . “

* ملحوظة : رسالتى هذه الخاصّة ، مشمّعة  بالأحمر ، ومستودعة ومحفوظة  فى بريد الرئاسة الخاص . لا تنزعجن إن وصلت إليكن بعد مماتي فقد كنت رئيسا لجمهورية  (هانندا ) آنذاك  الدولة  التي  راعت آدميتي  وترشحت لإدارتها ” بتكليفي  رئاستها   .

* أديب  من ليبيا  .
* من روايته / لا  يا سيدي  الرئيس …!

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *