النبوءة الكاذبة

خاص- ثقافات

*محيي الدين كانون

تتهادى  السفينة  ( فوبيا) المتهالكة  إلى ( كوادرينو)  الميناء الجديد بمسافة نحو  ليلة ويوم ،  السكان هنا  يسمونه  الميناء الرابع  . لم يكن على   (فوبيا ) وهي تمخر البحرَ اللجْاج ، أن  تفارق  خط  سير   ساحل  ( أطلانطكا )  الكبير ،  عليْها  أن تمرَّ بمحاذاته وتنحني  على أقاليم  مختلفة على طول شواطئه المنعرجة  .

الرحلة  هنا  أهونُ  بكثير ، وإن  لم  تكن  الأسوأ من الطريق  البري الوعر الذي سلكوه  بعربة  ومقطورة يجرهما  حصانان   أدهمان  بينما كان العذاب المباشر   يَصْب  وحده صبا على رءووس  الزنوج  داخل المقطورة ، بشر تصادف لسوء حظهم  أن   كانت  بشرتهم   سوداء  ومن  أقليم  وقارة مغايرة  في كل شىء ، فكان  وخزهم  عذابا  قاصماً  ،  يضرب  بسياطه  الظهر  ،  ويترك أثره  ندوبا و لسعاتٍ  تكوي صداها المؤلم بما لا يُطاق   خاصةً  بين  كائناتٍ  خلقها  إله  واحدا  متساويين  و أوصاهم  بالحب  ، أن يحب  المرء  لغيره بمثل ما يحب لنفسه  ، و لم يخلق بينهم  بالضرورة غلا ولا  حقدا يفرق بينهم ،  و يستوجب  أن يستطير بما لا يحمد عقباه   ، يشطرهم  نصفين بين خدم  : زلْط الأرض  ، و سادة  فوق رؤوسهم  ريش  نعّام  ، تفريق  بين البشر   وتمييز يجعل من حق الجلاد  أن يدوس بحذائه الثقيل  على   رقبة  ضحاياه  ،  دونما نظر  أو رحمة   .

تبدأ لحظة  تدشين  الزنوجة  كصيد  ثمين   بعد أن  يرسف  الزنجي  المسْكين تحت أغلال القيد ، ويُدفع  به دفْعاً   نحو قبو السفينة  لتدجينه أربعين ليلةً  ويوماً ،  بعدئذ   تتزين  له  العبودية  في مخدعها و تسلس   قيادها لطرفيها  الضحية   والجلاد ، ويبدأ الزمن دورته  في  الاعتياد  على نتوءاتها الحادة   و تنفس أبخرتها   الخانقة  في  اركان السفينة بين ساريتها  وقبوها . تصير مع  التجربة   مثل الجرعات التي تؤخذُ يومياً  رويدا رويدا  أو وجبة  سائغة مهضومة ،   لتصبحُ  فيما بعد من عاديات الأمور  ، نظرة  معتادة خرساء معتمدة بين طرفين  بمثابة  عقد سري بين  جلاد صارم يعرف دوره  ، وضحية مطيعة   تعرف دورها  ، كلاهما  في سفينة   عائمة تطفو كقطعة فلين  تترجرج  بين أمواج  قاسية لا تنتهي مداها وعذابها  ليلا و نهارا ، وبالعدد  سبعة  أشهر عجافاً مرّت  ، وقد  عبرت المئات من الأميال  من ميناء إلى   ميناء  ومن خليج إلى خليج  .

على ظهر السفينة  وهو يتأمل الأُفقِ ، و في داخله العالم يمور  من  حوله ، وكان  هو الرحى  والوتد  ، تمر  تداعيات المكان    بصفحاته  البصرية  المتحركة  بين أقاليم  متنوعة  ومختلفة  بين   امتدادين  أزرقين صافين  بين  السماء  و البحر    ،  استفاق الفتى لنفسه  فحق السادة عليه ألاّ يشْرد  وينحرف  عن الواجب  ، شرع  الفتى ( ماكومندا ) كعادته كل صباح بتنظيف ظهر السفينة  جاثيا  علي  ركبتيه المتعبتين  الجريحتين  ، تنخره  رياح الخريف بصدر  يغطيه قميصُ ممزق   مكشوف ،  ونصف بنطال مهترئٍ   ، تذكر  أنه منذ  أن فارق  قريته ،   وأخذوه عنوةً   من ذراع  حبيبته (سالونيكا ) ، شعر أنه  في حكم المنتهي ، أو أنه  قد أنتهى ، لا يملك من أمر نفسه  شيئاً  ، صار مصيره و دفة حياته   تنحرف  باتجاه  بوصلة  خربة   ، لا يتكهن بها  أبْداً   ، و منذ أن  وجد نفسه مقيدا بسلاسل داخل قبو السفينة  ، تأكد  من كذب  عرّاف القبيلة    الذي  حرّف  رؤيا  كانت   له بصحبة  خطيبته (سالونيكا ) في ( هضبة القنة ) ناحية مدخلها الشرقي حيث شلالات ( تسهاتوو)  الشاهقة ، رؤيا كان  أرتأها وهو يهوى من  على جُرْفٍ هارٍ  ، فسرها العرّاف  بالسؤدد وقطع أملاك  أخرى مضافة إليه ،  بمغامرة  ستتوج  بتاج  الملك  ، وستمدُّ حدود صولجانه  إلى  ممالك  نائية  في أقاليم  البحار العالية   .

لكن مجريات  النُّبُوءة  شىء ،  وتفسيرها شىء  آخر  ، فمن المؤسف منذ  أنْ  انبلجت  هذه النبوءة المشئوومة  في  القرية ، وسمع بها القاصي  والداني  لم  يذق  ( ماكومندا ) طعم النوم  العميق  ، ولا  هناءة العيش الخفيض ، بل بعدها بقليل ،  عرف الموت  وجها  لوجه  ، حقيقة   مواجهة  لا كلمة  تقال  ، وتعايش معه في كل لحظة  نبض   ، في  رحلة  لم تكن  دعوة سياحية  وتشريفية  بالمرّة لأمير  هو سليل ملوك  مملكة ( ماكو موندا )  أو  رحلة  تليق  بعلية القوم  وأثريائهم  حيث   يتلقون  من الترفيه  والرعاية  ما يبهجهم  قبل الصعود  و  بعده    ، لكنها رحلة  لم  يخترها الزنجي وكان  هو صيدها  الثمين  ،  كان  مجرد بضاعة  قد شٌحنت في سفينة  . وقد أطلق عليها بنفسه  منذ  أن  وطأ  عَتبتها  بالرحلة  المنحوسة  ، واتّجاه خريطتها  بمصير يضرب في المجهول  ، ولا تخرج  بالنهاية عن   مقامرة  بالحياة نفسها . شهد أمامه موت زنوج  كثيرين   ، وسمع  الكثير من القصص    ،  ورأي بعض منهم  رؤية  العين  في قريته  ومحيطها   أثناء  اصطيادهم  و حشرهم في مقطورة ضيقة   ، ومن  داخل مقطورة الصيد  عاين بنفسه  زنوجا موتى  منطرحين   فوق الأرض  كالعيدان المتفحمة   أو  كقطعانٍ حيواناتِ  نافقةِ  ملقية  في البراري  الجافة  .

حين  موعد النوم  ، الموعد الأثير لديه  ، وقد  أزداد  وجع ساقه  وتركز كالسم في مفصل الرُّكبة  ، أراد أنْ يمدَّ ساقَه مستحضراً  طيف  حبيبته ( سالونيكا)  ، كما تعوّدَ  دائما  قبيل أن يداهمَه  الوسَنُ    ، ويغزو جفنيه  المتعبتين   لينام على  نجواها  واشراقة  طيفها الساحر   ، لكنه   لم يمهل  وداع  طيْفها  ، ويستسلم  لنوم بأمل  لقائها  فيه    حتى أيقظه   الحارس  النحيف  بعنف ،   ولكزه  بعقب حذائه ،   يأمره  بجلب  عدة الصيد  وغليونه  فوق  ظهر السفينة  .

أخذت الشمس تتوارى وراء الأُفقِ بوهج مستدير متكتل كجمرة مشتعلة ، زاد وجع الفتي ، وتبدّت  آثارُ القيد  على معصميه بارزة كالحرق  أو أثر من مرض  جذام  قديم  . دأب أثناء خلوته أو  حين  يدلهم  الليل ويستجيب  للنعاس ،  عقب  وجبة  من هذا العذاب اليومي  يستشعر أنه هالك لا محاله بين قوم وحوش  ، يتمنى  الموت والخلاص من الحياة ، فلا يبقى  له في هذا العالم  البشع غير الله  الأحد  يناجيه من مكمنه   في  ركن  من قبو السفينة  ، يتلو صلواتٍ مخلوطة  بالدم  والدموع  والأنين  لإله يحسه قريباً منه  دون أن  يعرفه ، فيهمهم  و يتمتم بكلمات  تعويذة  همسا ،  وأحيانا  علواً  أكثر ، تعقبها تنهيدة  طويلة  عندما  يعاوده  من جديد  ألم  الركبة الذي   يسري  ويبعث في  باقي  سائر جسده  كافة  الأوجاع  والآلام  النائمة  .  ومن  شِدّةِ الرّهَقِ  وأثر الحُمَّى  أحيانا  في بعض المساءات يسقط كالثمرة الفجة  في ركنه  التحتي  بجوار أقفاص الحيوانات  ،  وقد  بلغ به التعب والهزال   أقصاه  ،  وكذلك نقص الغذاء  ، وهذه الحُمَّى  الرّعْديدة لا تتركه في حاله ، ولا تنْساه أبْداً ،  تقتاته  من حين إلى آخر  منذ الصيف الماضي ،  تعاوده بحرارة شديدة  يصطك تحتها جسده النحيل ، وترتع   كل أطرافه  مع فقدان الشهية . بات  في الأيام  الأخيرة  كالخشبة الجافة الرمادية  المسندة التي لوحتها شمس  الظهيرة   ، وحولته   بوخزها  منذ مطلع  هذا الخريف  إلى  رمية  ، ضعف عام   على  وشك الأنهيار ،  ومشروع لموت فاتك  يلوح بمديته  الحادة ، و لا يعرف المزاح  أو الانتظار  ، تفاقمت حالته في المدة الأخيرة  ، وصار كالورقة  في الريح حتى بانت ضلوعه  المتيبسة كعيدان  معكوفة ، أما بطنه فصارت عجفاء ضمرت وراء  ظهره ، صار وجهه يطفح ببثور كقشرة ثمرة الأناناس  . فكر قبطان  السفينة أكثر من  مرة  رميه  للحيتان ظنا منه أنها أعراض  مرض معدي ومع  عدم وجود طبيب  مهني  يعالج هزاله وتدهور صحته  فليس من بد التخلص منه.

عندما أشيع  الخبر ، خشى   صاحب الصفقة وتاجرها ،  على مصير صفقته  من انتشار العدوى بين بقية الزنوج ،  فقد هم لهزاله الشديد نزولا  لمقترح القبطان أكثر من مرة  ، لأن يرميه في البحر طعاماً للأسماك  ، ولكن القبطان متردد  حين  يهم  بإصدار الأمر  وتنفيذه  ، يتراجع بسرعة  حالما يتذكر خطاب صديقه  رئيس  الصيادين كرسالة توصية  سلمها  ( ماكومندا ) له ، عند  صعوده فوبيا .   خطاب توصية  لحامله  كأمير مملكة  يتوجب توقيره  ، كسليل أسرة تقف علي رأس قبيلة تحت أقدامها أغنى منطقة في العالم تمور  بمناجم الماس السخية  ، و تعد من  أهم  مصادر ها  النادرة   في العالم  .

عندما ساءت حالته ، وبدأ يتقيأ مخاطا دمويا ،   تمّ عزله   ، وعدم تكليفه بالأعمال الشاقة  فرُفعت عنه  القيود ، وعُني  به  ، سُمح  له  بالراحة  أو أن يموت  وحيدا في قبوهه   ،  محبوه  تناوبوا في   العناية به ، وقاموا بتغذيته قدر المستطاع   .  بدت هذه الجهود تثمر  زهرة العافية  لديه ،  وحين  أحسّ  ( ماكومندا ) بالحيوية   ،  أستأنف  الأعمال الواجبة   عليه  ، ما أكسبه  هذا التفاني في العمل ، وما سمعوه  وخبروه  من سيرته من السؤدد والشرف حتى بات سجانوه وباقي البحَّارة ينادونه بابن الملك أو  الأمير الصغير ، فمكانه بين ظهرانين قبيلته كسليل الجيل الرابع من سلالة الملك ( توكاموندا )هو كسيد مطاع   وأمير  ، له واجب الاحترام والكرامة  لا عبدا  فوق  قطعة  فيلين  تجرجرها  أمواج لا تهدأ و رياح  عاصفة بين ميناء وآخر وخليج وآخر ليباع بثمنه  شوال  طحين أو  بارة  ذهبية  ، فبحسب  اعتقاد  ثقافة الشانتو   لدى قبائل ( توكاموندا )  أن مآل إهانة  ابن ملك  صالح  ، دون موجب  ، ينذر  بخراب  الحياة  فضلا عن قتله  أو  سبيه  أو  بيعه في سوق النخاسة فذلك  علامة  معناها  خراب دول .

بدأ  يتعود  حياة  القيد ، ويستأنس مطلوباتها ، وصار خبيرا بدواعيها  وملماً  بماذا يأمر  السيد على التحديد، بل يعرف علله وحاجاته المتنوعة   . لذلك  أصبح( ماكو موندا ) ذا قبولٍ   وحظوةٍ  عند  السادة القائمين بالسفينة لسرعة  بداهته ، وفهمه وقدرته على فهم  لغتهم  و رطنه بها   بطريقة  أثارت دهشتهم ،  ووفر عليهم  وعليه الكثير من الجهد والعناد ، لإختزاله  سكة السلامة التي يجب أن يسلكها معهم  إلى  الأمام  دون الحاجة  لإجباره  بطرق أبدعوها  بتكسير عظامه  أو سحق  أصابعه بأحذيتهم  الثقيلة  أو غير ذلك من الضربات  المفاجئة الموجعة  النازلة  عليه  سواء  بالمرفق أو  هرواة  بحجم الزند تصطك على كل جانب  من جسده  لتدق عظامه   أو  بكرباج  له  فحيح  أفعى ، شرس يلسع  الظهر والكتفين . ))

يغمز صحن  الشمس الوهاج  برسائله عبر  إشعاعاته  المتدفقة  تغمر  الكون الفسيح رويدا  رويدا و يلامس  مفتول خيوطها  امتدادات  البحر   الساكن ، نهض  ( ماكومندا )   ،  ولكن  في فرح داخلي مشوب  بانتشاءٍ ، كأنه  معجون بحلم جميل  رَآه ليلة  البارحة  داعب أعز أمانيه  بلقاء (سالمونيكا ) قريبا  تحت عريشة ضخمة  بهضبة ( القنة )  قرب الشجرة  المقدسة  في مهرجان كبير أشبه بعيد وفرح  جماعي  كبير ، عرف أن ذلك فأل خير ، اعترته  تنهيدة كبيرة  ، وتحرك بكامل  جسده نحو الدفة  ، وناور بجسده كله نحو  الأفق  بدا له لحظتها و من وراء  سياج الضباب  عن بعد شبح  جزيرة  عائمة  يقترب ، شعر بالفرح ممزوج  بغصة  فضول التأكد ، في البداية  لم  يتبين جلية الأمر  إلا حين راجع ما قاله  البحَّارة بأن المحطة النهائية  لمسيرة (فوبيا)  بعد  ان  يتجاوزوا  أقليم  بؤرة الريح  أولا ،  ثم  جزيرة  الشيطان ثانيا   ، يكون بعدهما  مباشرة  قصاد  الميناء الرابع الجديد ميناء (كوادرينو )    الذي يطل على ساحل الدغل ،  عند نقطة التحام اليابسة بالبحر  . يمتد  منها مجال النظر و تتبدى البسيطة  وتخوم الماء والرمل والدغل  معا  وهناك  تتجسد البرية في فضاء هائل   يتغول ولا حد له  هو الصحراء الكبرى  .

فجأة تعالى اللغط فوق ظهر السفينة تتصاعده  تعابير فرح نزق يمزقه صراخ  وزعيق كل على طريقته ، فرحة النحيف الشرس  بدأت تملي عليه رقصة اللقلاق المضحكة  على ساق واحد. تحامل  ( ماكومندا ) على نفسه قليلا من شده وجع  ركبته  ، وسرت في نفسه فرحة مجنونة حبيسة مصدرها هذا اللغط  الذي  يسمعه أو ظل من  حلم  يتحقق  ربما في  (كوادرينو )  التجمع القادم  حيث يمكن أن يلتقي بًخطيبته (سالونيكا )  بعد  تأكيد صديقه الراحل  (كامرا) أنه رآها  تُساق مع أخريات كصيد ثمين باتجاه ميناء  الشيطان  .

* أديب من ليبيا  .
** من روايته ( لا ..يا سيدي الرئيس ! )

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *