المحرر الثقافي ويده الطليقة

*راسم المدهون

في قلب العلاقة بين الثقافة والصحافة تقع الحرية الفردية التي لا تستقيم دونها، والتي تتأسس عليها حيوية متابعة الصحافة لعوالم الثقافة وأنشطتها وإبداعاتها في الآداب والفنون على اختلافها وتعدد أدوات ووسائل تعبيرها. الحرية الفردية هنا هي مزيج متفاعل ومتنافر بين طلاقة الرؤى النقدية ومرونتها وبين حدقة الناقد أو الصحافي الثقافي الفرد بخياراته ووجهات نظره، بل وحتى بانحيازاته ومزاجيته وفي كثير من الأحيان مصالحه الخاصة والشخصية.

هو إن شئت “التباس” يمتلك غموضه الإيجابي مرّة وغير الإيجابي الضار مرّة أخرى، وهو في الحالتين يعكس نسبية الرأي وزمنيته المرهونة لإيقاع حدثي من خارجه، إذ تتناهبه وقائع من هنا وهناك، فتقرر إما صلاحه وديمومته وإما تبدُده بعد حين. ليست الصحافة الثقافية مساحة لأحكام نقدية نهائية وإن ادعى بعضها ذلك، لكنها فضاء اكتشاف بريق الإبداع ووهجه في عجالات تشير ولا تتعمَق إلا بذلك القدر الذي تحتمله قراءات عجولة أو بالأدق عابرة أو شبه عابرة، ولعل هذه الصفة بالذات ميزة وليست مثلبة.

زامنت الصحافة الثقافية سيرورة الصحافة العربية منذ بداياتها الأولى فاحتفلت بالكتابة الأدبية بالذات على نحو عكس الكثير من قرابة الدم بين الصحافة والثقافة وعبَرت عن هذه القرابة باضطلاع كبار الأدباء والمبدعين بمسؤولية الصفحات الثقافية، لكنّ الحديث عما أطلق عليه “النقد الصحافي” تأخر كثيراً إذ بدأ المصطلح في التداول مطلع ستينيات القرن الماضي مع تلك الكتابات الرشيقة والحيوية التي كان ينشرها في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية الناقد المصري الشاب آنذاك رجاء النقاش، والتي جمعت بين المتابعات اليومية والأسبوعية وبين فكرة تقديم رأي نقدي يحمل انطباعات أولى، ما لبثت أن نضجت كأسلوب جديد بات في عجالاته الصحافية قادراً على سبر نصوص أدبية وإبداعات فنية بزخم أكبر من العمق.

منذ تلك الأيام بات حضور الثقافة في الصحافة العربية دائما ومستقرا، إذ تحرص كل صحيفة على تخصيص صفحة للثقافة تنشر شؤون الثقافة والفن من خلال متابعات نقدية وأخبار وإعلانات عن الإصدارات الجديدة وبعض الحوارات مع المبدعين. هنا بات للمحرر الثقافي في الصحيفة مكانة مميزة أقرب إلى “التسويق” حيث يتمتع بقدرة تقديم مادة ثقافية ما للضوء والتعتيم على مادة أخرى، وهي لعبة وضعته باستمرار في موقع قوة في مواجهة المبدعين وإنتاجهم الإبداعي. هكذا صار مفهوما أن تصبح تلك المساحة المخصصة للثقافة في أية صحيفة واجهة علنية لعلاقات خلفية تنعقد وتؤسس لمجموعات وتحالفات وتؤلف شللا تكرس نشاطها كله لرفع قيمة وأهمية هذا المبدع أو ذاك على حساب الحقيقة والسوية الفنية والموهبة.

في الصفحات الثقافية الصحافية جرت معارك ثقافية لا حصر لها، كثير منها ضالّ ومضلل خدم أهواء وغايات شخصية، والقليل بحثا عن الحقيقة وانتصاراً للإبداع وقضاياه. مع ذلك أسست الصفحات الثقافية في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية تقليدا أدبيا ساد لعقود طويلة، هو أن يعمد المبدعون عموما والشعراء على وجه الخصوص إلى نشر نصوصهم في الصحف والمجلات أولا قبل نشرها بعد ذلك في كتب ومجموعات شعرية، وقد رأى كثر منهم في ذلك اختبارا أوليا يمنحهم فرصة أفضل لانتقاء القصائد أو القصص الأجدر بضمها في كتبهم، خصوصاً حين تحظى تلك القصائد والقصص بنقد عند نشرها في الصحف.

في التجربة الصحافية العربية عاشت الثقافة رغم حضورها الدائم حالة من الاغتراب أساسها أنها تحضر من خلال صحف ومجلات سياسية ليست الثقافة ضمن اهتماماتها الرئيسية ، بل إن الأمر ذاته ينسحب على قراء تلك الصحف الذين يرون فيها وسيلة إعلامية ذات طبيعة إخبارية، وهذا ما يفسر نتائج استفتاءات عديدة أجريت في العقود الماضية، وكانت تشير إلى ندرة قراء الصفحة الثقافية في صحيفتهم المفضلة، ليس بالمقارنة مع قراء الصفحات السياسية وحسب، ولكن حتى بالمقارنة مع صفحات متخصصة أخرى، كما هي الحال مع صفحات الرياضة والمنوعات على سبيل المثال. هي فوارق حالتي الصحافة كفضاء شعبي، والثقافة والإبداع كفعل نخبوي لا يقدر على استقطاب اهتمامات الأغلبية وعزوفها. الصحافة كإطار إعلامي تلتصق بوظيفتها الإخبارية، فيما تتنكب الثقافة عما هو آني وتذهب لرؤية الواقع بحدقة المخيلة.

من هذا التنافر الواضح نشأت فكرة الملاحق الأدبية المتخصصة التي أصدرتها صحف كثيرة توجهت بها إلى النخبة المثقفة من عشاق الأدب والمهتمين بالإبداع عموما. تلك الملاحق أخذت في بدايات ظهور الصحافة العربية شكلا مختلفا، أهمه وأكثره شيوعا إصدار الكتب الأدبية وتوزيعها مع الجريدة وهو تقليد حظي في الماضي بترحيب واهتمام عشاق الأدب والثقافة ومتابعتهم لكنه انحسر بعد ذلك لمصلحة إصدار الملاحق الأدبية التي حقق عدد منها نجاحات كبرى واستقطب اهتمام ومتابعة عشاق الأدب ومتابعيه. يروى أن بعض الصحف كانت توزع في الصيف كتاباً هدية للقراء لأنها ستغيب عنهم، وكانت أغلب كتبها روايات عالمية يترجمها رئيس التحرير ويقوم بـ”تلخيصها”. أما في زمن الملاحق الأدبية فقد جمع بينها كلها أنها إما توقفت بعد أعداد قليلة، أو على الأقل شهد صدورها انقطاعات بسبب أزمات مالية أو بسبب عدم اقتناع ناشري الصحيفة بأهمية الملحق أو الحاجة إليه.

 سلطة المحرر الثقافي

أبرز ما يمكن الإشارة إليه من ملاحظات على الصفحات الثقافية العربية أنها تظل أسيرة رؤى المحرر الثقافي الذي تختاره رئاسة التحرير من الشعراء أو كتاب الأدب عموما، فيأتي ومعه نظره الخاص والشخصي للأدب، ما يؤثر سلبا على تعامله مع إبداعات من يحملون رؤى وقناعات مغايرة. لا يحتمل المحرر الثقافي العربي – غالبا – فكرة الاختلاف ولا يسمح بها رغم أنه يردد لفظيا في العلن عكس ذلك. الخلاف مع المحرر الثقافي باهظ لأي مبدع، فهو يستطيع أن يمنع النشر، بل إن كثراً من المحررين يعمدون إلى حفظ مقالات غيرهم في الأدراج وتأخير نشرها إلى توقيت غير مناسب أبداً. يحدث أن يكتب أحدنا مقالة تحمل رأياً في كتاب ما فينتبه المحرر إلى الكتاب وضرورة أن يكتب عنه، ويصبح بعدها في حلّ من نشر مقالتنا لأن “تقاليده” الصحافية لا تسمح بنشر أكثر من مقالة عن كتاب واحد، واللعبة ذاتها يكررها حين يجد لديه الرغبة في تفضيل النشر لكاتب آخر. هي لعبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى وهي تحدث وتتكرر ويراها الجميع طبيعية وعادية بسبب أن الصحافة العربية لم تنجح إلى اليوم في ترسيخ تقاليد مهنية كما هو حال الصحافة في بلدان أخرى.

الأمر كله يتحول إلى فضيحة حين تتعلق الكتابة بمن يمسكون مفاصل العمل الثقافي: الكتابة هنا ليست مجانية، فكيل المديح لمشرف على مهرجان يمتلك قرارات الدعوات والاستضافة أمر مألوف وشائع حتى أنك تجد المدعوين للمهرجانات والمناسبات الثقافية هم ذاتهم حتى وإن اختلفت أماكن انعقادها. هؤلاء ما أن يصدر قرار إعفائهم من مسؤولية الصفحة التي يديرون من خلالها شبكة علاقاتهم حتى تجدهم يلوذون بعزلتهم لا يرون أحدا، وبالطبع لا يدعوهم أحد إلى مناسبة ثقافية أو مهرجان شعري أو سينمائي، وهم من كانوا إلى وقت قريب ملء السمع والبصر ويشار إليهم بالبنان ويختالون كالطواويس.

 بيوت جديدة

في احتدام هذه الفوضى جاء عصف الصحافة الإلكترونية ليأخذ الصحافة، ومنها الثقافية إلى ضفاف أخرى ليست مختلفة كلياً، ولكنها أكثر انفتاحا ويمتلك فضاؤها اتساعا غير مسبوق في تعدده وقدرته على تلبية الاحتجاجات الفردية وما تحمله من رغبات وأفكار تضمر بدورها مشاريع ورؤى غنية ومزدهرة وأكثر مرونة في التفاعل مع أحلام أدبية تنتمي إلى الحداثة بحيوية، وتعيش في الوقت نفسه في مساحة خارج أسر الجغرافيا بالمعنيين المكاني أولاً، ثم ضغط المؤسسات الصحافية الورقية وبيروقراطيتها ثانياً. هو بالتأكيد عالم آخر يتفاعل مع ولع الإبداع بطلاقته وجموح حركته بل وانتباهاته نحو الأجمل من دون عوائق واشتراطات لا تحصى تعيشها الصحافة الورقية. هو زمن اللامكان حيث تجتمع وتتأسس مواقع وصحف إلكترونية تتفاعل فيها إبداعات وآراء نقدية تسمح باستشراف عوالم معاصرة أكثر. صحيح أن خطر الهيمنة الذي عانت منه ولا تزال الصفحات الثقافية الورقية سيظل حاضرا في الفضاء الإلكتروني لكن بمرونة واتساع يسمح بحرية أكبر ويفتح باباً غير مسبوق أمام خيارات لا نهائية، خصوصا للإبداعات الجديدة بكل ما يمكن أن تقترحه اجتهادات في المجالين الفكري والجمالي.

هو فضاء لا تتسع له أغلبية الصفحات الثقافية الورقية التي تميل لأسباب كثيرة نحو “المحافظة” بما هي انضباط للمألوف، المكرر والرتيب. مملكة المحرر الثقافي في الصحافة الإلكترونية تنتمي لشروط أكثر حيوية، بل حتى أكثر ديمقراطية وانفتاحا على الآخر الذي هو شريك حقيقي وليس مجرَد زائر عابر يكتفي بالنشر من حين لآخر.

______
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *