أعلنت عليك الحُبَّ

خاص- ثقافات

*محيي الدين كانون

في هذا الصباح  المشعشع  بجدائل الشمس   الدافئة  حيث يلوذ  المكان  بخاصرة الصمت والهدوء   ، يتجلى  الطقس في كامل  انسيابه  و رونقه ،  بينما العصافير  جذلى  بنفسها  وبما  أتاحه لها  المكان  من روعة  الإشراق ، صادحة ومغردة  في  أرجاء حديقة  القصر .

تناولت ( مهاتن ) إفطارها  في غرفتها  كالعادة  .  و حين تسربت  سوالف الشمس الذهبية  بين خَلَل ستائر غرفتها  ، طرأت لها أن  تتناول  قهوتها  الصباحية  في   حنية   الشرفة  الشرقية ،  في إطلالتها  ستسمح   للدفء  التام  أن  يتسلل لكيانها المرضوض ،  وتسعد ناظريها  بأمواج ضوء  الربيع  يداعب  برفق  زهرات الحديقة   و ورودها   . أخبرت ( وهيبة )  على عجل  بجلب  قهوتها  هناك ، و جلست على كرسيها الهزاز  في انتظارها ، تتأمل  السيد الربيع  الساجي   في المساحات الخضراء ،  والمستلقي  أمام  عينيها  فوق بساط  أخضر  ثري  و قشيب    . كل شيء هنا رائق  و ذو رونق   ، ممتع ، و يغري   بالمزاح الطروب  .  رغم    دبيب  صداع    متبقي  من ليلة  البارحة يدق رأسها   ترده  إلى عدم  نومها  جيداً   .

لمّا أخذت الرشّفة الثانية  من فنجانها وهي  ترسل لحظها الناعم  في أرجاء الحديقة متئكة  على الكرسي الهزاز   .  شعرت بالارتخاء  التام   يسحبها إلى الأرض  ، فأسبلت  جفنيها كمحارتين  في كسل  لذيذ ،  وراحت تحلم  ثوان  وثوان  . وحين   استفاقت  ، فجأة ، من  أثر نعاس  ماكر  داهمها  ، سحبت   ذراعيها من تحت رأسها  بسرعة  ، و أرسلت سهام  ناظريها باتجاه  الزاوية  من الحديقة ، حيثُ  أرتد عليها بصرها مرتبكا  ، وارتجف كيانها ما استدعاها أن تنادي  بصوت   أجشٍّ  على ( وهيبة  ) .

قفزت  سيدة القصر و تركت الكرسي  يكمل دورته الإهتزازية ،  وبعينين نهمتين مأخوذتين   تمسحان  المجال البؤري و ترقبان الركن القصي  من  الحديقة  مشيرة   بالسبابة لوهيبة  الواقفة   إلى  مكان نزل الضيوف  وتقول بدهشة مستنكرة    :

–   من هناك  جوار ركن الضيافة  ؟!

أجابت  ( وهيبة )مسرعةً  لمعرفتها بمزاجها الصباحي  السييء ، وكأنها  تريد أن تنزع فتيل غضب شرس قادم   قبل ان يستفحل  مزمجراً  :

– إنه المهندس  ممدوح بصحبة  سعيد المنسي

بذكر أسم ( ممدوح ) علت  أساريرها مساحة  من  إشعاع  رحب  نادرا  ما يلحق  وجهها القمري  ،  ما   شجع  ( وهيبة  ) أن  تسرسل  في الموضوع  بعد أن  أمّنت   غضب سيدة القصر ،    فأضافت بوجه  يبث  ابتسامة  خجولة  ،   بتذكيرها  لطلبها   القديم  الملح على  حضور المهندس (ممدوح )  وامتثاله أمام حضرتها  ،  وها هو جاءها هذا الصباح  ؛   فقد ذهب  سعيد المنسي  إليه الأسبوع الفائت ،   نزولا  على  طلبها  ،   ويبدو أنه  وعده بالمجيء  لتفقد حال البستنة  في القصر حالما ينجز أعمال طلبها  منه  السيد ( الباشميل )قبيل  سفره .

نهضت (مهاتن ) لا تلوي على شىء ، كمن وخزها  دبوس  ، تخبيء إحساسا  غامضا ، واتجهت  مسرعة إلى الردهة الداخلية  دون  أن تلتفتَ  ورائها  ، وهى تصرخ  بصوت عالٍ   :

– من يظن نفسه ؟!  ولماذا لا  أعلم ؟!

تلحقها  اسفنجة الصدمات  (وهيبة ) ساخرة هذه المرة ، وزادت احتشادا وقوة ضد تعنت  سيدة القصر  ودلالها فقالت  بنغمة  تأكيد هادئة  :

– لا يظنُ  نفسه شيئا ، ولن يظنَ ، ولمْ يسىءْ ، ولنْ يسىءَ  لأحدٍ  فهو مأمور  فقط .

قالت  ( وهيبة ) ذلك ضاحكةً ،  فلا أحَدُ  أقدر منها على معرفة  مخابيء (مهاتن )  ومفتاح صندوقها السري . وبصوت استرد هدؤه  ورونقه قالت سيدة القصر من بُعْدٍ :

– استدعيه هنا في الاستقبال !

دخلت لغرفتها مسرعةً  في آخر المدخل الغربي ، كانت تغمغمُ كلبوةٍ جريحةٍ دونما سبب ظاهر  ، و بصوت يكاد يكون كلاما ،  وما  أن أوصدت  باب غرفتها  خلفها حتي كان هناك طرقاً  خفيفا بالباب الخارجي الكبير المواري قليلا  ، أسرعت ( وهيبة ) ناحيته بخطوات مسرعةٍ ، وافسحت لفرجة الباب  الأبنوسي الثقيل  مزيدا من الاتساع مع  انفراج بسمتها المترعة بالطيبة  ،مرحبة  بسعيد  الماثل أمامها ، العريض القصير القامة   وبصحبته المهندس ( ممدوح  )الطويل القامة  . سعيد المنسي  دائما  يناديها أُمَّه منذُ أنْ فرّكَ عينيهِ على الدُّنيا ، هو ابنُها الذي سهرت عليه  الليالي  ، لا ينازعُها فيه أحدٌ ،  بل باعتراف ( مهاتن ) نفسها ،  وتنازلها عليه علناً وأمام الشهود ،  صحيح  أن ( وهيبة )  لم تكابد حمله تسعة  أشهر  ، لكنها هي التي رعته من مولده  كداية و حاضنة  ، سقته من ينبوع  حنان  صافٍ ، وما زالت به حتي ترعرع  وشَبّ  عن الطوق  إلى أن أستوى  حد النضج ، وقد أستوى   شابا وسيما في ألق الحياة يقارع هموم الحُبِّ  والمستقبل  في المرحلة الجامعية .

في صالة الاستقبال الكبيرة ، يرحب  سعيد المنسي بضيفه الذي كان منبهرا بتفصيلات الصالة من طنافس ، وبسط  مرقشة ، ولوحات نادرة ، و ثريات معلقة  باذخة  ، محاطة بستائر من القطيف الهندي  ، صالة ٌ هندستها  يد فنان  كمحارة كبيرة  تضم  جوهرتين بين الذوق الشرقي الحالم  وحنينه للدفء والوصال   وبين الذوق الغربي المترفع  الدقيق والتحام  الأناقة فيه  بالوظيفة ،  و بصوت يقطر وداً وحماسةً  قال  سعيد  :

–  نرحب بك ….يا سيد ( ممدوح ) وسؤالي عن  سحر ؟!

ابتسم  (ممدوح  )بدماثة  ، ورد بهدوء عذب في صوت رخيم  :

–  عادة لا أراها  في اليوم  الواحد إلا لدقائق عدا يوم الجمعة .

ثم  أضاف  بحياء  مستدركا  حين لاحظ إمارات الابتئاس  والدهشة ترتسم على وجه مضيفه  :

–  سحر هى برعايتك في الجامعة …وأنا من يسألك   عنها !

ارتبك (سعيد المنسي ) ، و لم يدر بما  يردُّ ،   سرح بعيدا في حلم ألفِ ليلةٍ  وليلةٍ ،  بمثل ما توحي به  هذه الصالة  من  خيال وجزالة وحلم  ودفء   قال في نفسه ، لو أنة في السنة الأخيرة لطلب يد (سحر) في الحال . فقد فهم الغمزة الأخيرة من  ( ممدوح ) أخيها الأكبر  بمعنى  القبول والتوافق  … وهمس في داخله ، لابُدَّ أنها كانت تحدثه عن لقاءاتهما المتكررة  في  رحاب  الجامعة .

أحياناً  في دقائق  معدودة ، قد  تُبرم الكثير من  الحلول العصية   ، الضروري المضغوط يبيح المحظور أحياناً ، حين عرفت (مهاتن )مقدمهما و ضيافتهما في الصالة  ، وتأكدت من طرق ( ممدوح  ) لبابها ، علمت ان الرسالة قد  وصلت وما ينغصها الا  وجود سعيد المنسي الذي سيقيدها في تجاذب الحديث  ، فطلبت من (وهيبة ) أن تعتذر  وتؤجل  زيارته  للجمعة القادمة ، لكن (وهيبة ) أقترحت أن ذلك يضيع  الوقت  ، ولا ينجز  شيئا ، وبالتالي سيصْعب  استحضار البشر تلقائيا  ،  وخاصة  أن  المهندس  يشرف على عدد من مزارع    السيد الباشميل في شرق المدينة وغربها ما يصعب على الخيل المطهمة  ان تقطع  واحدة منها  في يوم واحدٍ ،    رأت  ( مهاتن ) وجاهة  هذا النظر  فقالت بلغة حاسمة قاطعة :

–  عليك إذن  بإشغال  المنسي  بهذا الأمر أو ذاك… ساعة  زمان فقط  .

نهض ( ممدوح ) واقفا  بطوله الأهاب في استقبالها ، سيدة جريئة واثقة  من نفسها  ، تحتشد جمال الأنوثة  الناضجة  ودلالها ، تعرف ماذا  تريد تحديدا  ، قادرة على النظر في بؤبؤ عيني محدثها مباشرة دون أن تسبل جفنها ،  فيربك الطرف الآخر ، ويجعلها مهيمنة فيما تقوله ، وعلى من تقوله . أحست أن الانطباع الأول الذي  التقطته  من مجرد النظر  إليه عن بعد  قد تبخر  ، هذا  الممدوح الماثل  أمامها ليس ذاك ، إنه مغاير ومختلف بامتياز ، الواقعي أقوى من الانطباعي ، وسيم ، قامة عالية ، وصوت ذهبي هاديء  دبلوماسي  بامتياز  ، لا يتكلم  من قوسي شفتيه بل من غور قلبٍ  يزأر  ، شعرت سيدة القصر بارتباك للمرة الثانية حين خانها الانطباع الاولي في تقدير عمره  ، ظنته في  صورة مخيلتها  أصغر من الواقع بكثير ، شعرت ما كانت تريده منه قد تهدم حين احترق ما نسجته ورسمته من خيوط وملامح بعيدة عن الواقع ، لكن في صمته ورجولته  وأدبه وزئيرة الموجوع  أحست بجاذبية غامضة نحوه لم تتحدد بعد ، سلطاويتها قد تراجعت  وانطمست في حياء جريح ، يظهر في  تواري تلك نظرة   البؤبؤية  المسلطة على كاهل محدثها ، انكسر سهم عينيها ،  وتقلصت تعبيرات الهجوم  وحل محلها عجز جميل مسالم .

سيطر صمت طويل  بينهما ، كان يجب  أن يبدأ  الحديث  فهو الطارق ولكنها استدركت من كلام  (وهيبة ) ، أنه جاء هذا الصباح  نزولا لطلبها فهزت رأسها للخلف قليلا تنير وجها القمري ابتسامة عذبة ، موجهة الحديث إليه  بصوت هاديء خجول مستعطف  :

–  بعثُ  في إثرك لحاجتي في زرع مجموعة  من  شجر عطري  ذات زهر جميل ومختلف اللون  ؟!
راقته الفكرة وقال بصوت عذب  وبعينين دهشتين حاضنتين  :
– لطالما حلمت بهذه  الصورة في العدد والتلوين  في بيتي .

انبلجت اساريرها فرحةً  وهي ترقبه بعينين واسعتين   :
–  ما تعمله هنا هو لبيتك أيضا  .

– لا ….. العفو ، البيت  لأهلة .

شعر من خطابها الرقيق دون رسميات ، أنها تكسر حاجز الجليد  ، وبهذه الأنوثة  الأسطورية    عليه  أن  يقاوم  الغواية  الباذخةِ ، ومايزال  عطرها  المجنون  يسحره  و ينتشل باقي عقله نحو الحدائق المعلقة  ، تذكر  في اللحظة  ان  (سعيد المنسي ) استأذنه لشأن من شئوونه ، ثم اهتدى انه الدهاء الأنثوي حين يعمل ، وحين يتصرف ، لابُدَّ انها تمهد   لطلب اقصاء (سحر) من طريق ( سعيد)  ، لا  تكافؤ بين بنات الفلاحين والأمراء  ،  الجمرة التي كانت تلسعه كل ليلة  ، وتقلق نومه  في المدة الأخيرة ، حين تحدثه  صغيرته عن مشاعر  ( سعيد ) الجياشة نحوها  ،  وقد اسثوتقت عمقها وضراوتها  ، لم يشأ  أن  يلوي عنق عواطف الجيل  التلقائية ، كان يرى الحُبِّ تجربة  بيولوجية إما أن يعيش ويتنفس  ويصير من الكائنات الخالدة أو يموت ويتوارى عن القلب  تحت التراب  في حكم  الكائنات الفانية  . لاحظت (منهاتن )انشغاله  سابحا  بين أمواج لا تهدأ ،   ولا  يركن  ليفصح  و يكاشف   ،  وبتدخل  أنثوي  قالت :
– اشتقت إليها ؟!
بذكاء منه لامع :
– مشغول عليها وليس لي غيرها ؟!
– من تكون ؟!
– سحر ؟!
– زوجتك ؟!
تنهد وابتسم بهدوء …
–  إنها أختي وصغيرتي الحلوة  !
ابتسمت (منهاتن ) وسيطرت على انفعالها بسؤاله :
– هل لك غيرها ؟!
– ليس لي إلا  الله  وسحر …
بقدر ما تأكد (ممدوح) أن دعوتها له ليس بشأن (سحر) ،  وأنما لشيء ما يزال خبيء يحسه ، ولكن لا يصل إليه  ، مثل العطر الحبيس في أردان  وردةٍ ، لا بد  أن  ينتظر لحظة  تفتقه .  وبقدر سروره ، أن الموضوع لا علاقة له بقلبي سحر وسعيد ، فالوقت متسع لئن يعيشا الحُبِّ كائن ما يكون ريثما  ينمو ويصقل روحيهما ويستوي وينضج على نار الأيام  الهادئة  إما أن يبقى الحُبِّ  ويخلد  أو يموت ويدفن . هكذا هي الحياة  .

دخلت  وهيبة للصالة منشرحة ولتحدثها  بشأن  صديقة زائرة(  ابتهال ) ،  هي بانتظارها  الآن  ، ردت  سيدة القصر بغضب لأنها مشغولة ، الآن ، وعلي الضيف  ان تنتظر في الصالة الأخري ، وأمرتها بسحب عربة الضيافة ، باتجاه الباب .

نهض  ( ممدوح ) طالباً  الإذن بالخروج  في أدب جمِّ ،  وهمّ معتذرا لموعد لديه  الآن وقد نسيه  شاكراً الضيافة والشرف النبيل وحس الذوق المتميز  ما زاد (مهاتن ) سرورا ورضا أخذ يشع من جديد في ملامح وجهها القمري وسألت بصوت متكسر فيه استعطاف هاديء يبرق من عينين يجوسان  ترقباً :
– متى يمكن أن تبدأ بالعطريات ؟!
– سأرتب للموضوع  و ساعة كافية من يومين كل أسبوع .
– ولماذا ساعتين فقط  كل أسبوع ؟!
–  لا تتطلب وقتاً ، هناك أعباء  كلفني بها السيد (الباشميل ) …
تركت  له الكورة في ميدانه وبغير  أن تلتفت إليه  ، خرجت  وهي  تودعه   منادية  علي  (وهيبة )  بمرافقة  الضيف  اتجاه  الباب .

*  أديب من ليبيا .
**  فصل من  روايته ( لا يا سيدي الرئيس )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *