“لقاء”… حوارٌ بين 14 شاعرا من العالم

خاص- ثقافات

*عثمان بوطسان

إن ’’لقاء’’ إصدار شعري جماعي يفتح جسر الحوار والتداخل الثقافي بين شعراء من مختلف بلدان العالم. ويلفت هذا الكتاب النظر إلى إلتزام الشعراء بمنطق الحرية في الحوار والرفض التام للحدود الثقافية واللغوية التي تقف عائقا أمام التبادل الثقافي والحوار الإنساني. فالعالم يجمع حضارات مختلفة ومتعددة، تتعدد معها اللغات والثقافات، ونظرا لاختلاف هذه الحضارات، فإن التصادم بينها حتمي ولا مفر منه. إن الكتاب يذهب إلى توضيح فكرة، مفادها أن اللغة والثقافة ليست عائقا إن كانت الإنسانية هي اللغة التي يبحث عنها الجميع. لذلك فالكتابة هي الفضاء الأمثل للحوار والإبداع الحر المتطلع إلى كسر كل الطابوهات. كما يهدف هذا الديوان إلى التأكيد على مسألة أن الشعر يمكنه أن يقوم بدور الوساطة ويجمع بين الثقافات عبر القارات. وبهذا فإن الشعر فضاء كل التصورات ونقطة اللقاء بين كل الثقافات. فلا لغة تعلو على لغة الشعر الإنساني المتشبع بقيم الاختلاف والحوار مع الآخر، الذي هو بالأساس مرآة الذات وانعكاسها. إن ’’ لقاء’’ ديوان جماعي يتجاوز كل الحدود ويخلق عالما جديدا، حيث الشعر هي اللغة الأولى والأخيرة في حوار الثقافات.
ويجمع هذا الديوان مجموعة من الشعراء الكبار من المغرب وفرنسا وإسبانيا وبلجيكا، من أبرزهم نجيب بنداوود، عبد اللطيف البحيري، عبد الرحمان فتحي، علي لحريشي، محمد حشوم، سعاد الوليدي، بشرى الموعلي، نجية عبد الدايم، نسرين ابن العربي، محمد الروجي، أسية بن عثمان، أنة هريرة، غايطان بريسي وعثمان بوطسان.


وعليه، تعتبر سعاد الوليدي من الشاعرات المتميزات، حيث تتميز نصوصها بالسلاسة واستعمال لغة قريبة من الوسط المعاش. لكنها، وبالمقابل، لغة تعكس نفسية الشاعرة وإحساسها بالوجود. فنصوصها الشعرية يغلب عليها الطابع الذاتي الوجودي المتأرجح بين الفوضى والوهم والعبث، إذ نجد أن أغلب قصائدها عبارة عن خطاب موجه للآخر، لأن الشاعرة تتحول من حالة التمركز على الذات إلى حالة التواصل مع الآخر عبر خطاب مباشر يحمل في طياته مجموعة من الرسائل. وهكذا لم تنفصل التجربة الشعرية عند سعاد الوليدي عن تجربتها الذاتية، وظلت مرآة للحياة والأحاسيس التي جعلت منها الشاعرة مادة للإبداع والابتداع.
كما تعتبر نسرين ابن العربي من الشاعرات المغربيات المعاصرات. وهي شاعرة تكتب بالإسبانية وتتخذ من الشعر فرصة للقاء والتوحد مع العالم. إنها شاعرة تجعل من الشعر سببا للحوار والتواصل والتأمل في الطبيعة، محاولة بذلك فهم ماهية الوجود والعلاقة التي تربطها بالآخرين؛ سواء كانوا شعراء أو أفرادا من العامة. ومن هنا فإن قصائدها دائما ما تميل إلى التغني بالذات في صمتها وغيابها وحضورها. وهكذا يقارب شعرها بين واقعين أحدهما معاش والآخر متخيل. وإلى جانب ذلك كله، يمتاز شعرها باللمسات التناغمية، التي دائما ما تتميز في اختيار المفردات الحاملة لتناغم موسيقي داخلي، ما يجعل من قصائدها قصائد في متناول القارئ، بعيدا عن أسلوب التصنع في الكتابة.
وفيما يتعلق بنجية عبد الدايم، التي تعد من الشاعرات المغربيات الأكثر حركية في المشهد الشعري والثقافي المغربي. حيث إنها شاعرة تكتب بالفرنسية والإسبانية والعربية، وتجعل من الحكي فنا تواصليا ينطلق من الذات في محاولة للتواصل مع الآخر. فتجربتها الشعرية تحولت من الإبداع إلى الاهتمام بالأنشطة الأدبية والثقافية، إذ وهبت وقتها لتنظيم مجموعة من اللقاءات الشعرية المتميزة. وتتميز قصائد نجية عبد الدايم بمساحات واسعة للبوح الذاتي، كما نجد تنوعا أسلوبيا واضحا في نصوصها، غالبا ما يميل هذا التــــنوع في الكتابة إلى البساطة.
ومن جهة أخرى، تقف الشاعرة أسية بن عثمان وقفات جمالية دقيقة، تحس معها أن الأمل نابع من نبض الكلمات، كما ينبع الجمال من فيض الأحاسيس المرهفة، حيث يلمس القارئ حرارة التعبير الحر النابع من مخيلة شاعرة تستهويها الطبيعة، حتى أصبحت القصيدة لوحةً فنية يجتمع فيها الملموس والمجرد؛ ذلك أن شعر أسية بن عثمان تعبير صادق عن الأمل ومفاهيمه، ويتمثل ذلك في تخير النعوت والأوصاف المناسبة لكل مشهد من مشاهد تحرر الشاعرة التي تصورها لنا في نصوصها.
فالشعر يحمل ألوان الحلم والتيه والورد المتمرد على صفحات بيضاء كبياض الروح والذاكرة. شعرٌ ينبع من وجدان شاعرة اعتمدت البساطة في التصور، لِتَخيطَ للقارئ قصائد تميل إلى فلسفةِ طبيعية للحياة والكون. ويظهر ذلك من خلال الارتباط الوثيق بالعالم الخارجي، الذي تحاول الشاعرة نقله إلينا عبر وادٍ من الكلمات المفعمة بالحياة.
وعلى غرارها، يعتبر عبد الرحمن فتحي من الكتاب المعاصرين المغاربة القلائل الذين يكتبون بالإسبانية، حيث تتنوع أشكاله الأدبية بين الشعر والنثر والمسرح والنقد. هذا التنوع الأدبي يجعل من نصوص الكاتب وجهة للقراء المهتمين باللغة الإسبانية، لكن الأهم في كتابات عبد الرحمن فتحي، تركيزه على جدلية الصمت والغياب في الكتابة. فالصمت يتجاوز البعد السطحي للكلمة، ليشمل الحياة والروح والجسد. كما أن الغياب في نصوص عبد الرحمن فتحي، لحظة تعاش فتتحول إلى نَفَسِ النص وروحه. ومن ثمة فهو يخلق فضاء شعريا أدبيا عن طريق البحث عن الذات والآخر في بصمات الصمت العبثية وظلمات الغياب اللا متناهية. إن الشعر، لغة الصمت، والغياب صوت «الأنا» في حالة التيه والضياع. حُلمٌ يُحول خالق القصيدة من حالة البحث عن الذات إلى حالةٍ فوضوية شبيهة بالجنون. وهنا يحاول الشاعر ترجمة الإحساس بالفراغ، وعبثية الحياة بالصمت، وصراع الوجود والعدم بالغياب.
أما بشرى الموعلي، فهي شاعرة اللحظات العابرة والوحدة البيضاء، التي عادة ما تنعكس في مرآة كل العناصر الطبيعية من رمل وريح وأمواج تختفي فجأة في صور استعارية تكشف وجها آخر لشخصها. فالشاعرة تعبر عن كل ما يدور في خاطرها باستخدام الاستعارة، وابتكار صور شعرية ذات طابع رمزي تختلط فيها الأسطورة بالتجربة الذاتية، لتكون لنا حقلا من الحلم أشبه بمقطوعات فيفالدي.
ومن هنا فإن الشاعرة تقدم لنا العلاقة التي تربطها بالآخر استعاريا، من خلال عمليات خلق لوحات شعرية مستوحات من الأسطورة، للتعبير عن مشاعر وجدانية وعاطفية. وهذه الصور تقربنا من تجربة شخصية تمر بها أو مرت بها الشاعرة في فترة الحب وما بعده، نسجت خيوطها من استعارات مبتكرة؛ كالتشبه بملكة الرمل، أو الكمان، أو الفراش الذي يحترق حبا على إيقاع شمع عاشق. وهكذا تسافر في كل لحظة ألف مرة، وتجعل من الطبيعة التافهة سببا للتأمل والحياة. كما تتميز بإحساسها العميق بالأشياء والعالم، الذي يحيط بها.
أما نجيب بنداوود، فهو شاعر، لا ينفك يجعل من جسد المرأة لوحة فنية تندمج فيها كل مشاعر الإنسانية، من فرح وألم ومعاناة وطول انتظار. إذ يكتب بالفرنسية، حيث لا شيء يعلو فوق جمالية الحس المرهف والدقة في التصوير الشعري.
فقصائد بنداوود ذات الطابع الحر، تميل إلى الجانب الرومانسي، حيث يكشف لنا الشاعر عمق العلاقة الوجدانية التي تربطه بالمرأة في كل تجلياتها. ولعل ديوان «حنان» من النصوص التي دفعت العديد من القراء إلى اكتشاف الفضاء الشعري، حيث القصيدة فرصة اللقاء بين الشاعر العاشق وحبيبته البعيدة هنا وهناك. ومن ثمة، فهو لا يبحث عن الكمال في الكتابة، بقدر ما يعتبر الكتابة تعبيرا عن إنسانيته ووجوده المتجذر في كيانه وعقله وفي العلاقة التي تربطه بالآخر. إن تجربة الشاعر الأكاديمية والسيكولوجية تظهر بكل جلاء في وصفه لجسد المرأة، ومحاولة تحريره عن طريق التمرد على قانون التقاليد والعرف. أي أنه يجعل من حبه بحثا عن الجمال، ومحاولة لقاء الذات عند نقطة اللقاء بين الجنسين ’’الذكر والأنثى’’.
في مقابل هذا، فإن عبد اللطيف البحيري، من الشعراء الذين تتعدد كتاباتهم بتعدد أشكال القصيدة وألوانها. شاعر يجعل من حسه الوجودي نقطة اللقاء بين كل العوالم الخارجية. له العديد من المؤلفات ينسجم فيها الخيال مع التجربة الواقعية. وحسب الناقد نقوس المهدي، فشعر عبد اللطيف البحيري لوحة تُظهر لنا التفاعل والانسجام بين الشاعر والوجود والتماهي بين الحلم والواقع لخلق عالم فاضل، يوغل بالقصيدة إلى أعمق أعماق الروح الإنسانية، مستلهما مكنونات ومكونات الطبيعة والمشكلات الوجودية المتشابكة في حالة من التوافق الروحي والتأمل الرصين وصدق السريرة وصحة العقيدة ” الدوكسا”. والإحساس الصوفي العميق الذي يحيل على الصفاء الروحي العرفاني في أبهى تجلياته.
كما تُعتبر أنا هريرة (شاعرة إسبانية) من الشاعرات الأكثر حركية في المشهد الأدبي الإسباني. تَكتب بالإسبانية وترجمت من الفرنسية إلى الإسبانية مجموعة من الأعمال الأدبية، خاصة في صنف الشعر. وبالتالي فهي شاعرة مفعمة بالحس، جعلت من الكتابة الشعرية وسيلة للحوار والتبادل الثقافي. وهكذا نجد أن قصائدها تحمل ألوانا مختلفة عادة ما تتخذ الطابع الوجودي المزخرف بألوان الرومانسية والحنين والغربة. فجل نصوصا تعبير عن لحظات وجودية معينة تتخذ طابع البوح أو التحرر.
أما الشاعر علي لحريشي، فمن الشعراء المبدعين الذين جعلوا من اللغة الفرنسية فرصة للإبداع الشعري. صدر له مجموعة من المؤلفات في صنف الرواية والشعر. شاعر يرفض التقليد، إذ نجد أن معظم نصوصه حداثية من حيث اللغة والشكل. فشعر علي لحريشي، شعر إنساني يستمد قوته من التجربة المعاشة بعيدا عن التصنع في الإبداع و الكتابة. وعليه فإن الطابع الإنساني يضيف رونقا خاصا لقصائده التي تعرف إقبالا كبيرا لدى القراء المتتبعين له، وخاصة أن الشاعر يحاول دمج كتاباته بالقضايا المعاصرة التي تعتبر جزءا مهما من حياته.
فيما يعد محمد حشوم، من الشعراء المميزين في الساحة الأدبية المغربية. وقد صدر له مجموعة من الدواوين الشعرية وشارك في العديد من الأعمال الشعرية العالمية. وهو من الشعراء ملتزمين، إذ نجده دائما في مقدمة الشعراء المغاربة المدافعين عن القضايا الإنسانية. إنه يكتب بالفرنسية والعربية، لكن يتخذ من اللغة الفرنسية فضاء للإبداع وطرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية المرتبطة أساسا بوجوده وعلاقته بالغير. كما أنه من الشعراء الذين يرفعون دائما علم الحوار والسلام والانفتاح على الثقافات الأخرى.
أما محمد الروجي، فهو شاعر مغربي مقيم بفرنسا، له العديد من الإصدارات الشعرية. لذا يمكن أن نقول عنه إنه شاعر صامت، لكن إبداعه يثير ضجة كبيرة. فقصائده تتخذ الطابع الحر، أي أن الشاعر متحرر من كل الأشكال التقليدية والموضوعاتية. فنجده دائم البحث عن أفق جديد للكتابة حيث الجانب الشخصي عادة ما يكون مرتكز الكتابة والقصيدة. إن نصوص محمد الروجي تحمل ألوانا مختلفة وذلك باختلاف المواضيع وأساليب الكتابة. لكن يبقى الجانب العاطفي النفسي هو المسيطر في أغلب نصوصه.
وأخيرا فإن الشاعر البلجيكي غايطان بريسي، يعتبر من الشعراء المعروفين في الوسط الشعري البلجيكي والفرنسي والمغربي. ولا أدل على ذلك من كونه شاعر يجعل من اللغة الفرنسية لغة العشق والبوح ومحاولة محاورة الذات في أبعادها الوجودية والمتخيلة. وتعتبر قصائده من النصوص المخلدة للحب وأزمة الفراغ في العلاقات الإنسانية. نصوص تستمد جدورها من التجربة العاطفية المعاشة ومن اختلاف الثقافات والأمكنة التي اصطدم بها الشاعر مرارا وتكرارا. وفي الواقع، له العديد من المؤلفات والإصدارات الفردية والجماعية، خاصة بفرنسا. وبالتالي يعد من الشعراء الأوائل الذين رحبوا بفكرة المشاركة في ديوان ’’ لقاء’’ كتعبير منه عن ضرورة هذا الإصدار لفتح جسر الحوار بين الثقافات والبلدان.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *