*هالة صلاح الدين
إن كتاب المختارات الشعرية “تحية لمانديلاً: نيلسون مانديلا في الشعر” (2006) الصادر لتكريم مانديلاً (1918-2013) في عيد ميلاده الثامن والثمانين ليس مجرد قصائد تحتفي برجل واحد، وإنما قصة مترامية محبوكة على مدار ثلاثين عاماً على لسان شعراء من بلاد العالم كافة، تصف بعين الفنان صراع الإنسان في سبيل العدالة والإخاء، صراع قلما ينخرط فيه السياسيون. يشمل الشعراء سياسيين سابقين وفناني راب وشعراء يتقنون الفنون الأدائية، بل وطفل في الثانية عشرة. يتتبعون مساراً فخوراً استهله مانديلاً كمدافع صلب عن الحق حتى أواخر أيامه وهو “عجوز جليل” ينطق بالحكمة.
ما كان مصيره واضحاً كل الوضوح على الدوام.
ولكنه ألفى سبيله بدون ذرة من خوف.
كانت أحلامه هي أحلامي وأحلامك.
*هيكتور ماوونجا، ناميبيا.
يتفرد الديوان كمثال نادر تختلط فيه الصور البلاغية بالوقائع التاريخية، ويطرح سؤالاً: كيف يمكن أن يسرد الشعراء التاريخ؟ وأبرع جوانب هذا الكتاب سطوعاً هو كونه مختارات نابعة، رأساً، من معاصريها، يمْكن استغلالها في يبصر الجيل الحالي بمعركة أفريقيا مع التفرقة العنصرية على نحو لا يضجرهم، كما هو الحال في التاريخ المكتوب. إنها مسيرة شكلت العالَم أجمع، لا دولة واحدة.
ما هو إلا يوم آخر في الحياة
يا قلب أفريقيا،
لا أطيق انتظاراً حتى أبصرك من بعيد
لقد حملتَ الدرع
لا لتوجه لوماً، وإنما لتتفهم
اختبرتك الأيام ووضعتَ ثقتك
أن في يوم من الأيام
وفي وقت من الأوقات
سوف يعي الرجال.
نشتاق إلى سماع هذه الكلمات من جديد
السلام، التواضع، الوحدة والمصالحة
بين رجال أفريقيا العظماء.
* بروسي نانيومبي، أوغندا
قصص كونية
وهكذا يقص علينا ناشط جنوب أفريقيا دينيس بروتوس والشاعر البريطاني روبرت ديدريك وكاتب جنوب أفريقيا جيريمي كرونين ظروفا غاية في القسوة وكدحا لا يطيقه بشر عاشه مانديلا مسلوب الحرية – لا الإرادة – في السجن. كما يُبَصِّرنا شاعر جنوب أفريقيا أرثر نورتجي بدينامكية السياسة إبان حكم البيض لجنوب أفريقيا، بينما يتدبر شاعر جنوب أفريقيا فازل جوهينيس كيف أسهم الإرهاب والعنف في إشعال مناخ التعصب.
ويصور السياسي كارل نيهاوس وشاعر جزيرة بربادوس كامو براثويت الملابسات الاجتماعية والاضطهاد الذي عاشته الأغلبية الأفريقية.
كلها قصص تمس بصورة أو بأخرى مناضل جنوب أفريقيا الأوحد، وإن تراوحت سياسياً واجتماعياً وعالمياً لتسلك سبلاً شتى. يكتب شاعر جنوب أفريقيا بونجوموسا ديريك، “بفضلك يمكن للرجل الأسود أن يسير في الشارع بحرية. بفضلك بمقدور الطفل الأسود أن ينال التعليم نفسه الذي يناله الطفل الأبيض. لقد وضعتَ جنوب أفريقيا وبقية أفريقيا على خريطة العالم. حسبوا أنك ستخرج من سجن “روبين” واهن القوى، لكنك خرجت أقوى وأقوى.”
وفي سياق مسيرة مانديلاً يصف شاعر جنوب أفريقيا أوزولد ماتشالي تأثير القضاء على الهوية القبلية على بلاده التي كانت تجاهد من أجل مزج الفئات الاجتماعيّة دون تمييز على حين يسلط الكاتب الأمريكي مايكل سميث وشاعر جنوب أفريقيا بيتر هورن الضوء على الأبعاد العالمية لكفاح مانديلا ويسبغان عليها سياقاً، يفسران أيضاً كيف تطور هذا الصراع القومي ليصير حملة كونية تنحاز إلى الضعفاء – مقاومة أغلبية مطحونة لأقلية لا ترى فيها إلا السواد.
لعل أجمل قصائد الكتاب هي تلك التي تشدد على تفرد مانديلاً كإنسان لا كسياسي، بوصفه رمزاً متفرداً يكابد جوهر الصراع، على المنابر، وفي السجون؛ قبل السجن وبعده؛ وحتى آخر أيامه. فقد عاينت هذه القصائد حال دولة أورثها مانديلا لشباب الجيل، بكل معضلاتها وإخفاقاتها وإن تبدت دولة مختلفة الآن تمام الاختلاف عن تلك التي سلبته حريته.
إرث عالم
تسطع كل هذه الأفكار في إطار شعري تتعدد حبكاته وتقنياته، وكل واحدة منها تتحدى وتُشَرِّح العنصرية كما شهدها مانديلاً في مستهل شبابه، والعنصرية التي سحقها في عقر دارها، وتلك الواهية المتخلفة حتى الآن في وطنه الأم.
وهكذا فيما تنحني هذه المختارات تكريماً مستحقَّاً لمانديلاً نفسه، تشتمل على المزيد: إنها نافذة شعرية تطل على تاريخ جنوب أفريقيا منذ مستهل العقد السابع من القرن العشرين وحتى الوقت الحالي، تنير إرثاً عرَّف دولة وعالماً، لا رجل بمفرده.
لقد سجنوا صقراً في قفص مترع بالقسوة
ومع ذلك اقتاتت الحمامة على الوحدة، وبزغت
طرحتَ السلطة جانباً لتصير موسى
وبرقَّة أظهرتَ لنا الحق
مانديلا، مانديلا، لقد احتجنا إليك
لِم لم يدركوا من كنتَ؟
* جيه ركينار، برمودا
سنوات روبين
استلهم شعراء القصائد الأولى أبياتهم من سنوات السجن الطويلة في جزيرة روبين.
من بين أولى القصائد قصيدة “وأشاهدها في مانديلاً” (1974) بقلم شاعر جنوب أفريقيا جون ماتشيكيزا، وقد خطها في أحلك أيام مانديلا. “لقد كنا في انتظار هذه اللحظة طيلة حياتنا.
ذلك كل ما يسعني قوله. طيلة حياتنا،” هكذا عبَّر ماتشيكيزا عن لحظة خروج نيلسون مانديلا من السجن.
لا من أجل أمن يكتنف الصمت
فتح هذا الرجل ذراعيه للقيادة.
تتعلق قوة كلماته في الهواء
كما تظل قوة عينيه فوق السماء؛
تمر سنوات الانتظار نافذ الصبر
بينما يتحرق هذا الرجل ليبدد عن الهواء الدخان.
ثمة نار تنشب هنا،
ولا سجن بمقدوره
أن يخمدها في هذا الرجل؛
وأشاهدها في مانديلا.
إرثنا الأبدي
ويوم تحرر المناضل من أسره في فبراير 1990، كتب شاعر جنوب أفريقيا كريس مان في قصيدة “مُروَّض” (1992):
تبزغ إلى المِنَصّة،
قصياً كما الإله، كما الرمز المقدَّس،
تَرفع ذراعيك، فنرسل هديراً
في اهتياج يشي بالافتتان.
لم يغض محرر الكتاب، الناقد ريتشارد بارتليت، النظر عن قصائد تنتقد رجلاً ينظر إليه الكثيرون نظرتهم إلى بطل. من بينها قصيدة لأحد مؤيدي سياسة التمييز العنصري، يبث سمومه تجاه الرجل قائلاً إنه “نال ما استحقه” بيد أن أغلب القصائد تجري حواراً حميماً مع مانديلاً نفسه. يتخيل الشاعر النيجيري جيكوو إكيمي في قصيدته “عندما يرحل مانديلا” (2004) الحياة بعد رحيل أيقونة هيمنت على تاريخ جنوب أفريقيا لِما يربو على نصف قرن:
عندما ترحل إليها أيها الجندي المختار في كفاح الأحلام
لن تحجب دموعنا رحلتك العائدة إلى الوطن.
عندما ترحل يا مانديلا سوف يصبح نبلك إرثَنا الأبدي
وسوف تستمر في حبّك، هذه الأرض التي تحبها من كل قلبك،
سوف نتتبع المسيرة الطويلة المهيبة
وسوف تصير مسيرتك الشجاعة صليبنا وراعينا.
حصى الطريق
ويخاطب دامياو فاز دالميدا، رئيس وزراء جمهورية ساوتومي وبرنسيب الديمقراطي، مانديلاً في قصيدته “قصيدة إلى الريح الجنوبية” (1987) مستلهماً حياته وتجربته:
ويحذو الرجال حذو خطواتهم
يحصون في صبر حصى الطريق
طريق طويلة تُغَلِّف
فيها روح التمرد
شأنها شأن نور التألق الملهم
تتعالى ضد القَدَر الباهت
المفروض على عَلَمك المشوَّه
منذ أغلق السجان باب السجن في وجه أشهر سجناء الإنسانية خاض الشعراء المعركة – لا للدعوة إلى حرية فرد، وإنما حرية شعب برمته، عِرق بالكامل، إنسانية تلطخت بدنس العنصرية.
يضم كتاب “تحية لمانديلاً: نيلسون مانديلا في الشعر” قرابة 100 قصيدة خطَّها كُتاب من 25 دولة.
وهكذا أصبحت أقلام أجيال من الشعراء – من بينهم الشاعر الأيرلندي شيموس هيني والنيجيري وول سوينكا – أسلحة سياسية بدون التضحية بملكاتهم الشعرية وقدرتهم على رسم الأحلام، “كلي الوجود كضوء الشمس، صلب كما الصخرة، مرن كعود القصب” (إيفا ماتيو، أسبانيا).
ومن خلال إيماءات من الإبداع المفعم بالعاطفة تتوالى قصائد تعكس تأثير مانديلا الساحق وتُبرز عاطفة نبعت منه وتحتفي بتراث مكافحي العنصرية، لكي تُسجل بحس الفنان كيف بات مانديلا أيقونة من أيقونات الغبن العنصري – وكذلك تجسيداً للأمل والحياة.
______
*(العرب) اللندنية