أميركا.. تخيلوا العالم من دونها


مرح البقاعي

“أميركا.. تخيلوا العالم من دونها” الكتاب الذي يغزو المكتبات الأميركية بلا منازع، من أبرز الإصدارات في صيف 2014 وما زال يتصدر قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة.

فمن هو مؤلف الكتاب، وما سر جاذبية ما أورده بين دفتي مؤلفه الذي صدر عن دار رغنيري للنشر في 340 صفحة من القطع المتوسط؟

مؤلف الكتاب هو الأميركي من أصل هندي دينيش ديسوزا، هو باحث أكاديمي وكاتب شهير، شغل مناصب علمية وفكرية عديدة، من أهمها رئيس جامعة كينغ في مدينة نيويورك، وكان قد شغل سابقا في البيت الأبيض منصب محلل سياسي للسياسات المحلية، وهو مؤلف العديد من الكتب المهمة نذكر منها “ما هو أعظم ما في المسيحية؟” و”الحياة بعد الموت”، و”جذور الغضب عند أوباما”.

أما في كتابه هذا فيحاول ديسوزا طرح أسئلة محورية عن طبيعة التركيبة السياسية والاجتماعية للولايات المتحدة بين مؤيد لها ومناوئ.
يمضي الكاتب بالنبش في عمق ضمير المجتمع الأميركي، ويتساءل: هل أميركا هي مصدر للاعتزاز والفخر كما يراها أغلب مواطنيها منذ زمن طويل، أم هي سبب للشعور بالخزي كما يزعم “الليبراليون الأميركيون”؟ وماذا يختفي وراء هذه الواجهة ومظاهر البراءة الخارجية للحياة اليومية الأميركية؟

هل تعتبر هذه اليوميات مجرد محصلة من التواطؤ والقمع والجريمة على شكل مشروع وطني، أم إن أميركا ستبقى الأمل وصورة المستقبل المشرق لهذا العالم، ولعقود طوال؟

هوليوود والسياسات الأميركية
يرى ديسوزا أن هذه الأسئلة لم تعد مجرد تمارين أكاديمية أو مضمارا بحثيا للدارسين في مراكز البحوث وحسب، بل هي نظرة “الليبراليين الأميركيين” والزاوية التي يرون منها الحياة الأميركية والتي يلقنونها لطلاب المدارس ويصنعونها أفلاما سينمائية في هوليوود، وهي في النهاية التي ترسم الخطوط العريضة لسياسات إدارة أوباما التي يقودها من مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض.

يقول ديسوزا: إذا كانت أميركا هي نموذج عالمي لتعميم ممارسات الظلم وغياب المساواة والاحتكار فإن هذه القوة العظمى يجب أن تتقلص بصورة أو بأخرى، وأن يُحد من غلوائها، وإذا كانت السياسات العامة الأميركية تقوم على آليات من القهر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتغييب العدالة فإنه من واجب الحكومة الفدرالية أن تقوم بالإصلاحات اللازمة للتخلص من هذه الحالة.

ديسوزا المهاجر الهندي إلى أميركا والمواطن الأميركي الفخور ببلده المختار ومواطنته فيه يشعر بالخوف الشديد على مستقبل البلاد التي اختارها مكانا للعيش بعد مغادرته بلده الأم الهند.

ويرى ديسوزا -الذي يتفانى في حبه وإيمانه بموطنه الجديد- أنه يجب احتواء الحجج والمبررات التي يلجأ إليها الليبراليون، والأفكار المعادية لحضارة الولايات المتحدة التي يطرحونها بالأدوات والمصطلحات نفسها التي يستعملونها، فالاحتمال أن تتحول أميركا من منارة للحريات في العالم إلى صورة نقيضة تماما لها إنما هي مجرد أضغاث أحلام يعمل على ترويجها الليبراليون في الداخل الأميركي وفي العالم.

هل سُرقت أميركا؟

يتقدم ديسوزا في كتابه بدفاع عاطفي ووجداني عميق معزز بالمنطق والدلائل من أجل أن يدحض كل الاتهامات التي يأتي بها الليبراليون الأميركيون من أجل التقليل من شأن الحضارة الأميركية ودورها في نشر مبادئ الحقوق الإنسانية والعدالة الاجتماعية ونموذج الديمقراطية وحكم الشعب في العالم.

ويثير ديسوزا أسئلة محورية في الضمير الجمعي الأميركي ما زالت إجاباتها يشوبها بعض الغموص.

يطرح الكتاب إشكالية النظرية التي سادت عبر العصور منذ نشوء أميركا أو ما يدعوها ديسوزا “الأسطورة الخبيثة” والتي مفادها أن المستعمرين البريطانيين سرقوا أميركا من أصحاب الأرض الحقيقيين وهم الهنود الحمر، وفي مقاربة موازية يطرح الكاتب قضية سرقة الجنوب الغربي للبلاد من مكسيكو، وهذه المرة على يد المستعمرين والجنود الأميركيين.

ويتابع الكتاب في سرد طبيعة التركيبة الاجتماعية والسياسية الأميركية التي تسمح بحياة متقدمة قابلة للازدهار للمهاجرين إلى الأرض الأميركية في موجات الهجرات التي لا تنقطع طلبا للفرص والعيش الرغيد والآمن.

يقول ديسوزا: أليس علينا أن نتساءل لماذا وكيف تتغير حياة “العبيد” الذين تم استقدامهم إلى أميركا للعمل في الحقول وفي خدمة الرجل الأبيض وتتطور في أميركا نحو الأفضل والأرقى، وحيث هذا هو الحال أيضا بالنسبة لأغلب المهاجرين إلى الأرض الجديدة وقد حظوا بفرص عالية ونادرة في التعليم والعمل وأسسوا حياة مستقرة ومرفهة تناقض الحياة التي كانوا يعيشونها في بلد مولدهم.

معضلة إدارة الليبراليين

يسرد ديسوزا عددا من الإجابات المفتاحية عن هذه الأسئلة، فالمؤسسات الأميركية تسعى إلى مكافأة كل عمل منتج وجاد، وتؤمن الحوافز لصاحبه من أجل أن يتابع صعودا في سلم الإنتاج والتطوير لمشروعه بما يتجاوز ما يناله العمل نفسه في عديد من دول العالم، كما أن الفضائل والقيم التقليدية الأميركية تمكن عوامل الاستمرار والازدهار والنماء بينما الليبراليون الذين يثيرون الجدل والزوابع بشأن قضايا التحرر والعدالة يعملون بالوقت ذاته على تقويضها.

لا يغفل ديسوزا عن دور الديماغوجية الليبرالية في الولايات المتحدة، ومن خلال مداولاتها لشعار “غياب المساواة”، ودورها في مد سلطة الحكومة الموسعة وبسط سيطرتها على جيوب دافعي الضرائب. وهنا يعود للتساؤل: لماذا على الأميركيين أن يتنبهوا ويعوا مغبة جدول أعمال الليبراليين للإصلاح السياسي الذي هو في واقع الأمر أجندة متكاملة للسيطرة الشمولية للدولة على الفرد؟ ولماذا لم يفت الأوان عن وقف الخيار الذي يحاولون فرضه والمتمثل في سيطرة الحكومة على تفاصيل الحياة بخلاف الثقافة الجمعية الأميركية التي هي خيار فردي أولا؟

الأسئلة أعلاه مجتمعة هي لب معضلة الفكر الليبرالي الذي تدير رحاه إدارة أوباما منذ وصول الأخير إلى الحكم، ومما لا ريب فيه أن دينيش ديسوزا يحاول الإجابة عن تلك الأسئلة مرة باستفزازية لافتة في التحليل، ومرات في استنتاجات وخلاصات متفوقة، مما يجعل من كتاب “أميركا” منتوجا فكريا جدليا في المجتمع الأميركي سيبقى محورا للمماحكات والجدل السياسي بين المحافظين والليبراليين لفترة لن تكون قصيرة.

– الجزيرة نت

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *