التحديث الدلاليّ في تركيبة ( كلّما ) في : الأشجار لا تغادر أعشاشها

خاص- ثقافات

*حامد عبدالحسين حميدي

تعدّ الدلالة الايحائية نقطة تمحور حيث نستطيع من خلالها الولوج الى العالم الذي تضج فيه تلك التخيلات المتراكمة فينا ، إنها دلالة الشجرة التي اخذت حيزا مكانيا في نصوص الشاعر الدكتور” سعد ياسين يوسف ” حتى طغت عليه سمة وصفة متلاصقة ، لأنه استطاع بما يمتلكه من قدرة في تطويع المفردة هذه ان يأخذها الى ابعد مما نتخيله او نتصوره .. فالشجرة هي الجذر الحقيقي للحياة والنماء الطبيعي الذي ابدع به الخالق جل وعلا ، فهي النشأة الاولى وأغصان الامومة  المتدلية ..( الاشجار لا تغادر اعشاشها ) ( 1 ) عنونة حملت نفي المغادرة والترك لزمنية الحاضر والمستقبل في عدم انسلاخ الاشجار من واقعها المتجذّر لتكويناتها الطيبوغرافية .
لو اردنا ان نطرح تساؤلا : لماذا تمسك الشاعر بمفردة الشجرة ؟ والتي غلبت على عنونة مجموعاته الشعرية وقصائده النثرية .. اذ/ عدت قصائده ذات مسحة ظليّة لما بين السعادة والشقاء والفرح والحزن ، بين الامل وفقدانه وبين التمسك وانفلاته .. الشجرة لدى الشاعر ليست تكوينا شكلياً ترك انطباعاً في العين المجردة ، كما يتوهّمه البعض من خلال قراءة مجموعته الشعرية هذه ، انما هي مداخلات روحية مكثفة  تغصّ في عمق الذات الانسانية الضاجّة منذ بدء الخليقة ، الشجرة لديه : ( احلام وأمنيات وطن ، حقول عُمْرٍ ،  مخاطب وغائبية حبيبة ، شجرة الخسارة والتوسل ، انها القدّاس التي انبتت اشجار شموع ، بل شجرة وحدة الأبواب ، انها الصباح والمرآة ولوعة غصن مكسور ، والعبور وما تبقى ، وصورة لشجرة الدوران …. ) لقد تعامل معها بالإدراك الذي اعطاها ثقلا بعدوياً متمركزاً على وفق انساق ومنظور تقنيات الدلالة .
مال الشاعر الى تفعيل وتحديث اداة الشرط غير الجازمة ( كلما ) وهي اداة دالة على التكرار :    ( ظرف يفيد التكرار ، ولا يأتي مكررا في جملة واحدة مطلقا. وتعرب ( كل ) ظرفا منصويا بالفتحة متعلقا بجوابه دائما ، و ( ما ) مصدرية زمانية . وهي مع ما بعدها مؤولة بمصدر في مجل جر بالإضافة . ويشترط في شرط ( كلما ) وجوابها ان يكونا ماضيين ، … ) ( 2 ) الشاعر الدكتور ”  سعد ياسين يوسف ”  اكسبها تحديثاً لغويا باعثاً في بثّ طاقات متتالية في فعل الشرط مرة وجوابه ثانية ، مما يمنحنا رؤية تجسيدية أخرى مغايرة لما وضعت عليه القاعدة النحوية المعتادة :
كلما غاب قمر المسرة
وهاجمتنا اسراب الغضون
ركضنا في حقول المرآيا
خجلا من الضوء … ص8
فنجد التدرّجات الفعلية بعد اداة الشرط : ( غاب ، هاجمتنا ، ركضنا ) وكأنه يسوق الينا جملتي شرط متتالية بارتباط سببيّ ( اي عبارة الجواب مسببة عن عبارة الشرط ولازمة لها ) من خلال وجود العطف بالواو : ( كلما غاب قمر المسرة ركضنا أو كلما هاجمتنا اسراب الغضون ركضنا .. ) ، وبذا ترك للقارئ حرية التمعّن في التركيب اللغوي .
وقوله :
غير انها كلما سقطت من عليائها
شجرة
وارتفع غبار الارض من تحتها
وارتج رأسها بإسفلت
مخالب الظلام
وفاح منها عطر الدم
والأمنيات الوئيدة
لفت اغصان امومتها
على الاعشاش … ص 10
انه التكرار التتابعي ( سقطت ، ارتفع ، ارتج ، فاح ، لفّت ) لما احدثته الاداة من وقع تناسقي انتظامي ، والتكوين الاصلي للجملة هي : كلما سقطت …. لفّت اغصان امومتها .. فهل ما بين التركيبين مجرد حشو لفظي تركيبي ؟ لا اعتقد ذلك . كون ان الشاعر دقيق في استخدام الاداة اذ يحاول ان يسوق مع ما بعد فعل الشرط غير الجازم تحديثاً لما يأتي بعده .
وقوله :
وكلما الشمس صحت من نومها
تثاءبت ..
غلّقت الابواب
…………
واستبقت خطاه
وأطلقت صرختها الذهب
تزاحمت في الباب … ص 21
هنا نقف على تركيب مغاير للقاعدة النحوية ( كلما الشمس صحت … ) اذ تلاها باسم معرفة ( الشمس ) بدل الفعل الماضي ( صحت ) وهو تحديث آخر استطاع الشاعر ان يزجّه ويسوقه الينا ، وذا دليل على طواعية اللغة على قبولية التحديث الدلالي للجملة العربية ، تقول الدكتورة سناء حميد البياتي : ( وما دام التعليق في اسلوب الشرط يعتمد على ( حدث الحدوث ) وذلك يكمن في البنا الفعلي كما ذكرنا سابقا ، فليس ثمة ما يتعارض مع فكرة التعليق اذا تقدم الفاعل على الفعل ، فسواء أقلت : اذا اكرمت الكريم ملكته أو قلت : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته فالتعليق سليم … ) ( 3 ) .
وقوله :
كلما ..
اعشوشبت الارض
تعانقت اذرع الاشجار
عزفت لحن اساورها
وداعبت اليمامات ……. ص 57
نلاحظ الافعال الواردة بعد اداة الشرط كلما : ( اعشوشبت ، تعانقت ، عزفت ، داعبت ) هنا تحديث دلالي لجواب الشرط يحتمل اكثر من وجه : كلما اعشوشبت الارض تعانقت / كلما اعشوشبت الارض عزفت /  كلما اعشوشبت الارض داعبت .. )
وقوله :
كلما اينعت سنة
قطفتك عشر من نباح
قطعت رئتيك
وألقتها على شجر شتى … ص 69
ويستمر التدرّج بعد الاداة ( كلما ) بـ : ( اينعت ، قطفتك ، قطعت ، وألقتها ) وهو ايضاً تدرج لجواب الشرط .
وقوله :
كلما نُودِي باسمه
يا يحيى …
نزّ من رأسه دم
وارتفعت فرشاته
تبحث عن دمها الابيض
بين دماء الالوان . ص 110
هنا ورد فعل الشرط بعد الاداة فعلا ماضيا مبنيا للمجهول ، وهو جَرْيٌ على غير ما نصّت عليه القاعدة النحوية التي غلبت ان الفعل يردّ فعلا مبينا للمعلوم لا للمجهول ، وبذا استطاع الشاعر ان يحدّث النمط الدلالي في تركيب ( كلما )  ، لاعتبارات ان اللغة العربية لغة حيّة متجدّدة غير قابلة للسكون او الانكفاء ، اللغة شجرة ، و( شجرة اللغة ) تورق بنمائها وجمالية مفرداتها وتراكيبها ، وإنّ قصيدة النثر تسعى الى هذه المفهومة وعلى وفق انساق حداثوية ، والبحث في عمق اللغة عن ابتكار ما يدعم المعنى ، ويعطيه اكثر زخماً  وضغطاً دلاليا ً ، وذا بحدّ ذاته يتيح لنا قراءة جديدة في متابعة النصّ النثري ، ومتابعته عن كثبٍ لأنه وُلِد من رحم لغةٍ لم تعرف إلا الحداثة .
………………………………………………………………………………………………………….
المصادر :
( 1 ) الاشجار لا تغادر اعشاشها ، د. سعد ياسين يوسف ، دار الرّوسم للصحافة والنشر والتوزيع ، بغداد . ط 1 سنة 2016 .
( 2 ) انظر المعجم الوافي في النحو والصرف والإعراب ، ج 2 الدكتور أميل بديع يعقوب / المؤسسة الحديثة للكتاب – طرابلس / لبنان .ط 1 سنة 2011 .  ص 230.
( 3 ) انظر قواعد النحو العربي ، في ضوء نظرية النظم ، الدكتورة سناء حميد البياتي / دار وائل للنشر والتوزيع ، عمان – الاردن . ط 1 سنة 2003 . ص 367.

_______
*ناقد عراقي

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *