المتغيرات الجيواستراتيجية وضرورة التجديد الحضاري

*د. المصطفى المعتصم

مقدمة:
يعيش العالم أزمة خانقة ناتجة عن أزمة النيوليبرالية وعولمتها البئيسة التي عولمت الفقر والحروب. وقد لا نجازف بالقول إننا إزاء منظومة مفلسة ومنهارة قيميا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا تحاول مقاومة انهيارها بشتى الوسائل وعلى رأسها نشر الفوضى والتوحش في العالم عبر إشعال الفتن والحروب في مختلف بقاعه لإشباع جشع شركاتها عبر القارية وأوليغارشياتها التي سعت إلى الهيمنة على خيرات الشعوب وطاقاتها (خاصة في دول الجنوب) عبر وضع اليد على كل ما ينتج الثروة من خامات و يد عاملة رخيصة ومصادرة لسيادة الدولة القطرية وضرب أدوارها الاجتماعية وتحويلها (أي الدولة) إلى مجرد آلة قمعية تحمي مصالح الأوليغارشيات المحلية الفاسدة المرتبطة الأوليغارشيات واللولبيات العالمية وأصحاب الشركات عبر قارية و «وول ستريت».
1. تحديات تحاصر المشروع النهضوي العربي:
في أجواء التحولات الجيواستراتيجية وانعكاساتها الراهنة والمستقبلية على الوطن العربي داخليا وفي علاقته بالمحيط الإقليمي والدولي يطرح سؤال ما العمل وما هو الدور الذي نروم ونسعى للعبه في عالم المستقبل. هل سنبقى دول وشعوب خاضعة وخانعة تعيش التبعية والتخلف أو سنكون دولا وشعوبا صانعة للحضارة وتحتل المكانة اللائقة بها في النظام العالمي المنتظر بما لها من إمكانيات اقتصادية وطاقات بشرية لا ينضب معينها وجزء منها يغذي اليوم في «الدياسبورا» شرايين البحث العلمي ومجالات الاستثمار الاقتصادي؟! .
فإذا كان خيارنا كدول وشعوب أن نكون شهودا وصناع حضارة إنسانية وعولمة أكثر عدلا وإنصافا، بحكم ما نمتلكه من رأسمال حضاري وتاريخي فسيكون لزاما علينا الجواب عن أسئلة التجديد الحضاري والوفاء بالتزاماتها٠
إن الحضارة الإنسانية تواجه اليوم معضلات معقدة من أخطرها سعي مكون حضاري (الغرب) إلى محاولة إلغاء المكونات الحضارية العالمية الأخرى ولم يتردد منظرو النيوليبرالية والنظام العالمي الوحيد القطبية بالدعوة والترويج لصراع الحضارات (هانتينجتون): الحضارة الغربية (الأخيار) ضد الحضارة الإسلامية والبوذية والكنفوشيوسية (الأشرار) أي ضد الحضارات القائمة في ساحات الصراع على النفوذ والمصالح في إفريقيا والمشرق العربي وفي الأوراسيا وغرب المحيط الهادي٠
وللأسف الشديد وفي زمن حضارة الصوت والصورة زمن التطور المذهل في مجالات الاتصال والتواصل كان من الممكن توظيف هذا التطور المذهل لتشجيع التفاعل والتعايش والتلاقح الحضاري لكن جرى العكس ولعب الإعلام الكذاب الأفاك دوره في تأجيج الصراع الحضاري ونشر فكر الكراهية والتطرف والشمولية خدمة للاستعمار والصهيونية والرجعية.
أزمة النظام العالمي النيوليبرالي وعولمته المتوحشة ليست فقط اقتصادية ناتجة عن جشع نخبها وشركاتها عبر القارية بل هي أزمة النموذج الحضاري الغربي الذي يبدو اليوم أنه في مأزق ووصل إلى أقصى مداه بعد مسار شاق وطويل حمل للبشرية إنجازات عبقرية وتحولات سحرية لم تكن تخطر على البال، وفي المقابل حمل أيضا الكثير من الجراح خاصة على مستوى محيط الغرب باعتبار أن النموذج قام منذ البداية على فصل حاسم فيما بين المركز والمحيط أو بين الداخل الغربي والخارج في حركة امتدادية تميزت بكثير من العدوان وسوء الفهم والرغبة في استدخال المحيط لمزيد من بناء المركز نفسه. مما لا شك فيه أن الحضارة لا تقبل الفراغ وحينما تصل لحالة من التيه في اللامعنى والإغراق في التجريد ربما تكون قد دخلت مرحلة الشيخوخة فهل ذلك ما عبر عنه الفيلسوف الأمريكي فوكوياما حينما تحدث عن نهاية التاريخ؟. في الواقع أن التاريخ لا ينتهي بهذه السهولة الذي ينتهي هو فصل من فصول التاريخ لكي يبدأ فصل جديد ومن هنا فإن نهاية نموذج بوصوله الذروة والهيمنة لا يعني أن جذوة التدافع الحضاري قد انطفأت إلى الأبد .. كلا ..النموذج الحضاري ينتهي لكي يتجدد التاريخ من خلال نماذج أخرى فطوفان نوح كان ولادة جديدة للإنسان، كما أن نهاية المسلمين بالأندلس كانت تمهيدا لميلاد الغرب نفسه.
واليوم تعيش البشرية مخاضات كبرى لربما تمهد لتحولات بحجم التحولات التي مرت أو أقوى بكثير من أجل استئناف مسيرة البشرية على سلم التمدن والرقي الحضاري. إرهاصات شتى في العالم تشير إلى ولادات محتملة في الأفق بالرغم مما يرين على هذا العالم الحزين اليوم من ضباب ودخان الحروب والصراعات والدمار.
2. خطوات في أفق التجديد الحضاري:
نحن إذن إزاء وضع معقد وعلى أكثر من صعيد وتواجه الأمة تحديات و إكراهات في جميع الميادين مما يستوجب تصدياً شاملاً عبر رؤية واضحة ومنهاج عملي متكامل وقابل للتطبيق. إن التجديد يستلزم اليوم :
1.2. تجديد النخب
لا تجديد حضاري بوجود نخب فاشلة عاجزة ورديئة في وعيها وأدائها وطموحاتها. مهمة التجديد ،مهمة نخب قوية في إرادتها وعزمها أمينة على رسالتها الحضارية وحفيظة على مسؤوليتها، عليمة بما يجري داخليا وخارجيا . نخب تقطع مع الصراع في ما بينها وتكون قادرة على إدارة تعددها وتنوعها واختلافاتها إدارة متمدنة مستوعبة وبالحوار . فالمشكل ليس في أن تكون هذه النخب مختلفة في كل قضية من القضايا المعروضة على المجتمع والدولة، المشكل في عجز النخب في وضع آلية لضبط الخلافات و الحسم فيها وفي الكثير من الأحيان عدم احترام هذه الآلية والنتائج التي أفرزتها.
ويجب الاعتراف بأن ما نعيشه اليوم من اضطراب في كل المجالات ما هو إلا انعكاس لضعف في التراكم الفكري والمعرفي لدى النخب عموما والسياسية خصوصا والتي وجدت نفسها فجأة في خضم ساحة معقدة محليا وإقليميا ودوليا فلم تستوعب جيدا أو تفهم كنه تعقيداتها وطبيعة التحولات التي عرفها العالم منذ سقوط جدار برلين على الأقل.
التجديد الحضاري يتطلب أن تمتلك هـذه النخب وعيا وفهما مناسبا للمرحلة في تعقيداتها وأن تمتلك رؤية استراتيجية واضحة وقدرة على استشراف المستقبل و القدرة على إبداع الحلول العلمية القابلة للتنزيل على هذا الواقع المعقد.
إن قضايا المواطنة و النهضة والتحرير والتنوير والتقدم والتنمية وقضية الديمقراطية، وقضية حقوق الإنسان، وقضية العدالة الاجتماعية، الخ هي قضايا محورية ومركزية يجب أن تشكّل محور اهتمام النخب ويلتف حولها الجميع لأنها من صلب التجديد الحضاري.
2.2. سؤال الهوية : من أجل هوية مرنة
سؤال الهوية سؤال كوني مطروح على المستوى العالمي اليوم. «أمارسيا صن» وقف على ما تطرحه الهوية الصلبة (المبنية على الهوية الواحدة) من مشاكل الانقسام والتعصّب حيث إن من كان إسلاميا فهو في تناقض وصراع مع الهوية الحداثية ومن كان حداثيا أو معاصرا فهو في تناقض وصراع دائم مع الإسلامي أي أنه لا مجال لإحدى هذه الهويات أن تكون حاضرة إلا في إلغاء الأخرى والحال أن الإسلامي والحداثي يجمعهما الانتماء للوطن: الهوية الوطنية، ويجمعهما الانتماء للأمة العربية وإسلامية ويجمعهما الانتماء للمنطقة الأفروأسيوية ويجمعهما الانتماء للعالم الثالث ويجمعهما الانتماء للإنسانية وقضاياها العادلة الخ.
آن الأوان لنقارب موضوع الهوية ضمن باراديغمات جديدة يكون عنوانها البارز» من أجل مشروع قومي متجدد « يستوعب التعدد والتنوع ومن لم يحتوه الانتماء العرقي والقومي يحتوه الانتماء إلى الحضارة العربية الإسلامية. مشروع يرتكز على باراديغمات التحرير والتحرر والنور والتنوير و تحرير العقول المكبلة التي أصبحت مادة للاستحمار، من ركام التصورات والأجيال والتمثلات الخاطئة، ومن براثن التخلف ودواعيه وتحرير الإنسان من ظلمات التأويلات الرجعية والظلامية للأحداث التاريخية والنصوص الدينية، وتحريره من التكفيرية وتحرير الإنسانية مما تعانيه من ظلم وفساد النظام النيوليبرالي ومن اجل بناء عالم أكثر عدلا وأكثر إنسانية. مشروع قومي متجدد يرتكز على باراديغمات الوحدة بما يعني ذلك من مناهضة التفكيك والتجزيء و الاحتراب و المصالحة وتجاوز الجراح والآلام (مصالحة مع الذات وبين أبناء الوطن الواحد حكام ومحكومين وبين الدول) ويرتكز على الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. الديمقراطية لا تعني الفوضى وديكتاتورية الأقلية بل المطلوب في البداية ديمقراطية تشاركية بما تعنيه من احترام رأي الأغلبية من دون سحق الأقلية. مشروع يرتكز على باراديغمات مواجهة التطرف والإرهاب وإشاعة الثقافة البانية ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت والقتل ،والتنسيق داخل كل ساحة وبين الشعوب والدول خصوصا من يسعى منهم نحو عالم جديد أكثر عدلا وإنسانية.
3.2. الإصلاح السياسي على قاعدة المصالحات الوطنية الكبرى:
الرداءة والتواضع وعدم الكفاءة النخب عموما والسياسية خصوصا ظاهرة رافقت العولمة النيوليبرالية الجشعة في مختلف دول العالم، لا فرق بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة. مع هذه النخب أصبح التعدد، الذي هو مظهر من مظاهر الصحة و الإبداع ومصدرا للاغتناء، كارثة ومصيبة . غاب الفكر والتفكير وتراجع الوعي والفهم وشلت العقول فتحول التعدد إلى داء عضال يهدد وحدة الأوطان والشعوب بالاحتراب والانقسام والتفكيك وأخذ الصراع السياسي طابع حرب وجود طاحنة هدفها إلغاء الآخر المختلف . تم تبني هويات الصلبة بل والهويات الفرعية التي لا تقبل التعايش مع الهويات الأخرى فأصبحت السياسة أقصر طريق مؤدية إلى الانقسام والتعصّب.
تزامن هذا مع فشل الدولة القطرية العربية في ضمان التنمية الحقيقية وتوفير الأمن الداخلي لمواطنيها وفي توفير الديمقراطية العدالة والكرامة والحرية والتقدم بل تاهت في دروب الصراعات الداخلية وعبث بقدراتها وثرواتها الفاسدون. مما جعل الصراع بين الحاكمين والمحكومين يتأجج وهو ما سهل تسرب الاستعمار واختراقه للنظام العربي رسميا وشعبيا وسهل عليه (أي الاستعمار) تنزيل وتفعيل مخططاته التفكيكية/‏‏الجزيئية وزرع الفوضى الهدامة. لقد أعاد الربيع العربي الذي عرفته العديد من الدول العربية والإسلامية العنفوان إلى مطالب الشعوب في الكرامة والعدالة والحرية والديمقراطية ولكنه كان أيضا بمثابة كاشف «بالرنين المغناطيسي « عن واقع البؤس والضعف والخصومة والانفصال الذي تعيشه النخب والأحزاب العلمانية سواء منها « اليمينية « أو اليسارية أو ا النخب والأحزاب لإسلامية في علاقتها مع السواد الأعظم من الجماهير التي تركت للمتطرفين والمتآمرين . والأكيد أن ما تعيشه الساحات السياسية اليوم من فوضى وارتباك ما هو إلا استمرار لتلك الحالة من فقدان القدرة (من طرف النخب) على فهم كنه وعمق التحولات الجيواستراتيجية الكبيرة فينا وحولنا تحولات تؤشر لعالم قديم ينهار وآخر جديد يتأسس . إننا إزاء فاعلين سياسيين وغير سياسيين يحاولون التأقلم مع مستجدات لم يفهموها على حقيقتها ويواجهون تحولات جيواستراتيجية بتكتيكات آنية متسرعة تكشف الطابع الالتقاطي للفاعل السياسي وتدبيره الاستعجالي لدفع الكوارث والأخطار . وما يصدق على الفاعل السياسي يصدق على الفاعلين الآخرين!.
لا مناص إذن من إنجاز المصطلحات الوطنية التاريخية على قاعدة الاتفاقات والتوافقات الكبرى تنهي حالة الاحتقان والتوتر والصراع الذي يضر بالأوطان ولا يخدم سوى مخططات الأعداء المتربصين من استعمار وصهيونية وأذنابهم . ولا مناص من إصلاحات سياسية حقيقية من أجل إقرار ديمقراطية تحترم إرادة الشعوب وحقها في العدالة والكرامة والحرية والتداول السلمي للسلطة والقبول بالتعدد والتنوع.
4.2 .دعم دينامية التجديد الفقهي في كل مجالات الحياة:
إذا كنا نقر اليوم بوجود مؤامرة تستهدف إشعال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية لتفكيك وحدة البلدان العربية والإسلامية في منطقة الـ MENA (حسب التسمية الأمريكية ) فمن الواجب علينا أن نتساءل لماذا نجحت هذه المؤامرة /‏‏الإستراتيجية كل هذا النجاح بهذا الشكل وهذه السرعة ؟!.
من الغباء التصور أن العقل الاستخباراتي الأمريكي والبريطاني والصهيوني ومراكز التفكير في هذه البلدان تطلق المخططات وتنسج المؤامرات بشكل عفوي مجاني . في لعبة الأمم المعقدة كل شيء مدروس بعناية وأكيد أن من استهدف منطقتنا بالفوضى الهدامة قد علم وتعرف على ما تحويه بواطن مراجعنا الفقهية وكتبنا الدينية من ركام الفتاوى والاجتهادات الفقهية والتأويلات النصية التي تولد لدى الأتباع القابلية للتطرف والغلو والعنف والإرهاب وسفك الدماء وسبي النساء والتكفير والأهم القابلية للاستحمار، فبنى مؤامرته على أساس توظيف هذا الركام .
ويزيد من منسوب القابلية نحو التطرف والإرهاب دأب بعض المؤسسات الدينية الرسمية والحركات الإسلامية ذات الميولات السلفية الجهادية الوهابية في استخراج هذا الموروث الفقهي الخطير وتبيئته والترويج له و ترويض أتباعه على الإيمان أن ليس في الإمكان أبدع مما كان وأن لا مجال لفتح باب التجديد في الفكر والفقه الديني لأن السلف قد أجاب حتى عن أسئلة الخلف . فيغرق هؤلاء الأتباع في الماضوية ويصير البحث عن الحلول لإكراهات وتحديات الزمن الذي يعيشونه يتطلب في كل مرة العودة لهذا الماضي بكل حمولته الإيجابية والسلبية واستدعاء التيمية ( نسبة إلى ابن تيمية وأتباعه من الشارحين ) والوهابية وعلمائهــا ودعاتها ووعاظها للجواب عن تحديات و إكراهات وأسئلة واقع معقد لا علاقة له بما مضى .
نعم قبل أن نتهم المتآمرين من القوى الأجنبية لا بد أن نعترف أن الشر ثاوٍ فينا،نائم في كتب فقهنا لا ينتظر إلا من يوقظه ويحَيِّنه . فوراء كل عمل إرهابي ووراء كل دعوة للتكفير أو الغلو أو التطرف فتوى تنبني على تأويل غير مناسب للنص الديني أو انتصار لرأي فقهي مذهبي خاطئ .
و إذا كان من السهل على بعض النخب العلمانية القول بوجوب الفصل بين الدين والسياسة، فالواقع قد أثبت في أزمات العراق وسوريا وليبيا ومصر ومن قبلهم الجزائر وأفغانستان وإيران حدود الوصل والفصل بين الدين والسياسية في الوطن العربي وأثبتت هذه التجارب أيضا القدرات الهائلة التي توفرها إمكانية توظيف الدين في البناء الحضاري و مقاومة الاستعمار والتخلف والرجعية و القدرات الهائلة التي توفرها إمكانية توظيف الدين في الهدم من قبل الرجعية والاستعمار ومن أجل تكريس التخلف والاستحمار ومصادرة التفكير وإلغاء العقل. ومن المفروض اليوم إبراز واستحضار قيمة وأهمية الدين في تحريض وتعبئة الأمة في معركة التحضر والتمدن ومن هنا يجب أن علينا أن نطرح أسئلة الإصلاح وتجديد الفكر الديني والفقه لجعل الدين أول خط دفاعي للمقاومة: مقاومة التخلف والرجعية والتكفيرية والفساد والاستهلاكية والاتكالية والسلبية والخنوع والجشع والاستعمار والاستحمار…. فإن لم نفعل فأكيد ستقوم الرجعية بتوظيف الدين في الاتجاه المعاكس . نحن أمة تولد بالدين وتحيا بالدين وتسعى للخلاص في الآخرة بالدين. ولا يجب أن يتسرب للأمة قطمير من الشك في موقفنا الإيجابي من الدين ودوره في استنهاض الأمة . لكن هذا لن يمنعنا من المطالبة بتنقيته من الفكر والفقه الديني المتجاوز أو المؤسس للقابلية للتطرف والإرهاب والتكفيرية وتخليصه من ركام التصورات والأجيال والتأويلات المتعسفة والأفهام الرافضة للنسبية وباحتمال الخطأ .
في أمريكا الجنوبية استعملت الرجعية الكنسية المتحالفة مع الفساد والاستبداد والمخابرات الأمريكية الدين في قمع الثورات والانتفاضات ولكن استعمله أيضا لاهوت التحرير الذي حرر الكنائس الكاثوليكية لهذه القارة من أجل التلاحم مع حركة التحرر. و تجربة لاهوت التحرير والحركات المناهضة للاستعمار في أمريكا اللاتينية جديرة بأن تنال اهتمامنا .هناك في أمريكا الجنوبية كان وضع مماثل لما تعيشه بعض الدول العربية حيث كانت تيارات قومية هندية ولاتينية وأخرى يسارية وقوى دينية مسيحية تعيش على إيقاع الصراعات البينية . وغالبا ما وظفت الأنظمة العسكرية الفاشستية والمخابرات الأمريكية هذه القوى ضد بعضها و تحولت الصراعات إلى حروب أهلية استمرت لعقود وخلفت الكثير من الدمار والآلاف من القتلى ولم تخرج أمريكا الجنوبية من دائرة العنف والاقتتال إلا حينما بدأت هذه القوى تفكر في إعادة بناء العلاقة بين الديني والقومي واليساري من خلال إفراز مشروع وطني يستوعب الجميع . يتكامل فيه الروحي بالسياسي . . .هذا ما جسده رئيس فنزويلا الراحل هوجو تشافيز حينما حمل الصليب في يد وفي اليد الأخرى حمل المنجل. نعم ،لقد بيّنت هذه التجربة إمكانية التحالف بين القوى والحركات السياسية والاجتماعية متعدّدة المشارب على قاعدة النضال من أجل تكريس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية بين فاعلين يلتقون في أهداف إستراتيجية الكبرى.
2.5 . مواجهة كل النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية القاتلة:
ليس عيبا الانتماء لطائفة أو مذهب ولكن المشكل الكبير هو الإيمان بالانتماء لطائفة أو المذهب يحتكران لوحدهما الحقيقة والصواب والفهم الصحيح للدين وأتباعهما هم الفئة الناجية المختارة وغيرهما في غي وضلال يجوز استباحة أموالهم ودمائهم . وليس عيبا أيضا الانتساب لعرق ما ولكن العيب يكمن في الاعتقاد بالانتماء إلى العرق المتفوق على باقي الأعراق. بكل بساطة : الاعتقاد بتميز وبتفوق مذهب أو طائفة أو عرق عنصرية مقيتة كانت نتائجها كارثية في العديد من التجارب البشرية . وما الكوارث التي تعيشها اليوم بعض المجتمعات العربية سوى تجسيد لهذه النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية النتنة التي تهدد بالمزيد من القتل والتدمير والتشريد وتمزيق الأوطان وتسهيل مهمات الاستعمار : عرب ضد عجم (أكراد أمازيغ، زنج…) سنة ضد شيعة بل سنة (الوهابية) ضد سنة (المالكية، الشافعية ،الحنفية …) قوميون ضد قوميون، قوميون ضد إسلاميين، وإسلاميون ضد إسلاميين، الكل ضد الكل..
2.6. مواجهة الغلو والعقل الإقصائي التكفيري الديني والعلماني:
مجتمعاتنا العربية اليوم بين موجتين عظيمتين إن أطبقت علينا إحداهما أو كلاهما هلكنا كما يقول الدكتور خاتمي: موجة التطرف والغلو والإقصاء بالعناوين الدينية وموجة التطرف والغلو والإقصاء بالعناوين العلمانية. وطبيعي أن يكون وراء كل عمل أو تصرف متطرف وإقصائي فكرة أو نظرية متطرفة إقصائية . للأسف الشديد نحن بصدد إعادة تكرار تجارب كارثية في فرنسا وألمانيا وروسيا واليابان واندونيسيا وتركيا وغيرها من الدول. تجارب أجرت أنهار من الدماء وأشعلت الكثير من الحروب الأهلية . آن الأوان لكي يتحرك الوسطيون العقلاء من الجانبين لمنع استمرار المتطرفين في التأثير في الساحات العربية فضلا عن فرض أجنداتهم وحروبهم البينية المدمرة . لا بد من فتح حوارات وطنية من أجل الاتفاق والتوافق على كلمة سواء : دعم الوحدة الوطنية، الاتفاق على برنامج وطني للنهوض بالبلاد ضبط آليات لتدبير الاختلاف والتنوع.. الخ
2.7. مواجهة التحدي الاقتصادي:
الاقتصاد عصب الحياة العصرية ولا مستقبل لاقتصاديات وطنية في زمن التكتلات الاقتصادية الكبرى (السوق الأوربية المشتركة لآسيان، ميركاسور، البريكس…) والعولمة النيوليبرالية المتوحشة. لا بد من قيام تكتلات اقتصادية إقليمية وازنة (العراق ،سوريا -تركيا -إيران – لبنان؛ دول الخليج-اليمن-الأردن؛ الدول المغاربية – مصر – السودان). ستكون هذه أسواق ضخمة بشساعة أراضيها وعديد سكانها وقادرة على التنافس والصمود أمام الأسواق العالمية.. هيمنة الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية على منظمة التجارة العالمية والمؤسسات والبنوك الدولية ومحاولة تسخيرها لخدمة الاقتصاد النيوليبرالي الجشع عبر فرض سياسات اقتصادية عولمة الفقر وزادت من الصعوبات التي تواجه خصوصا الدول الفقيرة الدائنة ( ومنها دول عربية كمصر والأردن والمغرب وتونس والسودان ..) التي وجدت نفسها تدفع دفعا نحو التخلي عن ثرواتها (تحت مسمى الخصخصة) وعن أدوارها الاجتماعية وتتحول فقط إلى آلة أمنية قمعية تحمي مصالح الشركات والأوليغارشيات المحلية والدولية ٠ لا بد من التفكير في بناء اقتصادات موازية بنفس تضامني في البلدان التي تعيش تحت وطأة الاقتصاد المعولم . ولا مناص من تنويع العلاقات الاقتصادية العربية العربية والعربية الإسلامية والعربية مع التجمعات الإقليمية وقوى نامية و جعل تعزيز التعاون جنوب-جنوب على رأس الأولويات .
2.8.مواجهة التحدي المناخي والتلوث :
هناك تنوع مناخي في منطقتنا العربية التي يغلب عليه الطابع المتوسطي والقاري الصحراوي. هذا المناخ يعيش تحولات مستمرة منذ 10000سنة تقريبا في اتجاه القاحلة المتزايدة وندرة المياه وملوحة الأراضي الزراعية وتدهور التربة وزحف الصحراء (عامل طبيعي) والتصحر (عامل أنتروبيكي) ويزيد تدهور طبقة الأوزون الأمر استفحالا مما ينذر بمشاكل بيئية خطيرة لا بد من الالتفات إليها قبل فوات الأوان . لا يجب أن ننسى أن مستقبل 170 مليون عربي في السودان ومصر وسوريا والعراق رهين بثلاث أنهر : النيل و دجلة والفرات منابعها كلها خارج هذه الدول. ونحن نعرف اليوم نوايا تركيا بالنسبة لدجلة والفرات ونوايا دول البحيرات الكبرى وإثيوبيا اتجاه النيل . ويكاد يكون إجماع وسط المتتبعين أن الحروب المقبلة في هذه المناطق ستكون على الماء خصوصا في الحوض المائي للنيل. وحيث إن لا حياة من دون ماء فمن أين نأتي بالمياه في حالة استفحال القحالة وازدياد الطلب على هذه المادة الحيوية نتيجة التطور الاقتصادي والنمو السكاني وعلاقة كل هذا خراب الأراضي الزراعية وبالهجرات مكثفة و بالتوترات الاجتماعية والسلم الدولي؟
في حضارة النفايات، كما يسميها روجي غارودي، أصبح التلوث آفة العصر تعاني منه الدول المتخلفة بقدر ما تعاني منه الدول المتقدمة ونتائجه تهدد اليوم مستقبل البشرية (ثقب الأوزون، ارتفاع درجة حرارة الأرض،ذوبان الجليد القطبي، ارتفاع علو المحيطات، تلوث المياه السطحية و الجوفية،الأمطار الحمضية، صعوبة التخلص من النفايات الصلبة،…) ولا بد القيام بالتدابير المناسبة وطنيا وإقليميا ودوليا لمعالجة تدهور البيئة. لا بد من مراجعة النموذج التنموي وخصوصا ما يتعلق منه بسياسات الأوفشورينغ والصناعات التي تستقطبها وعادة ما تكون ملوثة ولا تستجيب للمعايير المطلوبة لحماية البيئة. التلوث العمراني شكل آخر من أشكال التلوث البيئي الحضاري.

_______________
*جريدة عُمان/من بحث مطول قدم في المؤتمر القومي العربي في بيروت

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *