ثلاثة أشياء تلفت النظر في أشغال ندوة الهايكو الثانية في المغرب، التي انعقدت وانتهت في مدينة وجدة المغربية خلال الشهر الماضي تحت عنوان “الهايكو العربي وشعريات هايكو العالم”. الأوّل، ما تخلّلها وتلاها من إصدارات تنوّعت بين مجموعات شعرية، وكتب نقدية، وأوراق طُرحت للنقاش ما يزال إرسالها متواصلاً من قبل المنظمين إلى المعنيّين بالفن الشعري، وهذا النمط الياباني النشأة والعالمي الانتشار. والثاني، دعوة تشكيلة من الشعراء والنقاد من جنسيات متنوّعة عربية وأوروبية ويابانية للمشاركة في الحوار والمراقبة. والثالث، وهو الأبرز، إصدار مختارات من الهايكو العربي من جمع وإعداد الشاعر عبد القادر الجموسي. هذه ثاني مرة يحدث فيها هذا اللقاء حول شعر الهايكو العربي، بالترافق مع إطلالة على صور الهايكو في لغات أخرى، وفي اللغة اليابانية على وجه الخصوص. كانت المرة الأولى، وفي المغرب أيضاً في التاسع من شهر تمّوز/ يوليو 2015، وجاءت الندوة الثانية ضمن مهرجان يسمى “الموكب الأدبي”، لتلمّس أفق لاستمرارية الندوة الأولى. ولأن أبرز أحداث هذه المناسبة هي المختارات، وبعض الأوراق المقدّمة الحاملة لإضاءات ناضجة بعد سنوات من الضبابية التي أحيط بها هذا النمط الشعري عربياً.
من الملاحظ أن كل واحد من الشعراء العرب المشاركين فَهِم هذه العبارة على شاكلته، فبعضهم كتب لقطات فوتوغرافية، وبعضهم خلط التصوير بمجازات شعرية مما تحفظ ذاكرته، وبعضهم انتحل قصائد شعراء يابانيين معروفين مثل باشو وبوسون ويوسا بعد أن أدخل عليها تغييراً طفيفاً. والقلّة وجدناها تتأنى وترتبك فتأتي رسومها خطاطات أولية، وشاعت ندرة الهايكو العربية إلى درجة أن القارئ قد يصل إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة لدى هذا الشاعر أو ذاك.
ومن المؤكّد أن ظاهرة الإكثار عند بعضهم (مئة هايكو، أو ثلاثمئة هايكو) ستصدم حساسية الأستاذ الياباني ماتسو باشو لو انبعث حياً وحضر حلقات الشعراء، هو الذي يعتقد أن شاعر الهايكو لو أنجز واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً من الهايكو أصيلة طيلة حياته لكان في ذلك دليل على عظم إنجازه.
الجيد وسط كل هذا، أن صاحب المختارات حدّد مجال اختياره بين ما أسماه “المدار” و”الحقل”، وكان بذلك واعياً بما بين يديه. فالمدار يمنح هامشاً لاشتغال النصوص ضمن ما يسميه “مدار الهايكو”، وهي صيغة تجنّبه في هذا الطور من التجربة إصدار حكم قيمة على جدارة انتماء النصوص المختارة إلى الهايكو شكلاً وروحاً، ويمنحه مفهوم “الحقل” منهجياً إمكانية حصر مجال الانشغال ضمن نوع أدبي معيّن ذي خصائص مشتركة، ما يساعد على تحديد محتويات متن المختارات وفق معايير حقل هذا النوع الأدبي. وهكذا يتكامل المفهومان ويشكّلان قاعدتين لازمتين في اختيار متن محدّد بما فيه الكفاية. ولكن نلاحظ أن ثمة لُبساً هنا، وخصوصاً في اعتماد مفهوم “المدار” على أساس التمييز بين الجدارة وانتفاء الجدارة؛ فهل المهم معرفة انتماء هذه القصيدة أو تلك إلى “شكل ومضمون الهايكو” أم إلى “الشعرية”؟
معيار شعرية القصيدة هو الأهم وليس انتماؤها إلى هذا الشكل أو ذاك، ففي عالم الهايكو، كما طوّره حتى المحدثون اليابانيون، لم تعد معتمدة تلك القواعد والخصائص القديمة المتوارثة منذ أيام أساتذته الكبار في القرن السابع عشر، بدءاً من كونه مطلع ما تسمى “قصيدة الحلقات” التي قد تمتد إلى مائة حلقة، ومروراً بإطلاق اسم “هوكو” عليه، وصولاً إلى منحه اسم “هايكو” في القرن التاسع عشر على يد “ماسا أوكي شيكي”. بالطبع، المعني بالحقل هو هذه الخصائص الثابتة التي لا يمكن أن تكون محدّدة تحديداً صارماً لدى أي شاعر حقيقي. هي خصائص تنبع عادة من لغة الهايكو الأصلية وتراثها، أي اليابانية، فهل هناك مبرّر لإلزام الهايكو العربية بها مع اختلاف اللغة مبنى وتراثاً؟ بعض الملحوظات التي تناثرت في أوراق الندوة يمكن أن تكون هادية في هذا السبيل، لأنها تنصبُّ على ما يمكن أن نسمّيه “الشعرية”، وإن كان منطلقها “الهايكو” الياباني.
يتساءل سامح درويش وهو يكتب قصيدته: “أين أثر الصورة والمشهدية المعتمدة على العين اللاقطة على الخيال الشعري العربي المحتفي بالأذن المتلقية؟”، ويقول الشاعر عبد الكريم كاصد: “.. الهايكو ليست قصيدة فكر أو معنى بالمفهوم الشائع للمعاني، وإنما هي باعثة على الفكر أو الإحساس العميق”، وتكتب بشرى البستاني “الهايكو مشهد يبدو ساكناً لكنه يختزن طاقة حركية شعريتها في اللبس الكامن بين الصمت الظاهر والحركية المضمرة” وتعني بذلك أيضاً التناوب الذي يحيلنا إليه المشهد في الهايكو بين حضور المرئي واللامرئي في آن واحد معاً. والأكثر لفتاً إلى النظر هو قولها “يأتينا فن الهايكو في هذه المرحلة من حياة الثقافة العربية المربكة رد احتجاج على ذلك الصخب، بهدوئه ودعوته إلى التأمل والحث على الصمت الحضاري”. بالتأكيد مثل هذه الخصائص ليس مطلوباً فقط لرسم قصيدة هايكو، بل لرسم شعر أعمق مما نعرف حتى الآن، وهذه هي فضيلة معرفتنا بالهايكو، أو بأي شكل شعري.
____
*العربي الجديد
مرتبط
إقرأ أيضاً
القصيدة ما بعد المعاصرة*مروان فارس«تلهم بالاخضرار»«لكن الشجرة أين تمسك بها؟من جوهرها فارغة تغيب في السماء والأحجارلا وادٍ ولا…
-
-