*المهندس فتحي الحبّوبي
خاص ( ثقافات )
نشر هذا المقال في جريد الصباح التونسية تحت عنوان التربية الجنسيّة والتجديد في 13سبتمبر1975 أي منذ 40 سنة، وكنت عندئذ في رَيْعان الشَّباب، متمرّدا وثائرا على كلّ قديم، لذلك دعوت إلى تدريس التربية الجنسيّة ضمن منطق التجديد. وأعيد اليوم نشر المقال بإضافات قليلة حتّمتها التحوّلات السياسيّة والمعرفيّة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور فلسفة النوع الاجتماعي (فلسفة الجندر). هذا وقد ردّ عليّ أحدهم في ذات الصحيفة وفي مقال مطوّل اتّهمني فيه بالكفر والنفاق والاستهتار بالأخلاق والقانون.
———
لا شكّ في أنّ ظاهرة السخط على كل جديد هي ظاهرة قديمة قدم الإنسان ، الذي كأنّي به قطع على نفسه عهد الطعن في الجديد ولو ارتقى الى أعلى درجات سلّم الابداع والجودة، والتغنّي بالقديم والتمسّك به كصنم يعبد ولا يحطّم، ولو تدحرج هذا القديم الى أسفل درجات هذا السلّم.
والجديد الذي نقصده قد يكون في مجال الشعر والأدب أو الفلسفة أو العلم أو الفنّ أو التربية، وقد يكون رأيا في الدين أو في عالم المال والأعمال أو في الاقتصاد و السياسة ونحو ذلك من مجالات الحياة الكثيرة والمتعدّدة. ففي مجال الشعر مثلا جدّد أبو تمّام فاعتبرت إنتاجاته الشعريّة في حينها إفسادا للشعر. ثم اقتفى أثره شعراء كثر. نقتصر منهم بذكر بعض شعراء العصر الحديث، الذين من بينهم الشاعر المجدّد التونسي أبو القاسم الشابّي الذي سخر منه الجميع، لا بل وأقرب النّاس اليه. كما نذكر منهم شعراء “الحر” و”غير العمودي والحر” المتمرّدون على القصيدة العموديّة التوّاقون أبدا إلى مسايرة العصر بنفس شعري جديد لا ينتهي بالضرورة عند التفعيلة السادسة بل عند الانتهاء من رسم الفكرة المقصودة. وهذه المقاربة الثوريّة جعلتهم يلاقون من الانتقادات ومن التحقير والتعيير ما تنوء به الجبال، لكنّهم ظلّوا صامدين و تجاوزوا الحواجز ليقينهم من وضوح رؤيتهم وسلامة مسيرتهم، وواصلوا السير رغم العبوات الناسفة التي وضعت باستمرار في طريقهم.
أمّا في مجال الفكر الاجتماعي التحرّري وتحديدا، فيما يعبّر عنه اليوم بفلسفة النوع الاجتماعي (فلسفة الجندر) ، فقد لاقت، دعوة رائدي تحرير المرأة في الوطن العربي، قاسم أمين(1863-1908) في مصر من خلال كتابه “تحرير المرأة” ، والطاهر الحدّاد( 1899-1935) في تونس من خلال كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، الى إصلاح وضع المرأة في بلديهما نفورا شديدا وعزوفا عنها أشدّ ونقدا كثيرا وطعنا أكثر في مضمون الدعوة من بعض رجال الدين ومن “المتمسلمين”، ترجمته عاصفة من الاحتجاجات وعبّرت عنه مقالات كثيرة وكتب عديدة وصفتهما بالدّاعين إلى الانحلال والسفور، لعلّ من أبرزها كتابين ردّا على قاسم أمين فسَفَّهاَ آرَاءهُ وهما، “فصل الخطاب في المرأة والحجاب” لمحمّد طلعت و “المرأة المسلمة” لمحمّد فريد وجدي وكتاب “الحداد على امراة الحدّاد” أو( ردّ الخطإ والكفر والبدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع) للشيخ محمّد الصالح بن مراد الذي ردّ على الطّاهر الحدّاد وشوّه آرَاءهُ وشهّر به أيّما تشهير.
وأمّا في العلم فقد كان غاليلي محلّ اضطهاد جرّاء كلمة حق صدع بها وحقيقة علمية أثبتها حين قال” الأرض تدور”. كما كانت نظريّة التطور لعالم البيولوجيا تشارلز داروين، الواردة في كتابه الشهير “أصل الأنواع” محلّ تسفيه ورفض شديد من الكنيسة، مبعثه قوّة الإيمان بما يعبّر عنه الغرب بالأسطورة الدينيّة وما يسمّيه الإسلام بالقصص القرآني، لأنّ ما ورد في هذه القصص وتلك الأساطير لا يتّفق في قليل أو كثير مع ما جاء به داروين.
وفي الاقتصاد السياسي، كان مضمون كتاب “رأس المال” لكارل ماركس محلّ معارضة عنيفة من قبل معارضيه عامة ولا سيما الطبقتين البورجوازية والسياسية ذات التوجّه الرأسمالي المتوحّش الذي يعتمد على إقرار حقّ الملكية الخاصة واستغلال الطبقات الكادحة التي سعى كارل ماركس في نظريّته لحمايتها من هذا الاستغلال المقيت.
ورغم ما قيل وكتب حول تجديد هؤلاء الجهابذة من قدح واضح وطعن جارح، من باب تنفيس الحقد على الجديد ببذاءة الشتيمة لكلّ مجدّد، فإن التاريخ الحديث أنصف جهودهم، وهو يقف اليوم في صفّهم ليعلن أن تجديدهم لا يعتبر ثورة فحسب بل وكذلك ثروة لا ينضب معينها لفائدة الإنسانية في كل عصر ومصر.
فالشاعر أبو تمام الذي أعتبر قديما مفسدا للشعر أصبح يعدّ اليوم من أقدر أرباب الشعر، قديمه وحديثه، باعتباره يصنّف اليوم في رأس قائمة المجدّدين الذين أحدثوا ثورة وأي ثورة في ميدان الشعر، كما أنّ الشاعر أبو القاسم الشابي يعدّ اليوم أيقونة الشعر في تونس، وطبّقت شهرتُه الآفاقَ في كامل الوطن العربي. و أمّا الشعر الحرّ فقد أصبح أكثر شيوعا ورواجا من الشعر العمودي. والمفكّران قاسم أمين، والطاهر الحدّاد الذي رمي بالحجارة ولازم بيته حتّى موته، ولم يسانده في دعوته إلّا نفر قليل من أصدقائه الذين نذكر منهم على وجه الخصوص الأديب والصحفي الهادي العبيدي، اعترفت بهما اليوم منظّمة اليونسكو من بين أقطاب محرّري المرأة الذين تجاوزوا عصورهم بأفكارهم الثوريّة الجريئة.
يضاف إلى ذلك أنّ الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وضع آراء الحدّاد موضع التنفيد منذ سنة 1956 وقال قولته الجريئة في ذلك الوقت: ” سأفرض حريّة المرأة وحقوقها بقوّة القانون، ولن أنتظر ديموقراطيّة شعب من المنخدعين بالثقافة الذكوريّة باسم الدين”.
وأمّا نظريّة غاليلي فقد أضحت من البديهيات التي لا يشكّك فيها إلّا معتوه أو من به حول فكري. وأمّا نظريّة داروين التي كانت تكال لها التهم بغير حساب من كلّ حدب وصوب، فقد غدت اليوم نظريّة علميّة تدرس في المعاهد والجامعات، رغم بعض التحفّظات عليها هنا وهناك وبعض الكتب التي تسعى لتفنيدها.
وأمّا الفكر الشيوعي الماركسي فقد انتشر وساد في أوروبا الشرقيّة وعديد البلدان الأخرى في مختلف القارات، ليظلّ قوّة توازن في مواجهة النظام الرأسمالي الغربي على مدى سبعين سنة. لا بل ولا يزال- رغم انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية- يطبّق، بحذافيره إلى اليوم في كوريا الشمالية ، ووفق ما يعرف في الاقتصاد برأسماليّة الدولة في الصين الشعبيّة وفي جمهورية فيتنام الاشتراكية.
والحقيقة أنّ هذه الأمثلة ليست سوى صورة مصغّرة للباطل والزيف حين تصرعهما الحقيقة ويذيبهما وهج الحقّ الذي لا تقوى عليه الأباطيل، كما أنّها لا تمثّل سوى غيض من فيض التجديد الذي يرجع رفضنا له الى حبّنا أو ميلنا عموما للكسل الذهني. ذلك أنّ القديم يكون عادة واضح الملامح لا يكلّفنا جهدا عند استيعابه والتعامل معه وفق أسلوب تعامل الآخرين، بينما يكتنف الجديد عادة شيء من الغموض واللبس والإبهام، ممّا يدعونا الى بذل الجهد لفكّ الغموض وإزالة الإبهام وتوضيح اللبس للتعرّف على حقيقة هذا الجديد، ولتبدو لنا صورته ناصعة لا تشوبها شائبة. وهذا لعمري ليس في متناول السواد الأعظم من النّاس. وعلى اعتبار أنّ الإنسان بطبعه يميل عموما الى الكسل أكثر من ميله الى البذل والعطاء، فانّه يشهر سلاحه في وجه كلّ جديد دونما تروّ وتريّث. وهذه سنّة الله في خلقه {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة }.
ضمن هذا الإطار طرحت بعض الأقلام، منذ فترة، قضيّة إدراج التربية الجنسية في معاهدنا كمادة رسميّة أو حتى شبه رسميّة ضمن برامج المواد العلميّة. وكانت صفحات بعض الجرائد مسرحا للآراء المناصرة والمناهضة لهذه القضيّة، إلّا أنّ اللّافت للنظر والمثير للاهتمام في هذه الآراء، هو شبه إجماعها على الزعم أنّ التربية الجنسيّة تربية لا أخلاقيّة تشكّل إهدارا للقيم النبيلة وتحوّل مجتمعنا “المحافظ” حتما إلى مجتمع متسيّب، فاسد و موبوء. وهذا افتراء يدحض نفسه بنفسه، باعتبار أنّ مجتمعنا لم يعد محافظا من زمان، ولكنّه بقي على حاله رغم أنّ شبابنا بشقّيه قد اطّلع ولا يزال على كتب التربية الجنسيّة المستوردة التي تغزو المكتبات وأسواق الكتب القديمة. ولقد أكّدت أكثر من تلميذة وطالبة أنّها تطالع هذه الكتب بالمبيت خفية رغم تشديد الحراسة عليها إداريّا، ذلك أنّها فضّلت اختبار قضيّة الجنس والاطّلاع على خفاياها العلميّة لتجنّب الوقوع في المحظور. إنّها أدركت بحسّها الواعي، أنّ تكبيل العقول بالأوهام والترّهات أخطر من شدّ الأيدي والأرجل وإعاقتها بالأغلال والأثقال عن كل حركة. كما أدركت أنّ إلمامها بالتربية الجنسيّة قد يصونها صونا نهائيّا من التبذّل ويبعدها عن الدناءات ويحميها من مركّبات النقص المتولّدة عن الجهل و الكبت. علما وأنّ علم النفس يؤكّد على أنّ جميع الغرائز التي لا تجد منفذا لها الى الخارج تتحوّل إلى الداخل في شكل مركّبات نقص وعقد نفسيّة عصية العلاج.
إنّ التربية الجنسيّة تعتبر من المواد الأساسيّة التي يجب تضمينها في برامج تعليمنا لشدّة التصاقها بحياة الفرد عامّة وحياته الجنسيّة بوجه أخصّ، باعتبار أنّ الغريزة الجنسية أو الليبدو (La libido ) كما يسمّيها عالم النفس فرويد ومن قبله الفيلسوفان سانت أوغستان وباروخ سبينوزا، تنشأ مع الفرد منذ ولادته ثمّ هي تغطّي كافة مراحل حياته، وتتطوّر أثناء نموّه وفق ثلاث مراحل أولاها المرحلة “الفميّة ” التي يشعر خلالها الطفل بلذّة عند مصّ أي شيء، وثانيها “المرحلة الشرجيّة” التي يشعر خلالها الطفل بلذّة عند قضاء حاجته وملامسة عضوه التناسلي وفي التمزيق والتحطيم، وأخيرا المرحلة الجنسيّة الحقيقيّة التي يهتمّ خلالها بمباشرته للعمليّة الجنسيّة. وممّا لا جدال حوله ولا شك يعتريه أنّ التربية الجنسيّة كغيرها من ضروب التربية لها قواعدها العلميّة الصرفة وأساليبها البيداغوجيّة الخاصة. وهي ليست دروسا في الفجور والاستهتار كما يتوهّم البعض ممّن يتعامون عن رؤية الواقع الصارخ لمجتمعنا المنفتح الذي يدّعي البعض أنّه محافظ، وهو ليس كذلك, كما أنّ هذه التربية ليست دعوة الى الخلاعة والاباحيّة المقيتة وممارسة الجنس على قارعة الطريق على مرأى ومسمع المارّة، بل هي، علم قائم بذاته يبحث في تركيبة الأعضاء التناسليّة وعلاقتها ببعضها البعض ودور كل منها في عمليّة الانجاب، من المفترض معرفته وفق قول سقراط “أعرف نفسك بنفسك” .
إنّي كثيرا ما تساءلت كيف يمكن للشباب أن يبني، مستقبلا، أسرة سعيدة على أنقاض جهله وحطام تقاليد مجتمعه بغثّها وسمينها . فهل رأينا مرّة واحدة عبر تاريخنا الطويل أن الجهل ينجب غير الشقاء والمآسي، وأنّ الكبت يولّد غير العقد. إنّ التربية الجنسيّة التي ندعو إلى إقرارها إنّما تنضوي بالتأكيد في سياق مفهوم تربوي سليم، ما يجعلها تسهم في إعطاء نفس وروح جديدين لمفهوم الزواج على قاعدة معرفيّة صلبة قد تسهم في التفاهم الفكري والعاطفي.
قد يذهب البعض إلى أنّ تعلّم ودراسة التربية الجنسيّة ينبري عنها حتما إقبال شبابنا على ممارسة الجنس بنهم كبير يذيّله إنهيار سلوكي وعبث بالقيم واستباحة للحرم وفقدان للهمم ممّا يشين إلى مجتمعنا ويجعله لا يختلف في كثير أو قليل عن المجتمع الغربي في جزئه المائع، لكنّ ذلك، فيه مجانبة للصواب لأنّ واقع التجربة الغربيّة في هذا المضمار يفنّد هذا المنحى في التفكير ويجعله من قبيل الرطانة والافتراء على التربية الجنسيّة التي لم يقحمها الغرب ضمن برامجه التعليميّة إلّا ليوقف تيّار التصرّف الأرعن الذي جرف أغلبيّة الشبّان وجعلهم في المهاوي يتردّون. لذلك فإنّ تبنّي هذه التربية في الوطن العربي لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال كغاية في حدّ ذاتها بل كوسيلة لغايات عديدة، قد لا ندرك أبعادها طالما بقينا ننظر إلى الأشياء بمنظار ضعفاء البصر، ونفكّر فيها بعقليّة الأجداد المكبّلة في الأغلب بضروب كثيرة من الشعوذة وصنوف عديدة من الخرافات وفنون متعدّدة من الترّهات ألصقت بالدين زورا وبهتانا وصدّقها البسطاء المخدوعون وتعصّبوا لها باعتبارها جزءا لا يتجزّأ من الدّين، فيما هي ليست كذلك، بل إنّ الفهم القاصر والفكر الملتحف بعباءة الدّين والمنحرف لبعض شيوخ الفقه، الذين لا يختلفون كثيرا عن باباوات (Les papes) روما المانحين، في القرون الوسطى المظلمة، لصكوك الغفران لمن يرضون عنهم، هو الذي جعلها كذلك. ولكن ما أبعد الأرض عن السماء، وما أبعد الدّين الحقّ عن الفكر الديني المشوّه الذي لم يجتهد إلّا في توسيع دائرة التحريم والتضييق عن النّاس ومعاداة كلّ جديد باعتباره بدعة وضلالة. والمفارقة أنّنا نظرنا إلى الغرب وهو يجدّد ويبدع في كل يوم ولحظة، فإذا بنا ننبهر به ونستورد ونستعمل كل جديده وإبداعاته دون وضعها مطلقا في خانة البدعة والضلالة، بدليل أنّ الدواعش أنفسهم يستعملون بإتقان كلّ التكنولوجيات الحديثة رغم إيمانهم بترك البدع.