الطريقة المثلى للاستمرار بالكتابة: “تذكّر الموت”

*جو فاسلر / ترجمة: هديل الدغيشم

إن أكبر إلهام لـ راسل بانكس ليس كاتبًا آخر، إنما نقش على بلاطة ضريح مخبأة بالقرب من مكتبه.

يقضي الروائيون ساعات غير معدودة في عزلتهم، ويتكئ بعضهم على أشياء حميمة لتشجعهم، وتمدهم بالراحة. فعلى سبيل المثال، وضع تشارلز ديكنز صفًا من التماثيل الصغيرة، ومن ضمنها ضفادع برونزية تتبارز، وقرد خزفي؛ رتبها بطريقة خاصة. وأما مكتب روالد دال فهو محتشد بالتذكارات، بما فيها جزء من عظمة وركه التي أزيلت بعدما تحطمت طائرة سلاح الجو الملكي التي كان يقودها في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية. بينما يحتفظ دون ديليلو بصورة للمؤلف الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وقد قال لمجلة “Paris Review” قبل أن يتقاعد عن عمله، ومتأملًا وجهه “عنيف، وأعمى، ومفغور الأنف”.

وعندما طلبت من راسل بانكس- الذي صدرت مجموعته القصصية الجديدة “عضو العائلة الباقِ”- أن يشارك في هذه السلسلة، اختار أن يكتب عن تحفته الثمينة. حيث شاركه في مكتبه ملاك بلاطة الضريح لمدة خمسة عقود، وصارت نقوشها، التي تعتبر توصية وتذكيرا، ملهمًا خلال مسيرة بانكس الكتابية.

إن راسل بانكس، الذي وصل الدور النهائي لجائزة بوليتزر مرتين، يعد كاتبًا لثمانية عشر عملًا روائيًا ملفتا، ومن ضمنها “المستقبل الجميل” و “العذاب” (كلاهما اقتُبسا لأفلام وحصلا على جائزة أوسكار). ويعتبر كتابه “عضو العائلة الباق” المجموعة القصصية القصيرة له خلال ثلاث عشرة سنة. وتتعلق القصص في هذا العمل بإنهاء العلاقات، والاقتراب المفاجئ من الغُرباء. فمثلاً في “كرات الثلج” تشعر امرأة بحريتها بسبب إصابة زوجها بنوبة قلبية حادة، بينما في “الزراعة”؛ يلتقي رجل تلقى عملية زراعة القلب بأرملة المتبرع التي ينبض قلب زوجها في صدر هذا الغريب. حيث كتب راسل بانكس هذه القصة من منزله في كين، نيويورك، تلك البلدة الصغيرة التي سطّر فيها معظم قصصه.

يقول راسل بانكس: قرأت العبارة لأول مرة قبل نصف قرن، في مخزن لبيع الأثاث المستعمل في كين، (نيو هيمبشير)؛ ذو نافذة يغطيها الغبار والحلكة. تذكّر الموت. كُتبت كلتا الكلمتين بأحرف كبيرة، ونُقشتا تحت رأس مجنح له عينين واسعتين، وفم مفتوح لملاك جصّي صُنع من بلاطة ضريح أحد القبور في أواخر القرن السابع عشر أو أوائل القرن الثامن عشر.

وكنت أتذكر أنني دفعت لأجله أكثر من عشرة دولارات، إذ أنني كنت حديث عهد بزواج، وأتدرب كسباك وأعيش على دخل محدود.

كان نُصبًا يرمز للموت، وأظنني لم أكن أعلم تمامًا بأنه يرمز للموت، بالرغم من أنني  ترعرعت في نيو هيمبشر، ورأيت حتمًا العديد من هذه النصب في المقابر القديمة وباحات الكنائس. وفي غالب الأحيان كانت تلك النصب تصفعني كرسائل مزعجة تذكرني بالصفويين، بالثواب والعقاب، ولهيب الجحيم، وكان مروعًا أكثر من كونه دينيًا. كان ذلك عام ١٩٦٣، حيث كنت ملحدًا جدًا ومخالفًا للصفوية. ولكن أثرّ فيّ  شيء ما بهذا المُذكِّر تحديدًا، وكأنني لم أربط الكلمتين ببعضهمًا أبدًا قبل ذلك، ولم أدقق بمعنى أيّ منهما على حدة، أو أنني في الحقيقة اعتبرته فعل أمر. وكان علي إذ ذاك أن أمتلك واحدًا، وأن آخذه إلى المنزل، إلى شقتنا الصغيرة، وأعلقه فوق طاولة كتابتي؛ وبالتالي كلما رفعت رأسي من أوج صراعي لكتابة أول قصائدي وقصصي، فإنني أراه، وأتذكر الموت. وهذا ليس بالأمر السهل عندما تكون في مقتبل عمرك، أي في أوائل العشرينات، وفي صحة جيدة، ولم تشارك في حرب، ولم تفقد أحدًا قريبًا بعد. حتى جاك كيندي كان في واشنطن آنذاك ومايزال حيًا وعلى ما يرام.

إن العبارة وصورة الرسول الذي يحملها -الملاك في هذه الحالة- والذي يقال بأنه خادم للرب وغالبًا ما يكون أشبه بجمجمة، سبقت الصفوية، وربما المسيحية نفسها. ويحكي ترتليان في عمله Apologeticus قصة روماني مسن أوكل خادمًا ليقف خلفه عندما يجتمع الحشود لتمجيد مآثره، وأمر الخادم بأن يذكّره “انظر خلفك، تذكر بأنك رجل! وتذكر بأنك ستموت”

إننا نبذل كل جهد لمواراة (الموت) عن أنظارنا، وعندما يكون ذلك غير ممكنًا، فإننا نتحايل باستخدام اللغة.

إنه رأي حكيم، ولكنه ليس بسيطًا كما يبدو، وخصوصًا عندما يُلخص إلى هاتين الكلمتين. أن تتذكر الموت أي أن تنظر إلى كلا الاتجاهين قبل العبور، وأن تمعن النظر في الماضي وتتطلع إلى المستقبل في آن واحد. وقيل لك أن تنظر إلى الوراء لتتذكر ماذا حدث لكل إنسان قد عاش، وأن تنظر إلى الأمام وتتذكر كذلك ما سيحدث لك بلا مفر. وقيل لك أيضًا أن تراقب سلوكك، ماضيه وحاضره، لأن لجميع السلوكيات عواقب خالدة، ولأن مستقبلك مرتبط بماضيك.

وقيل لك أن كل ثانية محسوبة، فلا تضِع أيًّا منها. إنها ليست مجرد محاولة للإخبار، أو غمزة تذكيرية، قائلة- كما في عنوان سيرة جيم مورسون- “لا أحد يخرج من هنا حيًا” بل على مستوى عميق، أبعد من كونه شخصيًا محضا، وأبعد من الرومانتيكية الشعبية، وأبعد من السياسة، وأبعد من التاريخ، وحتى أنها أبعد من حركات الإبادة والإرهاب، إنها تقول إياك أن تنسَ. لذا، تلقيتها كأمر، وليس كمُذكِّر فحسب.

حث البوذيون القدماء بعضهم بعضًا على تذكر الموت، وبلا شك، فإن للحثيين روايتهم أيضا. ومن المؤكد أن الجنس البشري الذي طلى جدران كهوفه بصور للحياة والممات، وأباد البدائيين، قد اعتقد بهذا. وربما أن البدائيين أيضًا تذكروا الموت، بالرغم من أنهم لم يتركوا أي صور توحي بذلك.إلا إن الأمر بتذكر الموت، والحاجة لذلك، تبدو مسايرة لشعور الإنسان. ربما لأنه من السهل جدًا أن ننسَ. وتحديدًا في ثقافة كثقافتنا، تلك التي تريد -وبشدة- نسيان الموت. إننا نبذل كل جهد لمواراته عن أنظارنا، وعندما يكون ذلك غير ممكنًا، فإننا نتحايل باستخدام اللغة؛ فلا ينبغي علينا أن نقول “قد ماتت الأم” بل باستطعاتنا أن نقول “رحلت”. يؤمن أغلبية الأمريكان بالجنة؛ حيث أننا بعد أن “نرحل” ينتهي بنا الأمر إلى جيران ألطف، ومسكن أفضل مما كان لدينا في الدنيا، فهذه التي في الجنة بعقد إيجار أبدي وبلا رسوم للإيجار. وتؤمن ثلة قليلة بالجحيم، ولدى الكثير منهم قناعة بأن الجحيم موعود به أناس آخرون، غالبًا هم أولئك غير المؤمنين. أو لنقل، غير المسيحين.

حملت ذلك النصب الذي يرمز للموت لنصف قرن، من نيو هامشير إلى شمال كارولينا في منتصف وأواخر الستينيّات، ومرة أخرى إلى نيو هامشير ثم إلى جاميكا في منتصف السبعينيّات، وإلى نيويورك وبرينسيتون ونيوجيرسي، ثم إلى ريف نيويورك، حيث أقمت في السنوات الأخيرة. والآن إلى ميامي، حيث أقضي فصل الشتاء. كلما جلست إلى مكتبي وأعددت نفسي للكتابة، نظر إلي ملاكي وهمهم: تذكر الموت.

وفي يناير ٢٠٠٣ قرب حلول عيد ميلادي الستين، تسلقنا أنا وزوجتي، وابنتي وزوجها أليكس، واثنان من الأصدقاء القدامى، جبل كيلمنجارو سوية. كان أحد الأصدقاء -مارك ساكس- نحّاتًا وصانع تماثيل من نيومكسيكو. وبلا علم مني، أثناء تسلقنا وعند وصولنا لمنتصف الجبل، أوكلت زوجتي مارك ليحفر قطعة صلبة من حجر الغرانيت الرمادي، والتي كان حجمها مناسبًا لأن تكون بلاطة ضريح، وينحت عليها “تذكر الموت”. وفي أوائل شهر مارس، وقبل أسابيع من عيد ميلادي، وصل صندوق خشبي كبير إلى منزلنا في جبال آديرونداك. كان يزن قرابة مئتي باوند، وقضينا ساعة لفتحه. كان حجم الحجر بحجم كلب لابردور نائم، بينما بشكل أو بآخر كان على طراز محافظة لابردور. نُحتت الكلمات بشكل جميل على ذلك الحجر، بخط كلاسيكي روماني. لم يكن اسمي ولا تاريخ وفاتي هناك بعد، مما يجعلني أظل ممتنًا. ولكن ها هي بلاطة ضريحي هنا، أُعدت في وقت مبكر (مبكرًا بما يكفي، كما أتمنى) قابعة في زاوية الاستديو، وتنتظر.
___________

*حكمة فلسفي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *