وحش السلطة ورؤوسه الثقافية

*إلياس فركوح

إذا كان مفهوم المثقف بحاجة إلى إعادة نظر (خاصةً حين نعاين تخبطاته وانحيازاته الحادة في خضم الدراما الدموية العربية الراهنة)، وبالتالي إلى تحديدٍ جديد لجوهره، بناءً على التسارع غير المسبوق في المجالات المعرفيّة بحيث باتَ التراكم يشكّل، إضافةً إلى منسوبه الهائل، تغيّراً نوعياً فارقاً؛ فإنّ ذلك يستتبعه حتماً ضرورة إعادة النظر في الهياكل التنظيميّة التي كانت بمثابة التعبير عن شؤون المشتغلين في كافة حقول المعرفة والممثلة لهم.

وإذا كان مفهوم المثقف إيّاه يتسع ليتضمن جموع الأدباء، من شعراء وروائيين وكتّاب قصة قصيرة ونقّاد ومترجمين ومحققين في التراث – وحتّى بعض الإعلاميين، فإنّ هذا يعني، استطراداً لما سبق، ضرورة إعادة النظر في تلك الهياكل التي ظلّت تجمعهم تحت يافطاتها طوال الأربعة والخمسة عقود المنصرمة. يافطات وإنْ اختلفَت في أسمائها غير أن محمولها بقي هو هو، (بالنظر إلى أنظمتها الناظمة لأهدافها)، وكذلك لطبيعة المنضوين فيها. لا فرق بين اتحادٍ وجمعية ورابطة وأُسرة على امتداد الأرض العربيّة من الماء إلى الصحراء. جميعها واحدة، أو تكاد (باستثاء، حسب علمي، رابطة الكتّاب الأردنيين بسبب نشأتها في منتصف سبعينيات القرن الماضي بمبادرة من مثقفين خارج أُطر السلطة، وربما أخرى ذات خصوصية)؛ إذ انبرت كلّها متصديةً لمهام جليلة قوامها الدفاع عن الثقافة الوطنيّة وصونها من الغزو الآتي من ثقافة المستعمر.. وتعزيز الأدب الملتزم.. وردع العولمة الخبيثة.. والذود عن حريّة الكتابة ومَن يكتبونها!

لا بأس. ولِم لا؟

ولكن، كيف يمكن لغاياتٍ جليلة و”مصيريّة” كهذه أن تُترجَم على أرض الواقع، بينما تحتكم معظم تلك الهيئات الثقافيّة في تفاصيل عملها إلى غريميَن لا يرحمان، حيث يُبقيان أيّ جهد مبذول (مهما صغر) مطروداً من حيّز الفعل الحافر والمؤثر إيجاباً، أو يجعلان منه مخلوقاً شائهاً وهشّاً وفاقداً لمعناه.

الغريم الأول: حشو تلك “الهياكل” التمثيليّة بفيالق وجحافل مدججة بفرمانات السلطة وتعييناتها، الرسميّة وشبه الرسميّة، بحيث لا تحيد قراراتها عن عين “الأجهزة المراقِبة” و”المرجعيات المستريبة”. ولكي تضمن السلطة “السلامة المرجوة” الهادفة “خدمة الوطن” المهدَد دائماً بخبائث الاستعمار الخارجي و”أعوانه” في الداخل، ينبغي لـ”القيادات الساهرة” أن تبقى وتدوم في الواجهة مهما كلّف الأمر من تضحيات بأيّ رأي آخر مخالف ومختلف وغريب.. وبصاحبه – بطبيعة الحال! أما إذا عدنا للانتخابات، وصندوق ديمقراطيتها المعبأ مسبقاً (أسوة بالتصويت على مستوى رئاسة الدولة)، فإنّ المسألة “محسومة” بلا شك: تسعون بالمائة.. وما فوق!

الغريم الثاني: افتقار تلك الهياكل للنسبة المئوية الكافية لأعضائها المتمثلة في أعداد المنتسبين حاملي البطاقات، لتكون صاحبة تأهيل وكفاءة توازي وتماثل “الأهداف” الجليلة والنبيلة، والتي باتت هي نفسها موضع تساؤل وإعادة نظر. فثمة نقص حاد وفادح في المؤهلين للتصدي والقادرين على طرح كتابات مليئة تكنز في سطورها الأثقال المعرفيّة، والثقافيّة، والمفاهيميّة المتجددة كالطوفان العاتي، والتي، بمجموعها، تُجيب على أسئلة الأهداف الكبرى/ الشعارات البرّاقة وتتماهى معها وتترجمها على نحوٍ مقنع.

بذلك، وحين ندقق في الناتج الإجمالي عن تسيّد هذين “الغريمين” داخل تلك الهياكل المنظمة للفعل الثقافي، نخرجُ بكافة أشكال الظِلال والأشباه ولا نظفر، أبداً، بأيّ جسمٍ ممسوك (كونكريتي) يشكّل بذاته المعرفيّة الدقيقة والعلميّة جواباً جديراً بالمحاججة أو يتسم بإشكالية الجدال. خلا تكرار العموميات ذات النبرة الاتهاميّة “للآخر” المعمم الفضفاض حدّ الغموض، إنْ هو الشخص أو التفكير أو الطرح، لا نعثر على شيء سوى صدى الصَخَب المرتدي ثوب الادعاء الثقافي/ المعرفي المهلهل.

*   *   *

ذلك ما كان، وما يزال، وصفاً لغالبيّة الهياكل الممثلة لهشاشة الفعل الثقافي وفاعليه على الخارطة العربيّة. غير أن الأسوأ والأكثر تأشيراً على الفشل والركود والبلادة، يبدو جلياً عند إجراء عملية جرد حساب “المكاسب” المعلن عنها كأهداف، وأبسطها:

1. رعاية الكتّاب والأدباء في شتى أوضاعهم المعيشية الخاصة والعامة، بوصفهم كتّاباً ومواطنين أيضاً.

2. تجسير العلاقة في ما بينهم غايتها التفاعل الخلّاق من جهة، والقُرّاء المفترضين عبر نشر كتاباتهم وإشاعتها داخل شرائح المجتمع من جهة أخرى.

ولمعاينة “تاريخ” الهياكل المفرغة من الفعل الثقافي المرجو، والذي تنصُّ على جزئياته أنظمتُها ولوائحُها الداخلية، أعود لأرشيفي لأجد في عدد قديم من مجلة “الناقد” المتوقفة عن الصدور منذ سنوات وسنوات (العدد 41، 1991)، ملفاً مكرساً لاتحادات الكتّاب ومسمياتها الأخرى بعنوان: “اتحادات الكتّاب، الوجه الثقافي للقمع السياسي“. ومما جاء فيه، كشهادات حيّة على ألسنة مشاهير الكتّاب ما يدل دلالةً واضحة على أننا ما زلنا في حالة “مكانك مُتْ”.. على الأغلب!

إبراهيم أصلان: سقط المتاع الأدبي. أحمد الشهاوي: اتحاد برقيات التأييد والشكر والعزاء. أحمد عبد المعطي حجازي: تجمعات توجهها أجهزة الأمن. إدوار الخراط: جمعيات خيرية. أزراج عمر: كان “الاتحاد” ضعفاً. برهان غليون: أوهام الأدباء ووقائع السلطة. جمال الغيطاني: اتحاد أدباء البريد. جورج طرابيشي: ليس في الاتحاد قوة. زهير الجزائري: اتحادات الصوت الواحد. شوقي بغدادي: الإبداع لا يحتاج إلى مؤسسات. صنع الله إبراهيم: ذهب المُعز. الطاهر وطار: وكالات الأسفار.

أهذا يكفي؟ أهذا يكفي للإشارة إلى أن حاضر هذه الهياكل ليس سوى الامتداد البليد الفاقد لأي ضرب من الحيوية لذاك الماضي الكسيح المؤرَّخ قبل 26 عاماً بالتمام والكمال؟

هنالك العديد من النقاط التي تطرح نفسها كمحاور للحوار والنقاش. وهنالك الكثير من الاجتهادات. إنما الثابت غير القابل للإخفاء والتورية هو الفشل المبين كخاتمة سوداء لتلك التجارب التي وصلت للطريق المسدود. ومع ذلك ترانا نسأل: أهي تجربة الكتّاب العرب مع مؤسساتهم، أم تجربتهم في تفاعلهم الديمقراطي مع بعضهم بعضاً، أم تجربة السلطة ونجاحها في شلّهم واقتطاع مساحة واسعة من أراضي حرياتهم ومصادرة فضاءات تطلعاتهم؟

أسأل هذا، دون نسيان التآكل الذاتي على مستوى العمق المعرفي لدى الأغلبية من حاملي بطاقات العضوية، والذي عمل، بدوره، على اصطياد السلطات لنسبة عالية منهم (لهشاشتها وإدراكها لزيف الأدبية فيها) وتفعيلها وتوظيفها لتكون خادمة لها.

أسأل رائياً إلى أن أسئلتي يمكن جمعها ضمن علاقة  ذات رؤوس ثلاثة هي لب المسألة. وأن كل رأس منها يشكّل عنصراً حاملاً معطياته ليدخل في جدال محتدم مع الرأسين الآخرين، بما يتضمنان من معطيات بدورهما. كما أن حصيلة هذه العلاقة، بتفاعلاتها، يشير إلى المثقف العربي داخل واقعه الأبعد من الثقافي. إلى واقعه الشخصي مع مجتمعه ومدى قوة التأثير فيه، والتأثر به. إلى الحاجة لتوفر الجرأة في تناول هذا الواقع الخاص والعام، وتحديداً: الجرأة في مواجهة الذات.

ليس جديداً قولنا إن القمع يخلق بمرور الوقت آليته التي تطحن الأفراد في شدق قانونه؛ إذ كتبَ عن هذا فرانز فانون لمّا لاحظ أن المقموع يتحوّل إلى قامع أشد بطشاً ودموية، عندما تتاح له فرصة السلطة والحكم. وما يصح على المقموع هذا في الإطار السياسي يصح، كذلك، ومن خلال التجربة المعيشة، على المثقف عند أوّل فرصة تسنح له القبض على مقاليد سلطة، ولو في إطار اتحاد يضمه مع زملاء يشاركونه الهموم ذاتها!

ألهذا كلّه غالباً ما تولد الأشياء عندنا، من الصحراء إلى الماء، شائهة خاوية من معاني أهدافها المعلنة؟ أوليست جميع الإشارات العابرة لهذه الكتابة إنما تحدد سهم الاتهام الأوّل للسلطات أولاً وأولاً وأولاً، ثم تنفرش الجهات الأخرى كتفاصيل يمور بها بطن الوحش؟

يا لهذا الوحش كم يملك من رؤوس!

يا لهذا الوحش كم أصبحَ متوحشاً هذه الأيام!

_______
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *