القراءة فعل تركه الرجال فاتجهت إليه النساء

*سعد القصاب

الكتّاب قراء مختلفون، فالكتابة الخلاقة هي أيضا نتاج قراءة متميزة وخاصة، حصيلة استلهام معرفة تأطرت بوعي شديد الاختلاف لخبرة الآخر. بعض الخطابات ذات الطبيعة التأسيسية الصادرة عن قراء متميزين يحملون نظرات مختلفة عن القراءة، حملها كتاب “داخل المكتبة خارج العالم”، وهي نصوص منتقاة لتسعة كتاب عالميين قام بترجمتها راضي النماصي، حيث يعتبر أغلبهم أن القراءة حدث مدهش ينطوي على حرية قصوى في ممارسة الاكتشاف والتفكير والتخيّل.

القراءة متعة لا تنتهي

في أحد فصول الكتاب، الصادر عن دار أثر، تعترف الروائية والكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف (1882-1941)، بأن القراءة فعل محيّر يدعوها، بدءا، إلى استبعاد النصيحة حول كيفية ممارستها، لكنها توصي باتباع الحواس واستخدام العقل والتوصل إلى استنتاجات خاصة بشأنها، تكون إحداها بعدم إمكانية الاتفاق على تفضيل مؤلف دون آخر، كون الإجابات في هذا الشأن ذاتية بامتياز.

في مقالتها “كيف تقرأ كتابا كما يجب”، تفترض وولف أن ثمة ارتباكا ينشأ عند تعيين أي من الكتب التي يمكن البدء في قراءتها، كتب السيرة الذاتية، مثلا، تلك المغمورة بالفضول، ومحاولة استكشاف منازل تظهر أهلها وشؤونهم اليومية، كدّهم الدائم، وكدحهم الذي ينتقل مرارا بين النجاح والإخفاق. أو الرواية هذا الفن الصعب، الذي لا يحتاج معه إلى الإدراك بل إلى الخيال الجامح والجرأة، والإلهام الذي يأتي من قبلها بالتدريج وفي توقيته المناسب.

بينما كتب التاريخ تعرّف بالراحلين وهم يمارسون عاداتهم وحياتهم. وكذلك الشعر، هذا الفن المعاصر للحظة، الذي تتم الاستجابة من خلاله لحاسة نائية، الشعر الذي يجعل من يقرأه فاعلا ومشاهدا في الوقت ذاته، حيث يتكثّف فيه المعنى ويتوضّح مرة واحدة وإلى الأبد.

وربما ثمة أنواع من كتب أخرى، لكن مثل هذا الارتباك سينقضي حينما يكون الكتاب الذي تبدأ به القراءة هو الكتاب الذي يمدّ القارئ بالجديد، تقول فرجينيا إن القراءة “عملية أطول وأعقد من مجرد النظر”. تدعو الكاتبة وولف إلى أن تكون القراءة علاقة تساند الكاتب وتتواطأ معه، لكنها في الوقت ذاته تفترض سؤالا إشكاليا يتعلق بإلى أي “مدى يمكن أن نترك القارئ وهو يفسر الكاتب”؟

“يجب علينا أن نقارن فقط”، عبر هذه العبارة تسعى وولف إلى اكتشاف ذلك السر الذي يكتنف التعقيد الحقيقي للقراءة. هي توصي بقراءتين، ستكون الأولى مليئة بالغبار، حسب وصفها: آراء متضاربة، أحكام عاجلة، أشياء مشتتة ومتعددة، لكن القراءة الثانية هي التي يهدأ فيها الغبار، وسيكون للكتاب شكل مختلف، أكثر صلابة وسيبدو قطعة واحدة انتظمت تفاصيلها في أماكن محددة.

أما القراءة الثانية فهي تلك القراءة المقارنة، المستنيرة، والتي تحتاج إلى خيال أكبر. تبقى مسؤولية القارئ وأهميته في نظر فرجينيا وولف، في كونه كائنا مولعا بالقراءة وللقراءة في ذاتها. ذلك ما يمنح الكتب والكتّاب غنى وثراء وتنوعا، حيث القراءة متعة لا تنقضي، أو بالأحرى هي متعة من دون توقف.

القراء الجيدون

يعتبر الروائي النمساوي هيرمان هيسه (1872- 1962) ميل الإنسان إلى التصنيفات، وتقسيم الآخرين حسبها، بمثابة تمرين جيد للمرور بتجربة الفرد عن طريق الآخر. عبر هذا الميل إلى التصنيف ينحا هسه إلى تصنيف عالم القراءة، إلى مراحل. أولاها القارئ الساذج، الذي يستهلك قراءة الكتاب كما يستهلك الطعام، وهو لا ينظر إلى الكاتب كند له. يستمتع بمديحه ويقبل بتفسيراته وأفكاره من دون تحفظ. إنه نوع من القراء الذين يفترضون أن الكتاب وجد لكي يقرأه الآخرون بإخلاص ومن دون حكم “كما يوجد رغيف الخبز لنأكله أو السرير لننام عليه”.

ثمة القارئ الثاني وهو بمثابة قناص يبحث عن صيده، الباحث عن الأخطاء بعيدا عن الاهتمام بالمحتوى الجمالي. حرية الكاتب بالنسبة إليه بمثابة إكراه لا يخلو من السلبية. لكن هناك القارئ الثالث، هذا النوع هو من يمكن تسميته بالقارئ الجيد، الذي يواجه القراءة بحرية كاملة. الكتاب لديه هو لحظة للانطلاق وللتحفيز، يفسر العالم بنفسه ويضع قيمة عالية للتفكير أثناء فعل القراءة.

يستدعي فلاديمير نابكوف (1899- 1977) ضرورة التعاطي بحب وحميمية مع الروائع. ليس ثمة شيء أكثر مللا وظلما من قارئ يبدأ قراءة كتاب بتصور مسبق، كأن تكون رواية مدام بوفاري للروائي الفرنسي فلوبير شجبا للبرجوازية مثلا.

ينظر نابكوف إلى الكتاب بوصفه عملا فنيا ينطوي على خلق عالم جميل دوما. لذلك يجب أن نتفحص ذلك العالم الجديد قدر المستطاع، أي نصل إليه وكأنه شيء خلق للتو، ليست له صلة بالعوالم التي نعرفها من قبل. عبر هذا الفهم نتأهل في اختبار ما يربط الكتاب بالعوالم والفروع الأخرى من المعرفة.

يقترح نابكوف صورة للقارئ الجيد، الذي يعيد ما يقرأ. لطالما تعتبر القراءة الأولى مفتقدة إلى التقدير الفني، القراءة في حاجة إلى الوقت لغرض الـتآلف معها. إن هذه الممارسة تكاد تتحقق عند امتلاك شغف الفنان وصبر العالَم، العاطفة والصبر، فقدانهما يصعّب على القارئ أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم، ذلك الارتحال إلى مناطق نائية من المتعة.

المخاطرة بالحرية

يكتب الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا “أن قراءة الأدب في تناقض، وأن غالبية الباقين من القراء نساء”، بذلك يبدو الأدب وكأنه قد تحول إلى نشاط نسوي، في ظل خيار الرجال بتركه. التخلي عن قراءة الأدب حسب وصف يوسا وحصره في حدود الحياة الاجتماعية والشخصية لن ينتجا سوى مجتمع يخاطر بحريته.

يبقى الأدب قاسما مشتركا في التجربة البشرية يتعرف فيها الإنسان على نفسه وعلى الآخرين، بغض النظر عن اختلافهم جغرافيا وثقافيا. يساعد الأدب الأفراد على تجاوز التاريخ، والمشاركة في الخصائص الإنسانية في بعدها الزماني والمكاني. فالأدب وعبر قراءته لا يمثل تجربة فردية بل تجربة إنسانية مشتركة، وبدعوته إلى أن نكون جاهزين للتفكير، عبر النقاش والخيال والتواصل، بذلك ستكون الكلمات التي يحملها الأدب حاضرة في أفعالنا، ومن خلال الإمكانيات الخلاقة يستطيع ابتكار اللغة بمهارة وثقة عالية، قراءة تحررنا من إملاءات الحياة تلك التي تجبرنا على أن نكون الشخص نفسه، بينما نتمنى أن نكون مختلفين كي نرضي أنفسنا، في عالم مليء” بالحدود والموانع التي تقف بانتظارنا في كل مكان وفي كل خطوة لتفسد حياتنا”.

القراءة تغيرنا

يصف الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل نفسه بأنه قارئ استطاع الكتابة، ذلك ما أوضحه في مقالته التي جاءت بعنوان “أهمية المكتبات والقراءة”، لقد تعلم من قراءة الكتب أشياء لم يجربها من قبل، تجربة منحته حياة قبل أن يعيشها. يذكر مانغويل أن كل قارئ يخلق تناغمه الخاص مع الكتاب الذي يقرأه، وحينما نقرأ كتابا فإننا نملكه، نضمه إلى تجاربنا، ونفترض له تفسيرنا الخاص وكأنه أحد خياراتنا. لذا يجب أن تكون القراءة غير إلزامية، إنها كما المتعة، أو أحد أشكال السعادة الخالصة أو بالأحرى طريق حقيقي للوصول إليها. يعترف مانغويل بأن القراءة تغيرنا.

______

*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *