الجهوية الثقافية


*سعيد يقطين


تم عزل المغرب عن العالم منذ أن طرد العرب من الأندلس. فانتهت علاقته مع أوروبا من جهة الشمال، وأحكم الإسبان والبرتغال القبضة على أفريقيا بوابة المغرب الجنوبية. وكانت محاصرته شرقا من لدن العثمانيين دافعة لانكماش المغرب على نفسه، مكتفيا بالدفاع عن وجوده. 
بدأ الصراع يحتدم في الداخل بسبب القلاقل والأوبئة، وكانت بين الفينة والأخرى تبرز ضرورات مواجهة المتربصين بالسواحل المغربية. تشكلت في هذه الظروف التاريخية ثنائية المخزن والسيبة، حيث تحاول القبائل فرض وجودها، والمخزن استعادة هيبته. ظلت هذه الثنائية سائدة حتى الاستعمار، وحلت محلها ثنائية جديدة: المغرب النافع وغير النافع. لقد اهتم الاستعمار بالمناطق الساحلية وبالموارد الطبيعية القابلة للاستثمار ذاتها، وأهمل باقي المناطق. ورث المغرب هذا التقسيم، وهكذا بتنا أمام المركز والهوامش. فإذا كان المركز في الحواضر الكبرى بصورة خاصة، كانت الهوامش عالم البادية والقرى التي ظلت على حالها منذ أزمان بعيدة إلى الآن.
جاء التقطيع الجهوي للخريطة الانتخابية في التجربة الحالية (2015)، ليقدم لنا بنية جديدة لتقسيم المغرب إداريا واقتصاديا إلى اثنتي عشرة جهة. إنه بذلك يقطع مع تاريخ طويل عريض من التركيز على مناطق المخزن أو المغرب النافع أو المركز. ولا يمكن في حال النجاح في تطبيق هذه الجهوية سوى خلق إمكانات لتطوير الجهات التي ظلت معزولة ومهمشة. أما مواكبتها التطور الذي تعرفه بعض الجهات الأخرى، فيتطلب ردحا طويلا من الزمان.
تركز الاهتمام على البعد الانتخابي والاقتصادي والإداري للجهات، لكن الجهوية الثقافية قلما يتم الانتباه إلى أهميتها في تطوير الجهات والعناية بمؤهلاتها الثقافية الغنية. لقد اعتبر الاستعمار المغرب في إعلاناته السياحية بلد الـ»ألف مملكة ومملكة». وهو لا يعني بذلك سوى التعدد الغني التي يعرفه المغرب على المستويات كافة. ولا يمكن الحديث عن الوحدة الوطنية أو الثقافة الوطنية بدون الانطلاق من التعدد والتنوع الذي يطبع المغرب، ويؤثث فضاءاته المختلفة. إن أي «وحدة» في أي مجال، من البيولوجيا إلى الاجتماع، تعني أن ثمة مجموعة عناصر، أو «بنيات»، لكل منها خصائصها، لكنها تترابط في ما بينها وتتفاعل، من خلال «علاقات»، لتشكل الكل الذي تنتمي إليه. ولا يمكن أن تقام تلك الوحدة على أسس سليمة بدون الانتباه إلى عناصرها ومكوناتها المختلفة. 
في ضوء التحول الجديد الذي يسلكه المغرب لا بد من إعادة النظر في المغرب الثقافي، كما مورس منذ الاستقلال، بجعل الاهتمام بالمسألة الثقافية ينصب على مختلف المكونات التي تتضمنها الجهات. ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى أن نجاح أي تجربة جهوية لا يمكن إلا أن يقاس بمدى اهتمامها بالجهوية الثقافية لأنها هي الرافعة الأساسية لأي تحول في التصورات والذهنيات.
إن البعد الثقافي للجهوية يعزز الوحدة الثقافية، لأنه يرمي إلى تطوير البنيات الثقافية المختلفة، وفي كل الجهات بدون تمييز أو تفضيل. فإذا كانت البادية حتى في السهول القريبة من محور الدار البيضاء ـ الرباط معزولة، ماذا يمكننا أن نقول عن القرى النائية في الجبال التي تقطع ثلوجُها ساكنتَها عن باقي المغرب، أو عن الصحراء التي يصعب اختراقها أو التفكير في اقتحام عوالمها؟ ولا يمكن تطوير البنيات الثقافية الفوقية بين مختلف الجهات بدون توفير بنيات تحتية أساسية. وهذا أحد الرهانات الأساسية التي ينبغي أن تشدد عليها مجالس الجهات عبر الشراكة وتبادل الخبرات والتجارب والإمكانات. كما أن الرهان الأكبر يتمثل في إعطاء البعد الثقافي المكانة الأساسية في عمل الجهات. 
تقدم لنا تجربة العلماء المغاربة قديما، ورجالات الحركة الوطنية، في نضالها ضد المستعمر، تصورا قائما للجهوية الثقافية، عبر اهتمام بعض رموزها مثل: عبد الرحمن بنزيدان (حاضرة مكناس) والمختار السوسي (سوس) ومحمد داود (تطوان)، على سبيل التمثيل، بما تزخر به المناطق التي ينتمون إليها، لأنهم أعرف الناس بها، من معالم ثقافية ومؤسسات ورجالات وإنجازات. فتركوا لنا بذلك تراثا مهما، بقدر ما هو خاص بجهة ما، هو تراث مغربي وإنساني، يمكن تطويره وإغناؤه وتقديمه رصيدا ثقافيا وفنيا يعكس ما يتمتع به المغرب من إمكانات ومؤهلات.
كما يمكن للمؤسسات الثقافية المختلفة (اتحاد كتاب المغرب مثلا)، أن يراعي في بنية تكوينه «الجديدة» بُعد الجهة، وأن يجعل فروعه تتلاءم مع الجهات، بدل المدن كما كان سابقا، وأن تتضافر كل الجهود الرسمية والشعبية لإعطاء الثقافة بعدا جديدا، لا يميز بين الثقافة العالمة والشعبية، أو بين الثقافات بحسب اللغات والجهات.
تستدعي الجهوية الثقافية التفكير في تصور مختلف للمغرب الثقافي، الذي ينبغي أن يحتل موقعا مهما إلى جانب القطاعات الأخرى، سواء على مستوى الوعي أو الممارسة. وبدون التفكير في استراتيجيات جديدة للعمل يعطي للبعد الثقافي المكانة التي ينبغي أن يحتلها في التنمية البشرية لا يمكننا سوى إعادة إنتاج التجارب السابقة التي ظلت تتعامل مع المسألة الثقافية والنشاط الثقافي على أنهما ترفيه وصرف للميزانيات وتنافس على تنظيم المهرجانات…
إن التفكير في الجهوية الثقافية مطلب أساسي وحيوي للتطور، وإلا فالجهوية ليست سوى تقطيع انتخابي؟
________
*المصدر: القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *