ليست الكتابة عملاً فردياً

خاص- ثقافات

*د. عبدالجبار الرفاعي

اقترنت صورة أغادير في مخيلتي منذ سنوات بديناميكية ثقافية تتطلع لكل ماهو جديد. رأيت النخبة من شباب هذه المدينة الذين كانوا ينتمون لمرجعية إسلامية وتكوين حركي، لم ينغلقوا على الأدبيات التقليدية للجماعات الدينية، فخرجوا على تلك الأدبيات، ولم يكن لديهم ماهو محرّم في التفكير والكتابة والتعبير، كما هو متعارف عليه في تقاليد تربية وتثقيف تلك الجماعات. فشكراً لكل الأصدقاء في هذه المدينة الجميلة، وشكر خاص لجماعة نادي أبعاد للقراءة، الذين خصصوا ملتقى هذا اليوم لقراءة كتاب: “الدين والظمأ الأنطولوجي”.

عندما صدر هذا الكتاب لم يكن مؤلفُه يعرف كيف سيتلقاه القراء، ذلك أنه في اللحظة التي يصدر فيها أيُّ كتاب فإن رهانات الواقع هي ما يفرض عليه كيفيةَ الحضور أو الغياب. الكتاب الحقيقي يكتب تاريخه الخاص، امتلاك المؤلف للكتاب ينتهي لحظة انتقاله للقراء، ولا يعود باستطاعته التحكم بمصائره التي تفرضها سياقاتُ تلقيهم، ومواقفُهم المضادة أو المتفقة معه. ويحكي لنا تاريخُ الكتابة أن المواقفَ المضادة لأي كتاب تكرّس حضورَه وتمنحه عمراً طويلاً، وربما تخلده، في حين ليس للمواقف المتفقة مع الكتاب مثل هذا الأثر.


القراءة النقدية رافد أساسي يثري الكاتب ويفرض قراءةَ الكتاب، فيضئ للكاتب ما هو معتم من تفكيره، ويكشف له الواهنَ من أفكاره، ويمدّ الكتابَ بشيء من إكسير الحياة، بعد أن يكرس حضورَه لدى القراء. كل كتاب خارج المراجعة والنقد تحذفه ذاكرة الكتابة بالتدريج.

لا قيمة لكتاب يكرّر ما هو مكرّر في لغته وأفكاره، ولا يحدث أسئلةً وجدلاً. لا قيمةَ لأفكار تنسخ الموروثَ والمتداولَ والمألوف. الحجر الذي يكسر صمتَ ماء البركة يحدث ضجيجاً وموجاً.

ألّفتُ ونشرتُ الكثيرَ من الآثار، وكتبت عشرات البحوث والمقالات، لكني فوجئت أن كتاب “الدين والظمأ الأنطولوجي” هو الوحيد الذي أطلق ومازال سلسلةَ أسئلة واعتراضات، وأثار الكثيرَ من الجدل، وصدرت حياله مواقفُ متنوعة، بل متضادة، بلغت أحياناً حدّ السخرية بالكتاب، واتهام إيمان الكاتب، والتنكر لتاريخه، ما يعني أن هذا الكتاب أنجز شيئاً من وعوده. وما أسعد كل كاتب عندما يصبح كتابُه أحدَ “عناوين الضجة”.

أنا ممتن لكل من ينقد كتاباتي، بل حتى من يتهكم عليها أو يسخر منها، فمن ينقدها أتعلم منه، أما من يتهكم عليها أو يسخر منها، فلا شك أنه يزعجني ويؤذيني، لكنه يعمل على ترويجها. الكلام الكثير والمتواصل عن أي كتاب يؤشر إلى قوة حضوره واشتداد تأثيره.

الكتابة ليست عملاً فردياً بحتاً، فكل كتابة تختزل سلسلة طويلة من الكتب والنصوص التي قرأها الكاتب وتشبع بها وتمثلها وعيُه، ثم غطست في أعماقه. الكتابة عمل جماعي مشترك، ترتسم فيها ألوانُ النصوص التي طالعها الكاتب، إذ لا يتكون الكاتب إلّا بعد أن يقرأ كلَّ شيء، وينسى معظمَ ما قرأ.

لاتبدأ أيةُ كتابة جادّة من الصفر، ففي كلّ نص ترقد عدة ُطبقات من النصوص. في كلّ نص تتجلى نصوصٌ متنوعة تحيل إلى معجم الكاتب اللغوي، وتتكشف بها ثقافتُه التي أنتجتها قراءاته وتفكيره وتأملاته. في كلّ نص نستمع لأصوات نصوص عديدة، يتناغم فيها إيقاعُ عدة أجناس من الكتابة تتوحد ألحانها وكأنها لحن واحد.

تردني بين حين وآخر تعليقات لاذعة، لا تخلو من سخرية وتهكم، يكتبها بعضُ القراء على هامش نصوصي، التي ينشرها ويتداولها بعضُ المعجبين في الفيس بك ومجموعات الواتس أب. ووسائل التواصل الأخرى.

أرسل لي صديق مثلاً نقداً موجزاً، لا يخلو من تهكم، لأديب أحترمه، وقبله أرسل لي صديق آخر نقداً لرجل دين لا أعرفه، يتلخص في أن ما أكتبه انما هو أدب وشعر وانشاء، وليس فكراً أو فلسفة أو علماً. وهي كلمة سمعتها عدة مرات في الحوزة، ممن يتندرون بالأدب الحديث، ويهجون الإنشاء، ويزدرون معظمَ أجناس الأدب، ماخلا الشعر العمودي، ويحسبون كلَّ لون أدبي سواه فائضاً لفظياً. وكأنهم هم لا يعلمون أن الكتابة هي “فن الانشاء”. وكما قال الجاحظ: “المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمى والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير”. وما أجمل تعبير بورخِس: “النتاجات كلها هي نتاج كاتب واحد مجهول الهوية، وغير مقيَّد بزمن”. ويصوّر لنا بورخِس كيف تجلت صورة المكتبة له، بما تختزنه من كلمات وقصائد وأحلام ومخيلات، إذ يكتب: “المكتبة هي ذاكرة الكلمات، وتحتوي على القصائد كلها، والأحلام كلها، ومخيلات الجنس البشري كلها، اذا ما أُحرقت وتحولت كتبها رماداً، سيأتي زمن آخر يعاد تأليف الكتب ذاتها، ولا شيء يضيع”.

وكنت قد سقطت حتى نهاية العقد الثالث من عمري في أسر هذا الأحكام. وعزز ذلك نشأتي القروية، وتقاليد الأصولية الصارمة في التربية والتثقيف التي عشتها أمس، وتكويني الحوزوي التراثي. كل هذه المحطات في تكويني جعلتني لا أهتم بالرواية وأكثر أشكال الأدب والفن، وأحسب الأعمال الخالدة لدوستويفسكي وجيكوف وتولستوي وماركيز ونجيب محفوظ وغيرهم مجرد ترهات، لكن بعد أن استفقت من سكرتي، وطالعت تلك الأعمال وغيرها من النصوص الملهمة، أدركت حينئذ أن الترهات هي أحكامي بالأمس، بل الترهات هي بعض كتاباتي أمس. أضاءت لي الروايةُ والأدب وبعضُ نصوص التصوف المعرفي والفلسفي اللوحاتِ الأغنى للحياة البشرية، وعوالمَها الباطنية العميقة، وألوانَها المختلفة، وتضاريسَها المتضادة.
في تطور الفكر البشري كلُّ فكرة لا تكرّر المألوفَ تمثل فضيحةً لحظةَ اطلاع أكثر القراء عليها، لذلك تتعرض للكثير من: الهجاء والتهكم والازدراء. وعلى من يعتنقها أو يكتبها أو يتحدث بها أن يدفع ضريبة باهضة. لكن بعد أن تصبح مألوفةً، يزعم البعضُ أنه تبناها وقال بها من قبل، وبعد زمن يمسي من يرفضها متخلفاً.

لدي وعي تام بكل عبارة أكتبها، إذ لا أكتب عبثاً أو غثياناً، وانما أحاول أن أكتب”رسائل في الايمان” بلغة العصر، عساني أوقد شمعةً للأرواح الضائعة، وأسهم في إنقاذ ضمير الجيل الجديد، وأبدّد شيئاً من عتمة الأرواح والقلوب والعقول المظلمة.

كلُّ كتابة ضربٌ من تدوين السيرة الذاتية، وإعادة رسم الكاتب لصورته عن ذاته والعالم من حوله.كتاب “الدين والظمأ الأنطولوجي” خلاصةُ أسفار الروح والقلب والعقل مدةً تزيد على نصف قرن. يختصر هذا الكتاب مطالعاتي ودراساتي وتدريسي، وما تعلمته من تلامذتي وأساتذتي، كما ترتسم في ثنايا كلماته محطاتُ وجروحُ حياتي. إنه شكل من أشكال تدوين السيرة الذاتية. هذا الكتاب “رسالة في الايمان”، بمعنى انها وثيقة لإحياء الإيمان، وليس كتاباً أكاديمياً. الكتب من هذا النمط تخاطب الروحَ، والقلبَ، والضميرَ، عبر العقل. الكاتب الأصيل يكتب ذاتَه. أعمق تجلّ للكاتب أن تكون كتابتُه هو، ويكون هو كتابتُه. هذا هو الكتاب الذي يمثلني، ويعبّر عن مفهومي للدين والايمان. كلُّ كاتب يكتب كتاباً واحدًا، ما قبله تمارين، وما بعده تنويعات.

إنما كتبت هذه الكتاب بعد خبرة في التراث لأربعين عاماً من الدراسة والتدريس في الحوزة النجفية والقمية، وإصدار مجلتين متخصصتين بتحديث التفكير الديني عبر ربع قرن، فضلاً عن  إصدار عدة سلاسل كتب، وكتابة مجموعة مؤلفات، وعشرات البحوث والمقالات والمساهمات في المؤتمرات والندوات. ومازالت حتى اليوم بعضُ كتبي ودروسي المسجلة صوتياً يتداولها الطلبةُ في الحوزة.

لا أهمل الكتابات العلمية النقدية لما أكتب، إذ تتضمن الطبعةُ الثانية من كتابي: “الدين والظمأ الأنطولوجي” ملحقاً نشرت فيه عدة مقالات في عرض ونقد الكتاب، كتب بعضَها باحثون لا يؤمنون برسالة إيجابية للدين في الحياة الاجتماعية، كما أؤمن أنا برسالة الدين وأثرِه البنائي في الحياة، وكلٌّ منها نشرتُه مشفوعاً بجوابي.

يمكن لمن يريد أن يتعرف على كتاب “الدين والظمأ الأنطولوجي” أن يطلع على أكثر من أربعين مقالة نُشرت عن الكتاب، في مختلف الصحف الورقية والألكترونية، بالرغم من أنه صدر مطلع العام الماضي. وقد وصلتني عشراتُ الرسائل من مختلف القراء، “معظمهم ممن لا أعرف”، تشدّد كلُّها على تأثر القراء بهذا الكتاب. بعضُ القراء أخبرني أنه طالعه عدة مرات، فقد أخبرتني تلميذة دكتوراه علوم قرآن، بقولها: “طالعت كتابك خمس مرات، واحتاج أن اطالعه مرات أخرى، لأنه غيّر حياتي”. وورد ما يشبه هذا القول في رسائل شخصية تردني باستمرار من قراء شباب لا أعرف أغلبهم. خالص الود والامتنان لكل القراء في ملتقى القراءة الجماعية لنادي أبعاد.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *