*سعيدة تاقي
“نحن لم نحدث، لأننا لم نكن موضوعا لتفكير أحد.”
الوشيجة لـ هنري ميلر
مفتتح:
لماذا نواصل الكتابة بإبداع؟ لماذا هذا الإصرار على الكتابة من جديد في كل مرة رغم إحباطات مجال النشر و انحسار مد القراءة و إكراهات سوق التداول؟ ما الجدوى من الكتابة؟ و ما الذي يتغير في العالم كلَّ صبحٍ نسجِّل فيه أنفسنا على قيد الكتابة؟ أو ما الذي سيتغير في العالم إن نحن انقطعنا عن فعل الكتابة؟
على الرغم مما يلوح على ضمير المتكلم الجمع من تفخيم فإن العماء الذي يكتسح العالم بشرقه و غربه كل يوم أكثر يعزل ذلك الضمير و يضعه في خندق صعب و حَرِج بَيْن مواصلة محايثة العالم بدل الانغمار داخله و بين الإصرار على التشبث ببرج الكتابة المنعزل.
فلماذا الإصرار على إبداع الكتابة؟ و هل الكتابة وسط كل هذا السواد نقمة أم شرف أم ترف؟
هل الكتابة كتابةٌ للذات؟…:
لعل الكتابة يصدق عليها في صلتها بالذات الكاتبة ما قد صاغه نابوليون بونابارت في سياق مغاير كليا لمقام هذا المقال حيث يقول: “لن يذهب بعيدا من يعرف مسبقا إلى أين يريد أن يذهب”. فالذات الكاتبة تكتب لأنها ذاتٌ كاتبة لا يمكنُها أن توجِد أوّلاً ذاتَها إلا عبر رحِم الكتابة. و تكتب ثانياً لأن مسار الكتابة هو الذي سيحقق حياة تلك الذات بالفعل ضمن سيرورة التطور و التحول و الاغتناء. و تكتب ثالثاً لكي تشارك في صنع العالَم الذي تجايله من منطلقات وجودية و فكرية و حضارية. فبالنظر إلى أن الكتابة هي رؤية الذات الكاتبة إلى العالَم، تتحرَّر عبرها تلك الذات من قيود العزلة الاختيارية التي تقتضيها ممارسة الكتابة، و تعود إلى العالم الذي تحيا داخله ضمن إكراهات برج الاعتكاف، أو تحايثه من منظور الاغتراب الإبداعي، فإن الورقة البيضاء تستدعي تلك الذات إلى تصريف موقفها عن إرادة و امتياز و مسؤولية، و هي تشيد تصوراتها التي تتحيَّز ضمن العالَم، في كل فعل كتابة مهما بدا جزئيا أو عابرا أو إبداعياً.
إن الكتابة و هي تحس عزلتها الذاتية ـ وفق ما يذهب إليه رولان بارط في “الدرجة الصفر للكتابة” ـ “ليست سوى مخيلة تتلهّفُ إلى سعادة الكلمات، فهي تسارع نحو لغة فُضلى تُصوِّرُ نَضارتُها ـ باستشراف مثالي ـ كمالَ عالمٍ آدمي جديد حيث تتحررُ اللغة من اغترابها.”
لكن فعل الكتابة لا يحرر اللغة من اغترابها فحسب بل يحرر الذات الكاتبة من اغترابها كذلك. يقول بارط: ” فالكاتب أمام الورقة البيضاء لحظة اختياره للكلمات التي ينبغي لها أن تشير إلى مكانته في التاريخ بجلاء، و تشهد على تحمله لمعطياته، هذا الكاتب يكون ممزقا تمزقا مأساويا بين ما يفعله و ما يراه. فالعالم المدني يشكل “الآن” على مرأى منه طبيعةً حقيقيةً. و هذه الطبيعة تتكلم، و تنشئ لغات حية، الكاتب معزولٌ عنها.”
إن الكتابة بما هي فعل مُنتِج لوجود الذات الكاتبة ـ بعيدا عن التحديد البنيوي الذي يربط الكتابة بتحقق نظام اللغة ـ لا يقف عند حدود تلك الذات بل يستحضر ضِمناً الطرفَ الآخر، ذلك الغائب لحظة اعتكاف الأنا الكاتبة على إبداع الكتابة، ذلك الآخر الذي بدوره عندما سيمارس سلطته بوصفه قارئاً لحظة قراءة ذلك النص المكتوب، سيتملَّك النص و سطوات القراءة و التأويل ليَغِيب ذلك الآخر الذي أنتَج النصَّ، تلك الذات الكاتبة التي أطلقت شرارة فِعْـل الكتابة لكي “يكُونَ” النصُّ المكتوب/الكتابةُ و لكي “تكُونَ” الذاتُ الكاتبة ذاتاً كاتبةً بالقوة و الفعل.
… أم الكتابة للقارئ؟:
يؤكد أمبرتو إيكو في مقاله “كيف أكتب؟”: “لا أرغب في التشجيع على التصريحات التي تقول إننا نكتب لأنفسنا. احذروا الذي يقول هذا النوع من الكلام، إنه نرجسي و محتال و كذاب. الشيء الوحيد الذي نكتبه لأنفسنا هو لائحة المشتريات. إنها تساعدنا على تذكر ما يجب أن نشتري، و عندما يتم ذلك يمكن التخلص منها لأنها لا تصلح بعد ذلك لشيء. إن كل ما نكتبه نقوم به لنقول شيئا ما لشخص ما.”
لكن إيـكو رغم ذلك يصف قراءةَ الـشعـر و قراءة الـروايـة بـ”وضع النـص في قـنينة”، و لتـشخيص هذا المجاز التصويري ضمن محاضرته “بين المؤلف و النص” يقول: “عندما يتم إنتاج نص ما لا لكي يقرأه قارئ بعينه، بل لكي تتداوله مجموعة كبيرة من القراء، فإن المؤلف يدرك أن هذا النص لن يؤول وفق رغباته هو، بل وفق استراتيجية معقدة من التفاعلات التي تستوعب داخلها القراء بمؤهلاتهم اللسانية باعتبارها موروثا اجتماعيا. إن الإرث الاجتماعي لا يحيل، في تصورنا على لغة بعينها بوصفها نسقا من القواعد فحسب، بل يتسع هذا المفهوم ليشمل الموسوعة العامة التي أنتجها الاستعمال الخاص لهذه اللغة، أي المواصفات الثقافية التي أنتجتها اللغة، و كذا تاريخ التأويلات السابقة الخاصة بمجموعة كبيرة من النصوص، بما في ذلك هذا النص الذي بين يدي القارئ.”
و لعل ذلك ما حفز إيكو إلى أن يصرح في آخر مقاله “كيف أكتب؟”: “لقد تساءلت مرارا، هل سأواصل الكتابة لو جاءني من يقول لي غدا ستضرب الكون كارثة و تدمره كليا، فلن يكون هناك من يقرأ ما كتبت اليوم؟”. و يواصل: ” في الوهلة الأولى سيكون الجواب بالنفي. لماذا نكتب إذا لم يكن هناك قراء. بعد ذلك سيكون الجواب نعم، و ذلك فقط لأنني أتمنى، بعد كارثة الكواكب هاته، أن نجمة ستُكتب لها النجاة و سيكون هناك شخص قادر على فك رموز علاماتي. حينها سيكون للكتابة معنى، حتى و نحن على أبواب القيامة (…) إن الذي لا يعرف كيف يتوجه إلى قارئ مستقبلي هو إنسان تعيس و يائس.”
البحث عن المعنى:
يرى جاك دريدا أنه لا وجود لشيء خارج الكتابة. و قريبا من مقولة هيدغر “الشعر هو جوهر الأشياء و التسمية الأولى للوجود”،فالوجود في عرف هيدغر صامتٌ أخرس لا صوتَ له و لا كلمة، يؤكد دريدا في قراءته لاعترافات جان جاك روسو: ” إن ما يدشن المعنى و اللغة هو الكتابة، باعتبارها تغييباً/(اختفاءً) للحضور الطبيعي.” لأجل ذلك يصل دريدا إلى الإقرار في مقاله “نهاية الكتاب و بداية الكتابة” بأن “معنى الوجود ليس مدلولا متعالياً أو مخترِقاً للحقب و إنما هو، من قَبْلُ، و بمعنى غريبٍ بصريحِ التَّعبير، أثَرٌ دالٌ محدِّد، فهذا يعني التوكيد على أنّه لا يمكن داخل المفهوم الحاسم للاختلاف الأنطولوجي التفكير بالشيء كلِّه دفعة واحدة”. و هكذا فالمعنى مؤجَّلٌ و متعدِّدٌ. إن المعنى و الأثر (أثر العبارة على متلقّيها) ـ وفق دريدا في مقاله “في اللغة” (و هو حوار هاتفي يقترح فيه المحاوِر على دريدا كتابة مقالة في اللغة لصالح “لوموند الأحد”) ـ “لا يتحقَّقان و لا يتمنَّعان على نحو مطلقٍ أبداً. بل هما يدَّخران لكل قارئ محتمَلٍ مستودعاً كاملا لا يعتمد على ثراء جوهري، أي كامن في جوهر النص ذاته، بقدر ما يوجد في هامش متغيِّر في المسار… إن التعبير نفسه “أيُمكنك أن تكتب…؟” يمكن أن يحيل إلى تعددّية من “النصوص” الأخرى (عبارات، حركات، نبرات، مواقف، علامات فارقة من كل نوع)، و إلى “آخرين” آخرين بعامة. و إن بمقدوره أن يتلقى نتائج أخرى و تَراكُبات و “انغراساتٍ” و استعدادات و استشهادات… و لا تنحصر هذه الإمكانات و هذه القوى الأختلافية بعلم اللغة و حده: و لذا أفضِّلُ الكلام على آثارٍ أو نصٍ أكثر من الكلام على اللغة.”
مختتم:
من الأنا الكاتبة إلى الآخر/القارئ حلقة بحث عن معنى تنشده الكتابة أوّلاً و تلاحقه القراءةُ ثانياً. لكن المعنى المبحوث عنه ليس الكامن في النص/الكتابة و حسب، بل معنى الكينونة كذلك، معنى الوجود في العالم. إن الكتابة بمعناها الإبداعي خلقٌ متجدِّدٌ ( و في ذلك نفحات صوفية): هو تخلُّــق للذات (الذات الكاتِـبة) يخلُـق الكتابةَ (النصَّ)، و يفضي عبر تخْـلِيق/خَلْقِ العالَم بين دفتي “النص”/”الكتابة” إلى تخْلِيق/خَلْقِ الآخر/القارئ، (المُفتَرَض) الذي بدوره يخلُق ذاته الأخرى/القارئ العيني الذي يعيد تخْلِيقَ/خَلْقَ ذاته مرة أخرى بعد خَلْقِه للقراءة.
فهلَّا نبدع و نكتب من جديد؟!
____
– كاتبة من المغرب.
نشر بالإمارات الثقافية/ العدد 54.