الحقيقة ليست بيضاء

* د.حسن مدن

ما الذي شدَّ إدوارد سعيد في سيرة جوزيف كونراد؟ ما حمله أن يجعل من هذا الأخير ومن أدبه مادة لأطروحته لنيل الدكتوراه، التي اختار لها عنوان: “جوزيف كونراد وكتابة السيرة الذاتية”.
بعض الجواب، وربما كله، نجده حين نعرف سيرة كونراد نفسه التي تتقاطع في بعض أوجهها مع ظروف تنشئة وسيرة إدوارد سعيد، فكونراد الذي يصنف ككاتب بريطاني هو بولندي المولد والتنشئة ولم يتعلم اللغة الانجليزية إلا لاحقاً، ليصبح واحداً من أهم كتابها.
في أطروحته للدكتوراه دققَ إدوارد سعيد في روايات كونراد ورسائله، ليقع على الكثير من تلك التقاطعات بينهما، وخاصة من حيث الإحساس بالمنفى، والوجود داخل اللغة وخارجها في آن واحد .إنه نفس الإحساس الذي عبر عنه محمود درويش في رثائه لإدوارد سعيد حين قال على لسان الأخير: “لي لُغَتان، نسيتُ بأيِهما/ كنتَ أحلَمُ/ لي لُغةٌ إنجليزيةٌ للكتابةِ/ طيِعةُ المفردات/ ولي لُغَةٌ من حوار السماء/ مع القدس، فضيَةُ النَبْرِ/ لكنها لا تُطيع مُخَيلتي”.
مثله وجد كونراد البولندي نفسه محمولاً على مغادرة لا وطنه وحده، وإنما لغته أيضاً، ليكتب، كما كتب إدوارد سعيد، بلغةٍ غيرها.
شغف إدوارد سعيد خاصة برواية كونراد “قلب الظلام”، التي تتحدث عن العنصرية البيضاء وفيها وصف الاستعمار بأنه سطو مسلح وسلسلة لا تنتهي من جرائم القتل، حيث ينفذ الجنود ذلك كالعميان، فالعميان هم الأقدر على مواجهة الظلمة، مندداً بالغزو الذي “يعني سرقة ما يملكه أولئك الذين لهم لون بشرة مختلف أو أنف مفلطح قليلاً”.
علينا بعد هذا أن نفهم أيضاً العناية التي أولاها إدوارد سعيد نفسه لفرانز فانون، المارتينيكي المولد والفرنسي الجنسية، الذي اهتمَ، هو الآخر، خاصة في كتابه الشهير: “بشرة سوداء..أقنعة بيضاء”، بتحليل سلوك الرجل الأبيض لا في المستعمرات وحدها، وإنما في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، حيث كرر البيض في علاقتهم مع الهنود الحمر سكان القارة الأصليين، ما فعله البيض الأوروبيون في مناطق العالم الأخرى.
بعد ذلك بقرون سيأتي الفتيان الأمريكان السود يرددون في المدارس نشيد “آباؤنا الغالون”، وهو نشيد يتماهى مع المستكشف، مع الرجل الذي يزعم أنه جلب الحضارة، جلب الحقيقة “البيضاء” تماماً، صافية.
يُراد من هؤلاء الفتيان نسيان أن تلك الحضارة البيضاء إنما شيدت بعرق ودماء أجدادهم، فالآباء الغالون في النشيد ليسوا هم أولئك الهنود الحمر الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم تقريباً، لحظة أتى المغامرون البيض بحثاً عن الذهب في العالم الجديد.
أصرّ كولومبس بعد أن وصل إلى الأراضي الأمريكية على أنه بلغ الجزر الهندية الشرقية الرائعة التي وعد ملوك إسبانيا الذين موّلوا رحلته بأنها ستجلب لهم الذهب والعاج والبهارات النادرة.
قال كولومبس: “أعطوني سفناً . أعطوني فقط سفينة واحدة وسآتيكم بالذهب من الشرق الخلاب”، وبعد مفاوضات صعبة مع ملوك إسبانيا الذين كانوا للتو قد أخضعوا غرناطة لحكمهم منهين نحو ثمانية قرون من حكم العرب للأندلس، أعطوه سفينتين شراعيتين لم تكونا في حال جيدة، لأنهم لم يكونوا واثقين تماماً من نجاح رحلته، فيما استأجر هو الثالثة.
كان اليأس قد دب في صفوف بحارته، وباتوا يصرون على العودة من حيث أتوا، حين لاحت الأرض الأمريكية من بعد . لم تكن تلك الهند التي كان على كولومبس أن يبحر نحو شهرين آخرين كي يبلغها، ولكن قبل ذلك سيكون بحارته قد هلكوا، وربما تكون سفنه الثلاث قد غرقت.
كانت تلك أمريكا، التي أرادها المغامر كولومبس هنداً . ومن يومها بدأ عصر جديد في التاريخ البشري، وتبدو مفارقة أن كل ذلك تمَّ بالمصادفة وحدها . ثلاث سفن متهالكة تقصد الهند، فتجد أمريكا في طريقها .
هذه المصادفة ستجعل من كتابة التاريخ صنعة غربية . كأن التاريخ لم يكن إلا في الغرب وحده: أوروبا، وتاريخ الوافدين الأوروبيين للأرض الجديدة المكتشفة الواقعة خلف الأطلسي، وكأن لا تاريخ سابقاً للبشرية قبل هذا التاريخ في الشرق البعيد، وحتى لدى السكان الأصليين في الأرض المكتشفة الذين سماهم كولومبس هنوداً، لمجرد أن مقصده كان الهند.
على لسان الهندي الأحمر يقول محمود درويش في “الخطبة ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض”: “لَنْ يَفْهَمَ السيدُ الأَبْيَضُ الْكَلماتِ الْعتيقَةْ هُنا/ في النفوسِ الطليقَة بَيْنَ السماءِ وَبَيْنَ الشجَر/ فَمِنْ حَق كولومبس الْحُر أَنْ يَجِدَ الهِنْدَ في أَي بَحْر/ وَمِنْ حَقه أَنْ يُسَمي أَشْبَاحَنا فُلْفُلاً أَوْ هُنوداً/ وَفي وُسْعِهِ أَنْ يُكَسرَ بَوْصَلَةَ الْبَحْرِ كَيْ تَسْتَقيمَ وَأَخطاءَ ريحِ الشمالِ/ وَلكِنهُ لا يُصَدق أَن البَشَر سَواسيةٌ كالْهَواءِ وَكالَماءِ خارِجَ مَمْلَكَةِ الْخارِطَة” .
المنسي في هذا كله أنه لم يكن بوسع الرجل الأبيض في شخص كولومبس نفسه الإقدام على مغامرته لولا اختراع شرقي عظيم اسمه البوصلة، تلك القطعة الممغنطة من الحديد المتجهة نحو الشمال دوماً التي اخترعها الصينيون وقادت سفنه إلى الأرض الجديدة .
في كل بلد خضع للاستعمار خلّف المستعمرون وراءهم، حين رحلوا، مستويين من المعيشة. الأول هو ما يطلق عليه فرانز فانون “المدينة الكولونيالية”، الحديثة، المتطورة، والمدينة الأخرى، غير الكولونيالية، ما قبل الحديثة . المدينة الأولى جيدة الإضاءة والتغذية وهادئة ومنظمة، وخالية من العنف، يمشي فيها الناس في شوارع واسعة، وفي هذه المدينة يعيش المستوطنون الأوروبيون الذين جاء بهم الاستعمار ليديروا البلد المستَعمَر، وينظموا استغلال ثرواته، وربما ينال النعيم شريحة محدودة من سكان البلد الذين دربهم المستعمر وعلَّمهم كي يستعين بهم في بعض الوظائف.
الحال في المدينة الأخرى، حيث السكان الأصليون، تذكِّر المرء بالسطور الأولى من قصيدة سيزار “العودة”: إنها “مدينة جائعة، تعاني الحرمان من اللحم، من الأحذية، من الفحم، من الإضاءة، وتتمرغ في الوحل” . فلا مدارس يعتد بها، ولا مستشفيات أو مراكز صحية، ولا شوارع مبلطة، ولا مرافق صحية . في بيئة مثل هذه لا يمكن إلا أن يعم الجهل والأمية والتخلف والأمراض.
البنية التحتية التي أنجزها المستعمرون حصرت بغرضين أساسيين: الأول تأمين شروط الهيمنة على الثروات المتاحة ونهبها وتصديرها للمركز، والثاني هو توفير الحياة المريحة لمن استقدموا من مستوطنين من مواطني الإمبراطورية التي أخضعت البلدان البعيدة لسيطرتها.
من أجل تأمين استمرار السيطرة الاستعمارية لأطول أمد ممكن على هذه البلدان، وجب إبقاء شعوبها في هذه الحال من الجهل والتخلف . ينسب إلى المستشار البريطاني في البحرين تشارلز بلجريف قوله رداً على مطالبة الأهالي بابتعاث بعض أبنائهم لدراسة الحقوق كي يتعرفوا إلى القوانين ويتمكنوا من وضعها: إن البلد لن تحتاج حتى لمحامٍ واحد خلال المئة عام القادمة.
كان هذا القول في منتصف القرن العشرين تقريباً . عدد المحامين في البحرين ونحن في مطالع القرن الحادي والعشرين يعد بالآلاف لا بالمئات . ترى كيف سيكون الحال لو بقيت الكلمة لمثل هذا المستشار .
حين كتب فرانز فانون، مؤلف “معذبو الأرض” استقالته من مستشفى بليدة بالجزائر الذي كان يعمل فيه بصفة طبيب نفسي فترة الاستعمار الفرنسي، قال فيها: “إن المشروع الكولونيالي في الجزائر هو مشروع إلغاء دماغ شعب بصورة منهجية” .
أي مدى من الشجاعة يمتلكه ورثة الإمبراطوريات الاستعمارية اليوم في الإقرار بما اقترفته أيادي أسلافهم من تجهيل وإفقار أمم بكاملها، ما زالت عاجزة عن كسر دائرة التخلف حتى اللحظة.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *