ما وراء شاعرية العين السحرية

*مفيد نجم

لا تذكر السينما اليابانية إلا ويقفز فورا اسم المخرج أكيرا كوروساوا بوصفه أهم أعلامها وصانعي تاريخها. من هنا تبرز أهمية استعادة الحديث عن حياة هذا المخرج الكبير الذي استطاع أن يتمثّل فيما قدمه من أعمال روح المجتمع الياباني وثقافته، ويحتل من خلال عينه السحرية التي التقطت كل ذلك بجمالية مدهشة موقعه في عالم السينما العالمية.

كتاب “عرق الضفدع” لأكيرا كوروساوا الذي ترجمه فجر يعقوب وصدر عن منشورات المتوسط مؤخرا يقدم ما يشبه السيرة الذاتية عن حياة وأعمال هذا المخرج الكبير.

يفتتح المترجم الكتاب بمقدمة يستعيد فيها علاقة كوروساوا بلعبة الحياة بواقعها ومتخيّلها عند رجال الساموراي، في فيلمه الشهير الساموراي السبعة 1945، هذا الفيلم الذي نقله من المحلية إلى العالمية، وفرض حضور السينما اليابانية القوي في عالم السينما العالمية، نظرا لما انطوى عليه العمل من قيمة درامية ولغة شاعرية إلى جانب محتواه التركيبي والغرائبي.

يتوقف المترجم عند محطة أخرى من إبداعات هذا المخرج هي فيلم “الملاك المخمور” الذي تجسّدت فيه ملامح الواقعية الجديدة، ما يعكس جانبا من تحولات هذه التجربة وغناها الإبداعي الذي لم يتوقف في أعماله الأخرى “راشومون” و”جنة ونار” و”أن تنام مثل أناس سيئين” وفيلم “العيش” و”كاغيموشا” و”دودسكادن” و”اللحية الحمراء” و”القطار الهارب” وفيلمه الشهير “دورسو أوزالا”.

شعرية الطفولة

يقدم كوروساوا ما يشبه السيرة الذاتية، ويفتتحها بالحديث عن لحظة إدراكه المتأخر لانفلات سنوات حياته من بين يديه. في هذه اللحظة من حياته الغاربة وبعد صراع مع النفس حول جدوى الكتابة عن تجربته يجد لزاما عليه أن يفعل شيئا وحتى يكون أمينا لذلك الماضي يجري حوارات مطولة مع الكثير من أصدقائه الذين أسعفوه بتذكر الكثير من تفاصيل تلك الحياة.

يبرز أثر العين السينمائية منذ كلماته الأولى التي يستعيد فيها مشهدا من طفولته المبكرة كان يوحي له بالطيران. مشاهد عديدة يستعيدها من طفولته الأولى تظهر ذلك الجانب الخفي من حياته وشخصيته، لكن سنوات شبابه تبقى هي الأكثر حضورا ووضوحا في ذاكرته. الوصف الذي يقدمه لأحداث تلك السنوات يكشف عن العين السحرية والحس الشاعري الذي يصور فيه وقائع تلك الأيام، مشكلا منها خيط حياته من جديد.

بداية علاقته المبكرة مع عالم السينما بدأت منذ مرحلة مبكرة عندما كان يذهب مع أهله لحضور العروض السينمائية في صالة، كان القسم الأكبر منها دون مقاعد ما كان يضطرهم لحضور العرض وهم يفترشون الأرض. يعترف كوروساوا أن الأفلام الكوميدية هي التي كانت تستهويه لكنّه يستدرك ليؤكد أن هذه العلاقة لا علاقة لها بالمهنة التي اختارها فيما بعد.

بين الأب والمدرسة

يروي كوروساوا قصة علاقته بوالده وتأثير هذه العلاقة على خياراته المستقبلية. لقد لعبت شخصية هذا العسكري المحترف دورا كبيرا في تكوين علاقته بالسينما التي كان يراها على خلاف الآخرين أداة للمعرفة. كما لعب دورا آخر يتعلق بعلاقة كوروساوا بالرياضة التي كانت بالنسبة إليه أداة لتطوير الشخصية وتنميتها.

لكن ما يرويه من وقائع عاشها في حياته يظهر المشاكل النفسية التي كان يعاني منها وتظهر هذه الآثار واضحة من خلال علاقته بالمدرسة. يعترف كوروساوا أنه كان ينضج ببطء والسبب لم يكن يتعلق بتخلّف عقلي، بل باستسلامه أثناء شروحات المدرّس لخيالات وفنتازيا من كل نوع.

في هذا السياق يروي العديد من الوقائع التي عاشها والتي تظهر الفوارق الشخصية بين طفل وآخر بغض النظر عن الفئة العمرية الواحدة لهم، وهو ما لا تدركه المؤسسات التعليمية. لقد حولت هذه العلاقة المضطربة المدرسة إلى سجن، لكنّ تحولا كليا حدث في حياته مع انتقاله إلى منطقة أخرى، أصبح فيها يرصد الأشياء كما يقول بلغة سينمائية.

لا تظهر شاعرية الكاتب في أفلامه التي أخرجها وحدها وإنما في سرده لوقائع طفولته وعلاقته بأفراد أسرته والمدرسة وتأثير ذلك كله على شخصيته واختياراته فيما بعد، وعلى اكتشافه لحقائق النفس الإنسانية الغريبة.

عطر ميدجي

بين حقبتين من الزمن عاشهما كوروساوا تظهر تحولات الحياة وتغيراتها الكبيرة. في الحقبة الأولى لسنوات الطفولة كان كل شيء طبيعيا ومختلفا وكان ذلك جزءا من ذكريات طفولته التي كانت توقظ فيه دائما الفرح والحزن والخوف. يعترف أن سنوات تايشو يرتبط فيها كل صوت بذكرى ما يستعيدها بحسّ مرهف وشاعرية ممتلئة بكثافة وجدانية واضحة تعبر عن علاقته بذلك الماضي الهارب.

لقد أتاحت له محبة والده للسينما أن يشاهد الكثير من الأفلام الأميركية والأجنبية، ويتعرّف إلى شخصيات وعوالم مختلفة. لم تكن طفولته عادية فقد كان يعاني من مشاكل مختلفة لم يتورّع عن الحديث عنها وبيان أثرها على حياته وهو ما يظهر من خلال تأكيده على مواقع الضعف والقوة التي ظلت تميز شخصيته فيما بعد.

لم تكن حياته تخلو من الطرائف بسبب هذه السمات التي ورثها. ولأن اليابان هي بلد الزلازل بامتياز يروي أكيرا وقائع علاقته بها وطرافة ما كان يقوم به عند حدوثها خاصة، يسهب في الحديث عن تلك الحوادث التي عملت قواها الظلامية على تدمير الكثير من معالم الحياة من حوله. لكن الغريب كان مذابح الكوريين التي قام بها اليابانيون مستغلين العتمة التي حدثت بعد تلك الزلزال، ما جعل جثث الموتى تطفو مع جثث ضحايا الحرائق على سطح مياه الشاطئ “لم أفهم ما الذي يريده منّي رغبته بأن أرى.

هذه المشاهد المرعبة عذبتني وأكثر اللحظات قسوة كانت عندما وقفنا على شاطئ سوميداغافا: رأينا الأجسام تطفو على المياه القانية أحسست بارتخاء في مفاصلي وكدت أسقط على الأرض لكنّ أخي سندني وقال: أكيرا.. أكيرا.. انظر. كززت على أسناني بقوة ونظرت إلى النهر، كانت اللوحات المرعبة تنغل في عيني حتى وأنا أغمضهما”.

سينما.. سينما

كما كانت طفولته غريبة وسلسلة من التحولات كذلك كانت علاقته مع السينما التي عمل فيها مخرجا كبيرا أو مساعد مخرج. يروي أكيرا ذكرياته عن هذه التجربة الغنية بوقائعها وسلوكياتها الغريبة ومواقفها الحرجة التي واجهها. من أهم علامات شخصيته التي يكشف عنها هي سرعة الغضب والحديّة في المواقف. كل هذا جعل شخصيته تتميز بمزاجها العاصف كما يصفه. يعترف أكيرا بأنها نقاط ضعفه التي لم يستطع أن يتخلص منها والتي كان عليه أن يعاني من آثارها. أما عن أسرار عمله ورؤيته للعمل السينمائي الناجح فهناك الكثير الذي يتحدث عنه ويرى أنه أساس نجاح العمل.

إنها رؤية مخرج كبير وكاتب سيناريو متميز عرف كيف يحرك الكاميرا بتقنية عالية ورؤية شاعرية ذات عمق إنساني. يروي تفاصيل اختياره لأعماله المختلفة، وتفاصيل تصويرها والمشاكل التي كان يواجهها أثناء عمليات تصويرها، إضافة إلى علاقاته بطاقم العمل الذي كان يرى أن اختياره يجب أن يكون ناجحا كشرط لنجاح العمل.

في نهاية الكتاب يتوقف عند عمله المعروف “راشومون” محاولا الإجابة عمّا حلّ به بعد هذا العمل. يؤكد كوروساوا أنه موجود في كل شخصيات أعماله التي أخرجها بعد ذلك، في حين تظل هذه الأعمال وثيقة حيّة تكشف عن جوانب شخصية مخرج قدّم الكثير للسينما اليابانية والعالمية أيضا.
________
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *