نورالدين العلوي*
كانت المسافة بين جبل الجلود ومستشفى شارل نيكول قصيرة جدا حتى أنه يقطعها خببا والزّرابي ملفوفة فوق كتفه كسجائر ضخمة. يسرع الخطو قبل دبيب الرٍّجْلٍ وقبل تغيير الحراسة في بوابة المشفى ليرى خديجة. خديجة كانت تنظره في بوابة قسم القلب والشرايين.متلهفة على تقبيل لحيته التي شابت قبل أوانها. يدس لها بسكويتا في جيب الميدعة البيضاء التي كان يجب أن تلبسها الممرضة فأخذتها منها بدموع كثيرة لأن روب المشفى كان يكشفها فتخجل من أبيها. تقول له ” لقد حددوا يوم العملية في الأسبوع القادم”. يجلس إليها قليلا قبل امتلاء الركن ببشر كثير يبحث عن صحة ضائعة. ثم تمتلئ عينياها الكبيرتان بالدموع. وتغني له “يا سي زهير ما تخليش البنج يزّير” . فيحفظ رأس الأغنية وينصرف محاولا تجميد تعابير وجهه. الدكتور زهير اختصاصي جراحة القلب الذي طبقت شهرته الآفاق سيكون رحيما بها وسيشق الصدر وينهي الألم من صدر خديجته. ليس له منها اثنتان. واحدة فقط بعينين كبيرتين وأنف يشبه أنفه وشعر أسود فاحم تخفيه عنه خجلا، فيمسّد أطرافه بصمت ثم ينصرف إلى الزرابي الملفوفة التي تركها عند الباب. ويتيه في المدينة. يقرر الانحدار إلى باب سعدون ويسأل أين تذهب هذه الطريق؟ فيرشد إلى باردو. فيدب مناديا على زرابيه.ويتطلع إلى النوافذ العالية علَّ سيدة تناديه فينتظر فتنزل فيفرش الزرابي ويفاوض ولا يبيع. نساء المدينة لجوجات في المفاصلة يعرضن أثمانا لا ترد تعبه ولا رأس ماله. يجمع الزرابي وينصرف مناديا تحمله الطريق إلى بلاد لا يعرفها يسجل الأسماء ويمضي منوبة والدندان أحياء فقيرة. يرتد على عقبيه سلعته أغلى من جيب الأحياء الفقيرة . ويسير على غير وجهة تسلمه طريق إلى أخرى. في صلاة الظهر يرتاح في مسجد ويطارد غفوة المتعب. يجب أن يبيع فلا يبيع. فترده الطريق إلى المشفى من هناك يعرف طريق جامع الزيتونة ومنه يجد طريق محطة القطار ويتبع السكة إلى جبل الجلود حيث يغفو في بيت قريب له به صلة قربى يتذكر انه لم يأكل كامل اليوم ويخجل أن يفضحه جوعه . في الصباح يدب والزرابي على كتفيه كسجائر كبيرة يطل على خديجة في غير وقت الزيارة. ويشكر الحراس والممرضين على سعة صدورهم لقد عرفوا حكاية بائع الزرابي من خديجة التي تنتظر عملية القلب المفتوح. والدها يأتي من بعيد ولا يجد كلفة الرحلة والإقامة التي قد تطول فيشتري زرابي من البلاد البعيدة ويهربها في حافلة الليل فقد كان بيع المواد التقليدية يخضع إلى ترخيص ديوان الصناعات. لم تقل لهم انه يخفي الحشيشة الحمراء من نوع الكبشين داخل لفة الزرابي. علب الحشيشة تكبر لفة الزربية فتظهر كبطن أفعى لكن تفتيش الديوانة في الحافلة ليس دقيقا علب الشاي الأحمر تنقذ الرحلة فربحها مضمون وقريبه يعرف نقاط البيع السرية فيعينه على تسويقها.. قالت لهم إنه يطوف بالزرابي بين الأحياء فيبيعها ليجد ثمن تذكرة العودة وبسكويت المريضة وبعض الأشياء الصغيرة لصبية في الثانية والعشرين ألزمها القلب بالمشفى وأذبلت وجهها دموع الشوق إلى أمها وأختها ونورها الصغير الذي ينام في حضنها ويقول لها رائحتك مثل أمي. في الليل تحت الغطاء الذي يفوح براحة التعقيم تتذكر رائحة تراب بلدتها الصغيرة حيث الريح والغبار وحيث النخل ورائحة التمر وحليب المعزاة فتبكي لا أحد يزورها وقت الزيارة ولا أحد يجلب لها طعاما برائحة مطبخ عامر. تخرج وقت امتلاء الغرف بالأمهات فتجلس تحت شجرة الصنوبر الكبيرة وتحسب دموعها. ترى أين يتيه أباها الآن في هذه البلاد الكبيرة التي لا حد لها؟. يا سي زهير…وتغني بين دموعها راجية الخلاص من قلب هش لا يطاوع الأحلام.
أحب الممرضات حديثها عن بلاد عجيبة لا يعرفنها وسمحن لأبيها بالزيارة في غير وقتها.تحايلن قبل قدوم الأطباء رغم أن سي زهير طبيب طيب وحنون ويحب خديجة التي كلما عادها وجد عندها ضحكة بسيطة فيمنعها من البكاء بجمل كبيرة عن سهولة العملية.
يسير بائع الزرابي في طريق المرسى هناك باع زرابي كثيرة. القوم هناك يعرفون قيمة ما يعرض عليهم. لكن الطريق من جبل الجلود إلى المرسى بعيدة وعليه أن يضحي بالزيارة الصباحية كي يصل قبل الظهر. ويسير متجاهلا كرات الماء في قدميه. يترك البحر يمينه ويسير. يود لو تقف له سيارة لكنه يسير ولا يلتفت. تطول الطريق فيجلس ويرتاح الزرابي ثقيلة. أهل المدينة لا يضعون ماء للسبيل ولا يبنون مساجد على الطريق. وثمن زجاجة ماء كلفة لا تحتمل. ويسير فإذا أشرفت البيوت البيضاء يتنفس الصعداء.
إذا باع الزرابي خف حمله النفسي. وحسب فلوسه وأطال الزيارة لخديجة في وقت الزيارة.يتدبر لها حلوى وحمصا هو يعرف أن ذلك فاكهة القرى ولا يعرف غير ذلك. رأى الطبيب الجميل مرة وهمَّ أن يكلمه لكنه كان يتحدث بالفرنسية فغصَّ تاجر الزرابي بريقه. أيها الطبيب ستشق صدري إذ تشق صدرها فترفق رحماك بخديجتي فليس منها أخرى. لكن الكلام ضاع والطبيب ابتعد.
ويعود بائع الزرابي إلى قريته والعملية تتأخر ويكر عائدا بحمل من زرابي ويطوف الأحياء البعيدة ويبيع.
وشق صدر خديجته. وأصلح من شأن قلبها قليلا بما منحها ربيعا أخيرا. في الصيف ودعها في الجانب الشرقي من المقبرة.ولم تقو يده على رمي التراب فوق كفنها الأبيض فابتعد.ترك لهم إثم ردم قلبه مع قلب خديجة.
يجالس الآن صورتها في الإطار بروب المشفى القديم ويعدها بالقدوم قريبا. يقول لها “هل ستذكرين بائع الزرابي الذي كان يدس الحلوى في جيبك تحت صنوبرة المشفى البعيد يا خديجة؟”.
وأمرُّ تحت الصنوبر في المشفى القديم باحثا عن رائحة غريبة خليطا من رائحة التمر وحليب الماعز وشعر أمي المضمخ بالقرنفل فلا أجد من ذلك إلا نصوصا بائسة. وأقول لعيني خديجة الواسعتين كدوامة من سواد كلما حولتك نصا نجوت من الحنين. بائع الزرابي يطاردني بالدعاء. سر يا فتى ولا تنسني. كم بودي أن أطوف المدينة على إثرك لأشم دموع الشقاء التي انسكبت في الحواري لتعود خديجة قبل انحسار ربيعها.
بائع الزرابي يذكرني في كل زيارة تلك المدينة قتلتها فلا تسلم قلبك للطبيب مهما علا اسمه.لا دواء لقلبك غير يدي في شعرك الذي لا يشيب فسر فيها وحدك كالظليم ولا تنسني. فإذا استعادتني خديجة فأفعل بنفسك ما تشاء.