ديباجة العبث

خاص- ثقافات

*جابر السّلامي

تراءت لي مصطبة المسرح كمصير غامض، لم أكن متأكّدا من حفظي التّام للنصّ المنوط بعهدتي ومهما يكن من أمر فقد قرّرت المجازفة.
امتلأت مدارج المسرح بجماهير اتّخذت أماكنها بلهفة واستكان الجميع لهدهدات الانتظار توغل بهم في بواطن الأسئلة المشتهاة. تقدّمت متّخذا مكاني وسط المصطبة الخشبيّة ، حملقت بعينيّ بين الحشود ثمّ رفعت طرف الرّداء القوطيّ ووضعته على كتفي أبتغي وقار القدّيسين وهيبة الأباطرة .
– أروم الحكمة يا سادة، فهل لي بها ؟
صحت نافثا نبرة غضب في المسرح .
كان المسرح مبنيّا على الطّراز اللّومباردي، زخارف سقفه المذهّبة تحكي حقبة مهمّة في التّاريخ و جوانبه المكلّلة بنسائم الرّوحانيّات تهلّل بعظمة الكنائس و قداستها .
–  ألا تعنيكم الحكمة في شيء ؟ ألا ترتوون من رحيقها المرّ اللّاذع ؟
و همهم الحاضرون بأسئلة حائرة و تطارحوا الاستفهامات .
تقدّمت فتاة فينونة بأناة و تدلّل، سكبت حولي سائلا سريع الالتهاب حتى حاصرتني بدائرة كبرى و استهلّت دورها بأحاديث قديمة و نواميس معتّقة .
– أنت سجين نفسك يا هيكتور وهذه القيود المقدّسة ليست إلّا أناك النرجسيّة المتعالية .
– أنا ابن ذاك الرّاعي الذي أفنى عمره يسوق القطيع إلى الكلأ و المرعى، أنا ابن تلك المتزهّدة التي ماتت وهي تسبّح و تبتهل في ظلمات اللّيالي و غبشات الضحى .
– سبق و اخترت طريقك … أنت ملعون.
– لست ملعونا. أنا هيكتور الخالد .
وانسحبت الفتاة في تراقص وهي تهفهف بثوبها الزّهري حتى توارى طيفها .
مكثت أحاول الخروج من الدّائرة فأتصنّع عودة لا مردّ لها و أظلّ كذلك في نوبتي الصّارخة معيدا سؤالي … الحكمة ، الحكمة يا سادة .
أقبل كاهن بمعمدانه الفضيّ و شمعدان مزخرف تنوض منه عفائر بخور هندي، ظلّ يمشي بتؤدة و يلفّ حولي مستغفرا و مبتهلا حتى قال .
– ما كان لك أن تفعل ما فعلته يا هكتور.
ارتعبت قائلا :
–  ماذا فعلت ؟ كل ما أردته هو التلذّذ بعصائر الحكمة و الارتواء من دفقها اللّجج .
–  الحكمة ؟ لكنّك ملعون و الملاعين الموسومون بالخطايا لا يتوجّب عليهم سبر أغوارها.
– لست ملعونا … أنا هكتور الذي حارب لأجلكم في الفيافي و الوغى و البحار النّائية.
– أمازلت مصرّا على نقائك و صفاء فؤادك ؟
– لا يعوزني عن الحكمة شيئ أيّها الكاهن قسطنطين، أنا بشر و بها أهتدي و بها لا أظلّ سبيلا .
أمسك قسطنتين البخّارة و مكث يحوم حولي يلفحني بدخانها المقدّس و يطلب لي المغفرة مردّدا أحاديث ابتهالية في ورع و تلطّف .
و مثل من صرع إثر مسّ،  تهاويت كبطل كسير و تكدّس جسمي الذّليل داخل الدّائرة المقدّسة .
– أتلُ صلاتك أيّها الآثم و نكّس أعلام بطولاتك الواهية .
صرخ قسطنطين بصوت جهوري واعتكف بجانب دائرة الآثام ساكنا كصخرة ثمّ اجتاح تصفيق الحاضرين خشوع الرّكح وازداد الممثّلون ألقا و نشوة  .
أسدل السّتار عن الفصل الأوّل و تخلّلت المسرحيّة معزوفة قروسطيّة تعزيزا لقداسة الأحداث و ترسيخا لأوامد التّاريخ فيها .
– تلك فاتورة اللّامبالاة يا أحمد، كان بإمكانك ولوج أعتى المسارح و أعلاها صيتا .
أشار لي الممثّل خالد بعينين غاضبتين وهو يلبس حذاءه القوطيّ مستعدا للفصل الثّاني، ” تستنزف نفسك كإسفنجة في هوامش المسارح و أزقّتها الشّاحبة “، أضاف بحنق .
لم أعره أدنى اهتمام . مكثت أستذكر بقيّة  السّيناريو. رأسي يزفر بشظايا أحلام قديمة و ضوضاء مرعدة.
مرّ أمامنا عاملا المؤثّرات الصّوتية، كانا يتجادلان حول مشكلة تقنيّة، هذا ما بدا لي. ثمّ تناهت إلى سمعي أصوات شجار و شتائم آخر الرّدهة الرّئيسية.  فكّرت أنّ المسرحيّة فاشلة وأنّ جميع الممثّلين يحيكون المكائد لبعضهم البعض ولسبب ما نسيت النّصّ وأدركت أنّ شيئا ما سيحدث، شيء مثل حادث سيئ داخل كيس مليء بالتّوابل الحارّة.
فتح السّتار من جديد وصمت الحضور عن اللّغو و الحديث. سلّطت الأضواء على جسد هيكتور المتهالك و بجانبه قسطنطين الكاهن تحدوه هالة وقار و استحياء .
دخل جمع من الفرسان متقلّدين أغلى الأوسمة و أعلاها مرتبة. اصطفّوا خطّا واحدا أمامي وأشار لهم الكاهن العجوز بأداء الإعلان الملكيّ و تلاوة قرار مجلسهم  الموقّر.
– نحن فرسان الدّوقيّة الكبرى، وبعدما اقترفه هذا الآثم العربيد من محاولة لسرقة الماء المقدّس من حوض الحكيمة مينرفا و استباحة قداسة الحرم الملكيّ، نقرّ بوجوب عقابه على ما اقترفت يداه بأن يتمّ إحراقه في دائرة الآثام و ليكن عبرة لغيره من المارقين .
ثمّ ابتعد الفرسان مفسحين المجال لموكب جلل  يتقدّمه عازفو مزامير و طبول و تتوسّطه مينرفا الحكيمة في جمال صارخ و إغراء لا يقاوم  بين حوريّات صغيرات كأنّهن فراشات ربيع بألوانهنّ الزّاهية و أرواحهنّ المزهرة .
نسيت كلّ شيء . مكثت بلا مبالاة وسط الدّائرة أنظر إلى فرسان الدّوقيّة وهم يغادرون الرّكح . نفس اللّامبالاة التي اعترتني في جلسات التّقييم حين قدمت لجان مسرح أجنبية لانتداب ممثّلين . تخيّلت أنّهم أولئك الذين غادروا لتوّهم و شعرت بهزيمة مؤلمة، هزيمة هائلة. وخمّنت أن أعتزل، بيد أنّني عدلت عن ذلك .
مثلت مينرفا أمامي. انبهرتُ بتلك العينين المكتحلتين بأنوثة ساجية و طرفها الممشوق الموشّح بالأكاليل و الجواهر ووجنتيها الحمراوين يتوسّطهما فم كرزيّ مشعّ .
– هيكتور، انهض وواجه مصيرك المحتوم .
قالت مينرفا وهي تشير إلى فارسين بمساعدتي على النّهوض، كيف لمن استطاع الدّخول إلى الرّوضة الملكيّة و اجتياز حرّاسها أن يصير إلى انكسار و هوان ؟ أكملتْ بنبرة حازمة .
لم أدر ماذا عساي أفعل. الممثّلون ينتظرون كلمتي و قد اكتنفهم ذهول و انتظار فكانوا لا ينبسون بحرف. نظرت حواليّ وغالبتني نظرات مينرفا فأشحت بوجهي عن الرّكح . تلقّفتني أعين الجماهير بترقّب . انتابتني نوبة ضحك، كان ضحكا غاضبا، مسعورا، متواصلا. تهيّأ لي أنّهم يتوقون إلى مشاهدة عقابي و أنّني أشكل عبءًا على الرّكح . بدا لي الأمر طريفا، ربّما لأنّني نجحت في آداء دوري و ربّما لأنّني لم أعرف ماذا أفعل حيال ذلك وطفقت أضحك على أيّة حال .
– ماذا دهاك ؟ أكمل فقرتك . همس قسطنطين محاولا إخفاء غضبه .
تدانيت قليلا جهة اليسار وبقيت كذلك مبتسما، مثل من رأى إعصارا قادما فأراد الموت على هيئة فرح  . لاحظت تململ مينرفا و ارتباك الإطار التّقني و أيقنت أنّ نجاح العمل منوط بعهدتي .
اكتنفتني نزعة عبث، توجّهت إلى قسطنطين و افتككت من يده المشعل و ألقيته في الدائرة فتصاعدت لهبا و اضطرم سعيرها  ثمّ خطوت داخلها فكنت محاصرا بلهب متماوج . استهوتني ألوان النّيران و مكثت هناك لا أنتظر شيئا . فكّرت أنّني أعاقب نفسي وتوهّمت أنّني كنت أتوقّع ذلك . اشتدّت حرارة اللّهب و غاب كل شيء عن ناظريّ حتّى وثبت إلى عقلي صور مينرفا و لجان المسرح و جيوش رومانيّة ثمّ أخذت تبتعد شيئا فشيئا .
أخرجني الفارسان من دائرة اللّهب. استوضحت الرّؤية من جديد . مينرفا تجلس أمامي في جزع و خوف . الواقع أنّني كنت مرتاحا لأنّني لم أفعل الشّيء الكثير لدرء لامبالاتي و فكّرت أنّني حبّذت المسرحيّة .
الأمر الأكيد أنّني اقتربت من وجه مينرفا و قبّلتها بغضب . سمعت أحدا يسأل كيف انتهت المسرحيّة . أخبروه أنّ هيكتور عاقب نفسه و أنّ الكاهن احترق . آخر عهدي بقسطنطين أنّه سارع لإطفاء اللّهب بردائه . لم أدر هل يتوجّب عليّ الضّحك أم الصّمت . الفرح أم الحزن .

___________
بوسالم – تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *