خاص- ثقافات
*أحمد غانم عبد الجليل
كتابة السيرة الذاتية من أصعب أنواع الكتابة الروائية؛ لأنها مواجهة كبرى مع الذات بكل ما يرسخ في الذاكرة من تفاصيل متزاحمة ومتداخلة، وأيضاً كثيراً ما تتعرض تلك السيَر للقيود الاجتماعية والسياسية، ومن قبلهما الضغوط العائلية، تحرر منها الكاتب المغربي محمد شكري مبكراً. صبي يرتحل عن طفولته دون أن يدركها، ومن ثم فتى فشاب مشرَّد من مدينة لأخرى داخل وطنه؛ يقيم في وهران لفترة ثم يعود، يصارع أقبح أوجه الحياة، طغيانها يبدأ بسطوة والده وقسوته المفضية إلى قتل أخيه الطفل العليل، مقابل استكانة الأم المستسلمة للإهانة والضرب نهاراً والمستلذة بما يهبها من متعة تتطلبها غريزة الأنثى ليلاً مما يدخله (الفتى) معها في علاقة ملتبسة، تستعيض بموت طفل بالحبل بآخر والأب ماضٍ في جبروته المستمد من جبروت الحياة، فلا يملك سوى الخيال لمواجهته “لولا الخيال لانفجرت” ص53، الخيال الذي جعل منه كاتباً فيما بعد ولم يكن قد تعلم القراءة والكتابة إلا عند بلوغه العشرين ربيعاً، ربيع المهمشين والمعدمين الذين لم يعرفوا لذة الشبع والأمن في وطنٍ تسلط عليه الاحتلال الفرنسي والإسباني في آنٍ واحد، خاصة في مدينة طنجة الساحرة للسياح والمستعمرين والمتجهمة في وجوه أبنائها، منها يبدأ من جديد بعد رحلة ضياع طويلة تشتت أول بلوغه بين أحضان العاهرات وأخيلة ترتمي أطيافها على من لم يستطع الظفر بها تحدياً وتمرداً على وحشية دنياه، كأن الجنس والسكر وتدخين الحشيش قد صاروا إثباتاً للوجود في عالم يتصيَّد محقه، وإن أبقاه حياً ليتوَعده بالمزيد من المهانة والحرمان، وكلما ازداد حرماناً كلما نضحت فيه شهوة قاسية مشوهة ولو تجاه جذع شجرة يحفر فيها ملذاته الشبقية، أو فتى يصغره بأعوام، هنا يضعنا الكاتب أمام عبثية قد تبدو مقززة للبعض لكنه ينقلها إلينا بكل مصدافية وحرفية فنية؛ كأنه يقول: (هكذا عشت، هكذا أمضيت عمراً من التيه الذي لا يعرف عنه الكثيرون شيئاً، اقبلوني واقبلوا الحقائق كما هي أو ارموا بالرواية بعيداً). لا يلجأ إلى التبرير أو التحليل المتكلف، ولا ينتقي أحداثاً يجسد فيها دور البطل المظلوم المتشكي كما يفعل أغلب كتّاب السير الذاتية، ولعل هذا السبب تحديداً هو ما أكسب الرواية تميزها بعد سنوات من منع صدورها باللغة العربية، وقد تم نشرها بالإنكليزية والإسبانية والفرنسية.
“التسول مهنة الأطفال والشيوخ العجزة، عيب أن يتسول شاب قادر على السرقة إذا لم يجد العمل” ص103
سرقة، تهريب، النوم في مقبرة أو إسطبل، البحث عن فتات الخبز في المياه الآسنة، وبيع سلع مغشوشة فوق أسطح البواخر لليهود المهاجرين إلى موطن مستحدث (مغشوش الأفكار)، إذ يأخذ التشرد طوراً آخر، أبعاداً أخرى، بمعاناة أعمق، ولأسبابٍ تتزايد اختلافاتها وضبابيتها، تشرد يمتد شرره إلى مجموعات ومدن وأوطان تبحث عن أرضٍ لم تُحرق بعد، عن عمرٍ لا يمجد الموت بأي مسمى كان، يجدد قراءة السيرة الذاتية الروائية (1935 ـ 1956) بما يكمن في ثنايا السرد من إسقاطات على حاضرنا المستباح، بل كأنه يعيد صياغتها في ذهن القارئ، ترسم لنا حلقة الزمن المفرغة، بكل ما رٌفِعت وأسقٍطت في سوحها من شعارات، ترجت الأجيال المتعاقبة من كل منها الأمل لمستقبلٍ أفضل، ويا لثراء الأحلام.
مقتطف من النص عند قبرٍ مشرَّد في اللامكان واللازمان:
“أخذ يقرأ، أثناء قراءته كنت أنثر الزهور والريحان على بعض القبور وعلى الأرض غير المقبرة بعد، كان مدفوناً هناك، ربما تحت قدمي أو تحت قدمي عبد المالك أو في مكان ما، فجأة فكرت، لكن لماذا هذه القراءة على قبر أخي المجهول؟ إنه لم يذنب… تذكرت قول الشيخ الذي دفنه: “أخوك الآن مع الملائكة”.
أخي صار ملاكاً، وأنا؟ سأكون شيطاناً، هذا لا ريب فيه، الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين.” ص228
____________
*كاتب عراقي