على تخوم المدينة الفاضلة

*لانا المجالي

(1)

تفتِّش خزانة ملابسك، وجيوب معاطفك الشَّتويّة الرَّماديَّة، وأدراج المطبخ. تتأمَّل حبل الغسيل، ثمَّ تعود لتقلب المزهريَّة الفارغة فوق الطَّاولة. تحشر رأسك تحت الأريكة وترفع  طرف السِّجَّادة، قبل أن تجلس على مقعدٍ جانبيّ؛ خائر القوى، مُحاطاً بالفوضى، مُتسائلاً: ما الذي أبحث عنه؟ هل فقدتُ ذاكرتي؟

لا تقلق، أنتَ، فقط، تَتشهَّى الشِّعر.

تُسارع إلى إغلاق شبابيك غرفة المعيشة. ترتدي كنزة صوفيَّة إضافيَّة. تُشغِّل المِدفأة الكهربائيَّة، تراقب ازرقاق أصابع قدميك، وتكابِد القشعريرة التي تسري في جسدك بالرغم من شمس تمّوز الحارّة في الخارج. تَهجِسُ بالأنفلونزا  ونقص الحديد في دمك.

لا تَقلق، أنتَ، فقط، تَتوقُ إلى الشِّعر.

يذهب الجميع  إلى الحَرب بملابسهم العسكريَّة ومعدّاتهم القتاليَّة، فتلزم بيتك، مرتدياً قميصك الأبيض الفِضفاض وبين يديك نهرٌ مُسالِم. يقاتِلون ببسالةٍ نادرة في ساحات المعارك، وتسقي أُصص النَّباتات في شرفات بيوتهم المهجورة. يشعرون بالقوَّة وتنتابك شكوك حول شجاعتك.

 لا تقلق، أنتَ، فقط، تدافع عن روح الشِّعر.

( 2 )

لماذا الشِّعر الآن؟

لأنَّنا نعيش تحت أنقاض الإنسانيَّة. هُنا؛ في هذه البقعة من العالم، حيث الرُّؤوس البشريَّة معلَّقة فوق البنايات، والهواء مُلَبَّد بدخان المحرِّكات الثَّقيلة ورائحة عُفُونَة تبادلنا الاتِّهامات، والسَّماء مُكتظَّة بأراجيح الأطفال، ونوايانا.

لأنّ الحبّ شَحيح والصَّمت ناحِل، وما الفرق بين الشَّعر والحُبّ، كما قال أنسي الحاج، إلا أنَّ الأوَّل كلام الصَّمت، والثَّاني فعله.

لأنّ الشِّعر طريقٌ يجعل العالم يعني شيئاً- أو بتعبير الشَّاعِر الصِّينّي لوتشي؛ نحنُ الشُّعراء نصارعُ اللاوجود لنجبره على أن يمنحَ وجوداً، ونقرع الصَّمتَ لتجيبنا الموسيقى- ومن غيرنا،خارج هذه البقعة من العالم، يرغب باستعادة الوجود، واستجواب المعنى؟

لأنَّ الشِّعر، بحسب أرسطو:” محاكاة للأشياء كما  كانت، أو كما ينبغي أن تكون، أو كما اعتقد النَّاس بأنّها كانت كذلك”. دون أن أشعر بتأنيب الضمير لحذف عبارة “محاكاة للأشياء كما هي” من التَّعريف أعلاه؛ ليس لأنّ الشِّعر يعيش في قوقعته الخاصّة كما يزعم المنظِّرون، بل لأنَّني أريد لأحلام الشِّعر أن تَطير، متجاوزة سقف هذهِ البقعة من العالم.

(3)

أزمة الشُّعراء، خُرافَة.

الشُّعراء الجيِّدون يملأون الأرض، يحتفي العالم بقصائدهم، ونرجمهم في بلادنا بالحِجارة النقديَّة والأحكام القَطعيَّة، ونضع البيض الطّازج والفاسد في سلَّةٍ واحدة؛ لأنّهم خَرجوا على أعراف القَبيلة، أو بالأحرى، لأنّنا نرفض أن يكون الشِّعر ابن زمنه، يتحدَّث لغته، ويحمل همومه، ويواكب إيقاعه.

نُهدِّد بوأد قصيدة النّثر في مهدها، دون أن تلفت انتباهنا خصلات شعرها البيض،وتجاعيدها الغائرة، وخلافات أحفادها الحادَّة حول توزيع الإرث.

نتحسَّر على تفريط الشُّعراء الجُدد بالمقدّمات الطلليَّة، وابتعادهم عن التَّغني بمآثر العظماء من أسيادنا. وتنازلهم عن فحولة الشِّعر لصالح الرَّطانة اليوميَّة الغربيَّة، الشُّعراء الجدد أنفسهم الذين يهربون من التّفجيرات الإرهابيَّة بحقائبٍ جلديَّة صغيرة من شقَّةٍ مؤجَّرة في الطّابق التّاسع إلى أخرى آيلة للسُّقوط في حارةٍ من العشوائيّات. يدفنون ثلَّة من أحبابهم في قبورٍ جماعيَّة كل يوم. يواجهون الوحدة في المرايا المهشَّمة. يعيشون على “البيتزا” و”الهمبرجر” في صالات المطارات المُعتِمة.

( 4 )

أزمة الشِّعر، خلط أوراق وسوء تقدير.

الإنسان الحديث متأزِّم، لا الشِّعر؛ الرَّكض المحموم، وساعاتنا الذَّكيّة، وعدد القتلى في شريط الأخبار العاجلة، ومؤشِّر البورصة المتذبّذب، كلّها وغيرها، زادت المسافة التي تفصلنا عَن شساعة  الشِّعر. طفولة الشِّعر. صفاء الشِّعر.

أزمة الإنسان عالميَّة لا عربيَّة. لكنّنا ندفن رؤوسنا في الرّمل، ونكتفي بعناوين لافتة في 21 آذار حول أزمة الشِّعر المفتعلة، فيما تُبذَل الجهود الجماعيَّة والفرديَّة في العالم لدعم الشِّعر، والأمثلة كثيرة.

يعرّفنا البرتغالي أفونسو كروش على بطلة روايته “هيّا نشترِ شاعراً” التي تعيش حياة جافَّة، حيث الأرقام، وقوانين الرّبح والخسارة، وتسليع الإنسان والعلاقات والمشاعر: “كان صباحاً جميلاً، الهواء كما يقولون يفوح دولارات”، ثمَّ يبدأ الشِّعر بنشر الضّوء والدّفء” صَرَخَت أمِّي بكلمتين شعرتُ بإنّهما شاعريّتان للغايَّة: لقد مللت”. /” تَغيَّرت حياتنا كثيراً، وحياتي أيضاً”، إلى أن تُعلن قرارها في نهاية المطاف: “أسعَى لدرء سَديم الحَياة مثلما طلب الشَّاعِر أن نفعَل، نمرِّرُ اليد على الواقع لكي نرى ابتسامة، أعرف أنَّهُ عمل مرهق، فهناك كثير من البخار يجعل الحياة حادَّة قليلاً وغير واضحة، ولكنَّني سأظل أحاول”.

أمّا أنطونيو ساكارميتا، فقد استثمر سيرة ذاتيَّة استوحاها من نصٍّ شعريّ، في خلق عوالم روايته المدهشة “ساعي بريد نيرودا”. بطل الرّواية هو الشِّعر لا بابلو نيرودا نفسه، بالإضافة إلى أشخاصٍ عاديّين تحوَّلوا إلى ملهمين؛ مثل ساعي البريد التشيلي ماريو خمينيت الذي أصيب بدوار الشِّعر عندما سمعه أوَّل مرّة: ” كنتُ أتأرجح مثل سفينة على كلماتك”، قبل أن يطرح سؤاله الذي ترك  فم بابلو نيرودا مفتوحاً، وذقنه تكاد تنفصل عن وجهه: هل تعتقد حضرتك أنَّ العالم كلّه هو استعارة لشيءٍ آخر؟

يحفِّزني فيلم ” مجتمع الشّعراء الأموات”/ (1989) للمخرج بيتر وير، بشكلٍ شخصيّ، على تمزيق  كل معتقداتنا النقديّة الصّارمة التي تُعرقِل نمو الشِّعر، كما فعل الأستاذ جون كيتنغ- أدّى دوره روبن ويليامز- عندما أقنع طلّابه في أكاديميَّة ويلتون بتمزيق مقدّمة كتاب الأدب الإنجليزي، وهي المقدِّمة التي كتبها الدكتور جي ايفانز بريتشارد، متناولاً فيها الشِّعر، وكيفيّة الحكم على جودته باستخدام الحسابات  البيانيَّة الدَّقيقة عموديّاً وأفقيّا، كما يمنحني حلم تضمين نصيحة الأستاذ كيتنغ في مناهجنا ذات يوم: ” لا نقرأ  ونكتب الشِّعر لأنّه ظريف، نقرأ ونكتب الشِّعر لأنَّنا أفراد من الجنس البشري. الطبّ، والمحاماة، وإدارة الأعمال، والهندسة، حرف نبيلة ومهمّة لكي نحافظ على الحياة، ولكن الشِّعر، الجمال، الرُّومانسيَّة، الحُبّ؛ هذه هي الأشياء التي نعيشُ من أجلها”.

أمّا المخرج جيم جارموش في فيلمه “باترسون”/ (2016)، فيقدِّم لنا قصيدة نثر سينمائيّة، معتمداً على شغفه الشّخصيّ بالشّاعر الأمريكي وليَم كارلوس ويليامز، وقصيدته “باترسون”.

بطل الفيلم “باترسون” سائق حافلة نقل عام، تستهويه كتابة الشِّعر الذي يحتفي بالعادي والمهمَّش، ويرصد الأشياء الملموسة مثل ماركة أعواد الثّقاب، وأحاديث النّاس اليوميَّة، وغيرها، إلى أن يقوم الكلب “مارفن” بتمزيق كل قصائده.

( 5)

عندما حرَّم  أفلاطون الشِّعر داخل مدينته الفاضلة، علَّل وجهة نظره، قائلاً، إنَّ الشَّاعر مثل المصوِّر، يحاكي ظواهر الأشياء الخادعة للحواسّ دون أن يفهم طبيعتها، وبهذا فشعره تقليد، وبعيد عن الحقيقة بدرجتين.

لو سلَّمنا برأي أفلاطون، على مَضَض، فمن حقِّنا أن نعرف دوافع تحريم الشِّعر وقتله والتَّمثيل بجثّته في مُدنٍ لَم يشيِّدها أفلاطون على هواه؛ مثل هذهِ البقعة من العالم التي تبعد عن الحقيقة، ألف درجة.

___________
*العدد 56 من مجلة الإمارات الثقافيَّة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *