يا رجل

خاص- ثقافات

*رضا نازة 

فتح الباب ودخل يدندن شيئا يشبه الأغنية. دون التفات أرخى دفةَ الباب من خلفه بمقدارٍ كي تغلق نفسها بنفسها دون ضجة واصطدام. عادة كانت تنصاع برشاقة فيعجبه الدفع المحسوب، لكن لم يلبث أن اختطفها تيار ريح قوي غفل عنه فنطحت الدفة الإطار وكادت تنقلع. تجمع على نفسه من هول الرجة كأحدبِ ابن الرومي. كأنه متربصٌ أن يُصفعا أو كأنما صُفعت قفاه مرةً وأحس ثانية لها فتجمَّعا..

ثم عم السكون إلا من صفير ريح عابر للشقوق والفتحات وأصوات أخرى..

ما إن استقرت المفاتيح في جيبه وصمت رنينُها حتى سمع نداء هامسا من أعلى السلم كالوسوسة:

– يا رجل.. يا رجل..يا رجل..

اقشعر بدنه. إنه لوحده في البيت. زوجته عند أهلها تصلُ رحمها. منذ أسبوع سافر بها رفقة ولَدَيْه إلى مدينتها تقضي بهم عطلة بينية هناك ثم عاد. أسبوعٌ من عزوبة موقوتة وراحة بيولوجية. لكن.. مَن يا ترى يناديه. من يوسوس له. من تسور عليه البيتَ في غيابه. أم أن البيت “مسكون” وهذا أوان انكشاف السر. استعاذ من الوسواس الخناس وصعد الطابق الأول. لكن الوسواس لم يخنس بل استمر الهمس على أشده، بل صار كأنه نداءات من أفواه متفرقة:

– يا رجل .. يا رجل .. يا رجل..

 صعد الطابق الثاني والنداء ما زال مستمرا أعلاه. تتبعه بحذر شديد وهو يتمتم ما سنح على لسانه من أذكار وآيات لم تخفت معها النداءات الخفية.

– يا رجل.. يا رجل.. يا رجل.. يا رجل..

عند آخر سقيفة اكتشف أن النداءات تأتي من سطح البيت. تحرزا بحث عن هِراوة في دولابٍ قديم هناك. امتشقها ثم فتح الباب المفضي إلى ظهر السقيفة وهناك سمع النداءات واضحة من جهة اليمين ممتزجة بهبوب ريح قوية أعقبت مطرا لم يتوقف طيلة الليل ولا الليالي السابقة. ما إن التفت حتى هاله ما رأى وضرب على جبهته ببطن كفه. تذكر وصية زوجتِه وإلحاحَها عليه قبل السفر أن يُنزل ثياب الغسيل فور عودته. كان الجو يومها صحوا قبل أن يتقلب ويكفهر. تأمل الثياب مشدوها. كان منها المفتول حول نفسه وحول الأسلاك، لفتته الفوطة الكبيرة كانت منجمعة على نفسها مثل أخطبوط، وكان منها المنثور أرضا قد عفره المطر الممزوج بعجاجة الأمس، وكان منها المبروم في أحد الأركان حتى لم يعد يُعرف أيُّ نوع هو من الثياب.. ومنها المفقود..

اقترب من الأسلاك وأشلاء الملابس المعلقة، وكلما زاد خطوة كان يغوص في ذبذبات النداءات:

– يا رجل.. يا رجل .. يا رجل.. يا رجل..

حتى أحاطت به الموجات من كل مكان. فأغمض عينيه وهمس لها أنت ملابسي لم لا تناديني باسمي؟ فردت عليه.. لو ذكرتنا لذكرناك..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *