من يقطعُ، هذه اللحظةَ، رأسَ الوقت؟

*أدونيس

هل بقيَ لي من العُمر ما يَكفي لكي أتعلّم كيف أجدِلُ حبلاً من أجنحة العصافير، يربط الرّيحَ بالغيم، والغابةَ بذيلِ كوكبٍ يدورُ

حول شمسٍ لم تُشْرِق بعد؟

جِرارُ أحلامٍ تَصيرُ جراراً من الدّمع.

ترشحُ من هذه الجِرار أصداءُ أعراسٍ يُقَصُّ فيها

الشّريطُ الدّمويّ إيذاناً ببدء الحَفْلِ الذي يُقيمُه

القَتْلُ، احتفاءً بالقرنِ الحادي والعشرين.

يرشحُ منها بُخارُ جُثَثٍ تحترقُ حول بحيراتٍ لا تتذكّرُ

إلّا النّجومَ التي انطفأتْ، والعشّاقَ الذين ماتوا.

بخارٌ – ربّما يصير طيناً آخر. يُعجَن ويصيرُ لغةً خالقةً في براكين المستقبل.

وحيداً، على وسادةِ الذّاكرة،

يرقدُ الآن مفتاح بيتي تحت مفتاحِ لغتي. كنتُ

من زمَنٍ أعرفُ أنّ اللغةَ العربيّةَ تمتلئُ بمفرداتٍ

بعضُها غاباتٌ من اللهَب، وبعضها حطبٌ

يُرمى في أفران العبَث، وبعضها مُنهَكٌ من رسْمِ

العناكِبِ على جبين الفضاء.

الآنَ، أنْسى – أتذكّرُ طفلةً ينتظرُها على عتَبَة البيت الذي

وُلِدَت فيه، صندَلٌ تَعشقُه قدماها،

أتذكّرُ صوتاً يتعثّرُ بقدميها، باكِياً:

«الغسَقُ الذي تلا غيابَها

تحوّلَ إلى مِنديلٍ أسْوَد».

أتذكّرُ أبَوَيها يُمسِكان معاً أيْنَما سارا، بيدِ الفَجْر.

أتذكّرُ ذلك الفلّاح الذي كتبَ رسالةً إلى المطرِ،

يدعوه إلى زيارةِ حقْلِهِ،

وذلك الرّعْدَ الآتِيَ من جهةِ الغربِ يصرخُ

في وجهه غاضِباً:

«كان عليكَ أن تسألَني أوّلاً».

أصْغي، أنتِ، تذكّري يا أمواجَ البحرِ المتوسِّط،

أمواجَ الأبجديّة وقدموسٍ وأبنائهما،

أصغي إلى أولئك الذين غرقوا في

أحضانِك، وتذكّري نَوْمَهمُ الأقصى.

بلى، يبدو التّاريخُ في هذه اللحظة، كأنّه قطيعُ غزلانٍ

تُذبَحُ في أحشائي.

وماذا تفعلُ وردةٌ تعتَبُ على الهواء أو على الماء؟

وماذا يفعلُ مُسافِرٌ يعرف أنّ أيّامَ البشر الذين

ينحدِرُ من سلالتهم،

فؤوسٌ تبدو كأنّها تكسر العربةَ الوحيدةَ التي تتّسِع للفضاء؟

الوقْتُ يأكُلُ الوقت،

وأسألُكَ أيُّها الفضاء:

كيف تُسرَقُ الشّمس؟

كيف يُعتَقَلُ الزّمَن؟

حربٌ تسبَحُ فيها الدّقائقُ كمثلِ التّماسيح، ويتشحَّطُ

العالَمُ كمثلِ أسرابٍ من السّمك في بُحيرَةٍ

تكادُ أن تجفّ.

باذِخَةٌ هيَ موائدُ العقائد، والضّيوفُ قنابِلُ فضّةٍ

وصَواريخُ ذهَبٍ. وما هذه الحبالُ السّريّة

التي تَصِلُ بين أجنحةِ الحَديدِ وطيورِ السّماوات؟

إنّه هَيُّ بنُ بَيٍّ،

يُحارِبُ واضِعاً على رأسِه خوذَةَ النّعيم.

عالَمٌ يخدَعُ حتّى يديهِ وقدَميه،

ويغشُّ حتّى عينيه ولسانه.

عالَمٌ – حِساءٌ من مسحوقِ الرّؤوسِ والأرجُلِ والأيدي.

دبّ الحجرُ شاكَياً طُغيانَ اليأس. هكذا باعَ ثيابَه

الدّاخليّةَ إلى المُخيِّلة. هكذا يُخَيَّل إليَّ أنّني أجلسُ

الآنَ على كرسيّ هذه المُخَيِّلة، وأوشْوِشُ الضّوءَ متسائِلاً:

هل اللّانهايةُ هي نفسُها نهاياتٌ متواصِلة؟

لكن، منْ يقطَعُ، هذه اللحظةَ، رأسَ الوَقْت؟

وهل أقولُ ليومِ ولادتي:

عُدْ ثانيَةً، وارْضَعِ الظنَّ؟

(باريس، نيسان 2017)

I I ـ أمواج

1 ـ

يقتلون الأطفال – جوعاً، وقصْفاً، وتشريداً.

وإذا سألناهم:

ماذا يتبقّى من الأرض،

إذا قتلتُمْ أطفالَها؟

لا يُصغون. على العكس، يخطّطون لقتل «الدّخلاء»

الذين يتجرّأون على طرح مثل هذا السّؤال.

2 ـ

للكلمة في اللغة العربية، هي أيضاً، كمثل الإنسان، سجونها. هناك، مثلاً،

كلماتٌ لا تقدر أن تجلس في أيّ سطرٍ كتابيّ. كأنّها محكومةٌ بالنّفْي خارج الأبجديّة.

لحسن الحظّ، لا أحد يستطيع حتّى الآن، على الأقلّ، أن ينفّذ أيّ حكمٍ بالإعدام على أيّة كلمة.

هناك، مثلاً آخر، من جهةٍ ثانية، كلماتٌ تمارس حرّيّاتها على نحوٍ كاملٍ ومُطلَق أينما شاءت، ومتى شاءت، وكيفما شاءت. وهي الكلمات التي «تهيِّئ» أو «تُواكِب» أو «تُنَفِّذ» أحكامَ الإعدامِ بالإنسان ذاته.

وما أعجَبَ «طبيعةَ الأمور» على ضفاف بحرنا المتوسِّط، غرباً وشرْقاً:

إذا امتدَحْتَ الرّعدَ، غضب الغيم،

وإذا أثْنَيْتَ على المطر،

غضب كلُّ شيءٍ – خصوصاً الغبار.

ـ 3 ـ

لماذا يبدو رأسُك أيّها الكائن المَشْرِقيّ كأنّه حجرٌ تتكئ عليه قِدْرٌ كبيرةٌ فوق نارٍ يُشعلها التّاريخ، ويَطبخ فيها الطبّاخون من جميع الأنحاء «ولائمَهم»

و «أعراسَهم»؟

4 ـ

حقّاً، هناك وجوهٌ مقنَّعةٌ، إذا أُزيلَتْ عنها أقنعتُها، تزول هي أيضاً. وذلك هو سرُّ القناع، وتلك هي قوّته.

5 ـ

التّسامُح في عالم اليوم، هو غالباً مسألة عدد:

جماعاتٌ كبيرة،

تُسَيِّر أمورَ جماعاتٍ صغيرة.

والتّسامُح هنا يعني استسلاماً كاملاً لهذه القيادات العدَديّة.

6 ـ

إنّه الغبارُ –

يعلِّمُ الحجرَ كيف يرشَحُ ماءً.

ـ 7 ـ

كيف يكتب الإنسانُ بجسده، وجسدُه ليس له؟

كيف يكتب عن الآخر، أو من أجله، وهذا الآخر سجينُ ثقافةٍ تعتقِلُ

الكتابةَ سلَفاً؟

8 ـ

هل يمكن أن تكون هناك براهين ضدّ البراهين كلِّها، في مختلف أنواعها وأشكالها؟ أو: كيف يعيش الإنسان في ثقافةٍ لا يكون البرهانُ فيها إلّا بُهتاناً؟

9 ـ

الصّحْوُ نفسُه يُخطئ،

إذا طردَ الغيومَ من ذاكرته.

10 ـ

السّياسةُ هي بالنسبة إلى الواقع

كمثل العَمود الفقريّ بالنسبة إلى جسم الإنسان:

لا جسمَ دون عمودٍ فقريّ،

لا مجتمعَ دون سياسةٍ مستقيمة.

11 ـ

إنْ صحَّ أنّ الحياةَ ترى وجهَها جميلاً دائماً، فذلك عائدٌ إلى أنّها

لا تتمرْأى إلّا في وجه الحبّ.

ـ 12 ـ

ظِلٌّ – نعم، إنّه ظِلّ.

لكن، أليس هو وحده القادِر على التشبّه بالأصل؟

إن شِئتَ أن تتخطّى الظلّ،

فعليكَ أوّلاً أن تُزَحْزِح الأَصْلَ.

ـ 13 ـ

أمس، على شاطئ بيروت في الجهة التي كانت تحتضِن بيتَنا، رأيتُ الأفقَ

يتدلّى كمثل ثوبٍ مبلَّلٍ يتأرجح على حبْل الشّمس.

وكنت قد قرأتُ في كتابٍ عن بحرِنا المتوسِّط أنّ الأمواجَ البطيئةَ فيه، كانت ترجو البحّارةَ أن يدفعوها بشدّةٍ وقوّة لكي تصلَ سريعةً هائمةً إلى شواطئ لبنان.
__________
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *