إلى فاطمة عفيف

خاص- ثقافات

* رضا نازه

هل تقبلين اعتذاري عن موتك طِفلة، عن موتك طَفلةً عربية لم تنعم بديباجٍ ولا حِليٍّ ولا حُلل، عن موتك جملةً مقابلَ موت بتقسيط غير مريح.. وإن كنتِ قد متِّ موتَتك وموتَ ذويك وإخوتِك وأمك وأبيك وفصيلة.. وقبيلة وأمةٍ غثاءٍ أخفقتْ أن تجيرك، أخفقت أن تؤويك!

ويصرخون خلف ظهرك المقدس كقبةِ صخرةٍ؛ المُقَوَّس، رغم الفتوة، مِن مَسغبةٍ ومِن مَتربةٍ ومِن خذلانِ ذوي المقرَبة ويصرخون “أنتِ السبب.. أنتِ السبب.. أنت السبب” الملاعين!

كِدْتُ أصدقهم فيك؛ كادوا يفتِنون حزني عليك ويفتلونه حولي.. كادوا يفتنونني في انتصار الدم المغدور المهدور على بأس الحديد وكادوا.. ويكيدون كيْدًا لفلسطين، حُسينِ بقاعِ الأرض وسيوفهم مع بني إسرائيل ولا قلوب لهم.. هناك.

يا خالق الموت والحياة.. أستحيي أن أتوسل بأخوةٍ في الدين، في العِرق، في الإنسانية، في الزيتون والتين، ونحن هنا نقضم بطاطا فاسْتْ-فود، سْمَارْت-فود يُقال إنها مقلية، وهم هناك يأكلهم صاروخٌ تلو صاروخٍ وتهضمهم قنبلةٌ فوسفورية كألعاب النار الذكية ..

قالت لي أنا في مقام البقاء بعد الفناء هنا ورغم الفناء! هنيئا لكِ النصر.. فلسطينية وما زلتِ حية؟ أفلسطينيةٌ أنتِ حقا وبقيتِ حيّة تُحاصَر وتحاصِر؟ هنيئا لكِ في أرض الحضور والغياب والاحتضار، آه كم حضورك مَقتلةٌ رومانسية، حضورك محرقةٌ حلال، حضورك رطل لحم في البندقية، حتى لو شبع شايلوك من لحمك الجديدْ، سيجعل مما تبقى مُؤنةً من قَديدْ لحصار مَاسَادَا العصية.. لكِ النصر إذ بقيتِ؛ لك النصر قد بقيتِ يوما أو بعضَ يوم.. محضُ البقاء نصرٌ مؤزَّر للقضية!

كيف أحزن عليك؟ وأنت فراشة يَوْم وليلة، إن لم تقتلك في المنتصف قنبلة غبية، أو في غطيط النوم، أو قبل البروز من الشرنقة، من الغيب إلى الغيب، دون عبورِ دنيا دنيةْ.. كيف أحزن عليك؟ طمئنيني أنك سَعِدتِ بالموت؟ “الموت تحفة المؤمن” الحَفِيَّة.. الموت زفاف الشهيد تلو الشهيد تلو الشهيد وصيفُ الأعراسِ ولوحاتِ الخبز الأخروي الطويلةِ على أكتاف طفولية… لا خيار لك.. اسعدي بالموت قبل أن يقضي الموتُ نحبَه فتضطري للحياة بين محاصِريك وتتبسمي لهم قائلة “أنتم إيجابيون بإيجابية، والحياةُ مفاوضاتٌ سرمدية!” وهم لم يجيبوا قطُّ صُراخَك، شكرا لهم أنْ لم يبالغوا في الحصار، لا عن تقوى وأخلاقٍ زكيةْ.. بل.. لأنهم بلغوا سقفَ الحصار، حدَّ الحصار، جدارَ بْلانْكِ الحِصارْ.. قبيل الانفجارْ!

شكرا لكِ يا أيتها المحذوفة المُقدَّرة مع الاستتارْ.. في الجملة العربية؟ وأنت قد فضحتِ لنا أداةَ العارْ..

 كيف أحزن عليك؟ وفي أكناف بيت المقدس أخوك، وأخوك المَقدِسُ والقربانُ ومِن خلفكم في أكناف الأكناف منافقونْ، وأنتم منتصبون في سكونْ، كحرف امتناع لامتناع، كحرف مقاومة لمقاومة، رغم الموت والسجونْ وجوعِ السجون وحرب البُطونْ..

كيف أحزنُ عليك؟ هل أنصرف لوجبتي وأتركك؟ لم أكمل بعدُ نحيبي عليك. آكل وأعود؛ أصلي وأعود؛ أنام وحين أفيق أعودْ؛ سأعود وأعود وقد لا أعود إن شغلني انتظار الحافلة، كي أذهب إلى عملي، أضيع الفرضَ وأسارع للنافلة؛ سأشتغل بموتك، وأتم نحيبي عليك بعد الرابعة .. أيها المخلوق تحت طائلة الموت لا عليك سأبكيك ما حييتُ وما دُمْتَ تموت..

كيف أحزن عليك؟ أنتم تتقنون الحزنَ المستنفر أكثر مني، سبعينَ سنة، مائة سنة قبل سني، وصنعتم منه راجمة راجفة! واتخذتم نفوسَكم ذِرعا لنفوسكم إذ غابت الدروع؟ وهم يصرخون “أنتم مجرمو حرب وسلم” لكنكم مجرمو استسلام.. إن استسلمتم، لا عبرة بنحيبي عليكم مِن بعيدِ البعيدْ، لستُ في أرض الغياب ومن يرث الشهيد؟ ووارثه شهيد..

كيف أحزن عليك؟ جارُ هاشمِ الثريدْ.. لا يحفرُ القبرَ بل يحفر النفق بلا نفاق، يحفر النفقَ الصادق ليبلغ البداية، ليتقن الرماية، ليتقن النكاية، ليغنم سلاح عدوٍّ في النهاية .. وبَزَّتَه وقبعةً شكلها كالفُطرٍ الزعاق، ليغنمَ نيرانَه الصديقة، أريده أن يموت دون أن يعرف الحقيقة؛ الباطل دولتُه  وتاريخُه شيخٌ كذاب ذو غدائر وغدرةٍ عريقةْ، وباطلٌ قراطيسُه العتيقةْ.. أريدُ بذلته أن تقتله! رشاشَه أن يقتله! مشروعَه أن يقتله.. تلك هي الطريقةْ؛ أن يموت كارها رفيقهْ، كارها فريقهْ، ثم يعانق في البرزخ حريقَهْ..

كيف أحزن عليك؟ وحزني استعارةٌ وحزنكَ حقيقةْ..

__________
*شاعر وقاص من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *