متتالية لربة المنزل

*هدى عمران

1

 هذا الليل ليس ماكينة أحلام كبيرة تطيِّر العقل.
فقط لو أن له أذنين ليسمع كائناته، هذه العربة الحمراء الطائشة تحت شِباكي، أزيز الرياح الباردة التي تحرك الستائر ودرفة الشيش، هذا الصوت الموحِش للأشياء، يجلها في مرتبة واحدة معي.

في الأسفل نباح الكلاب يمتزج بصخب الضحكات لبعض الشباب الصغار، هؤلاء وطاويط الليل، يحلقون بعيداً حتى تتهشم أرواحهم، وتتجرح جلودهم الرقيقة، فتظهر لهم وجوه أخرى كل موسم.
أنا هنا عظامي تؤلمني كأنها ملتصقة ببعضها بقطع من زجاج. أتمنى الذهاب في نزهة ليلية بديلاً عن وجع العظام، أفكك نفسي قطعة قطعة، وأنفخ في بقاياي، أراني أتبخر بعيداً، وأتجمد في مكانٍ مجهول، أسمع صوت الليل، أشاركه سجائري وأغنياتي المفضلة، أشاركه حتى الموزة الوحيدة المتبقية على الرَّف.

2

ظهرت «عين سمكة» في إصبع رِجلي الأصغر، السمكة التي حلمت بها هجرت عينها في قدمي، لتختبر عَمَى الأعماق في الليالي المظلمة، ماذا لو فقأتها، اقتلعتها من محجرها، أو لو غطستها في كأس النبيذ لتشرب معي حتى تسكر وتترنح، لتسقط وتحلّ عني.
بالأمسِ دعستها في محاولة للشعور برخاوة لحمها الأصيل، ثم رفعت قدمي على الحائط وقت المضاجعة، لتصبح عينا في مواجهة الظِلال الإيروتيكية. كانت ظلال على الحائط، وألمٌ في العين يشبه العَمى.

3

نمتُ فوق عيني، ضغطتُ رأسي في المخدة وأنا أجزّ على أسناني، ضغطتُ بؤبؤ العين، وكان الوجع يأتيني في الحلم على هيئة صداع نصفي، لا أعرف من أين أتى الصوت الذي قال لي أن هناك كيساً من المياه الآسنة محشوراً في عيني ولا بد من تصفيته، لا وعيي المميت، هذا الكلب العجوز، كان يذهب بقدمي المنومتين ناحية الظلام.

4

يشبه صداع الضغط، أكوام من البيوت التي سكنتها، كأنها متهدمة فوق دماغي.
هناك الملابس المتسخة في سلة الغسيل، التراب الذي يغطي إفريز النوافذ، بقايا الأكل المتعفن في الأطباق، هذه الرطوبة التي أكلت جزءاً من الحائط، والنوم الذي نما على الأسرّة.
هذا الصداع كأنه فمٌ كبير في مؤخرة رأسي، يلقيني للأمام نصف مخدرّة، بين جدار الصحو والغفوة.
رأسي المجنون يفتح فمه الواسع ويبتلعني.

5

حلمتُ اليوم أنني حامل، وأنني أكتب قصيدة طويلة للطفل، وأناديه بحميمة يا «نونو»، لم تحمني أقراص منع الحمل من حمل طفل في بطني، الأقراص التي من أعراضها جلب الكآبة لعشرة مستخدمين من كل مائة مستخدم، ليس عليها إلا طرق الباب خفيفاً عندي، حتى تنهمر الأشباح بكل الألوان التي تحب.
قرص صغير كحبّة فلفل بيضاء؛ بخبثٍ سرّب إليّ الوحش الذي سيأكلني في العتمة.

6

صار عندي هوس بصور الأسماك، أوازي بينها وبين الحُب، أرى السمكة الميتة ملقاة بنعومة على مفرش حريري، متروك على منضدة خشبية مشربة برائحة زفرة، وسمكة أخرى تتدلى من على المفرش، رأسها يُطِّل من على المنضدة وجسدها في مواجهة أختها، هناك الحراشف اللامعة الملتصقة بجلد السمكة الرقيق، درجات ألوانها التي تتدرج من البرتقالي للأسود، وأحشاؤها السوداء ملقاة تحت الكرسي الخشبي لتصبح وليمة للقطط، بطنها النظيفة والفارغة، تصلح لالتهام شهي ونيئ.
قرأت مرة قصيدة عن شاعر يرى نفسه بحراً منفلتاً، أحسده الآن على الصور الكبيرة والملونة.

7

الحُب
ثلاث سمكات في طبقِ أزرق
منقوش عليه زهرة برتقالية كبيرة
هُنا
حيثُ العيون الباهتة
تحدق في مكانٍ آخر
الجِلد المنسلخ عن اللحم الأبيض
وخط طويل من الشوك
منزوع بمهارة ربة البيت الجديدة
بسكين رفيع ولامع
وقت الظهيرة.
أولاً، أغرسه في قلبي
لأشعر بالجوع
ثم
أغرسه في لحم السمكة
وأضعها في فمي
حتى لا تشعر بالوحدة.
____
*كلمات

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *