لغة الخشب في الخطاب السياسي .. التناقضات والتقاطعات بين لغة السياسة ولغة الشارع

خاص- ثقافات


إعداد: نـوّارة لـحــــرش

 

كثيرا ما يتردد مصطلح لغة الخشب كلّما تعلق الأمر بالخطاب السياسي وخُطب السياسيين. وهنا يتم طرح أسئلة عن لغة السياسة ولغة الشارع: التناقضات والتقاطعات، وكيف أنّ الخطاب السياسي ينفصل غالبا وكثيرا عن لغة اليومي، لغة المواطن العادي البسيط، وهذا ما يُحدِّث هوة بين الطرفين. كما أنّه أحيانا أخرى (أي الخطاب)، ينزل إلى مستويات شعبوية غير مقبولة وغير مُبررة. كما أنّه يتم توظيف لغة الخشب في الخطابات بطريقة كثيرا ما تكون آلية، في سياقات شبه طبيعية عند السياسيين، لكنّها تصطدم أمام المُتلقي، الذي كثيرا ما ينتقد هذه اللغة وينفر منها ويطلق عليها مجموعة من التسميات والتوصيفات، (منها الساخرة والكاريكاتورية)، ما يؤكد على وجود أزمة حقيقية في لغة الخطاب السياسي، الذي لا يرقى إلى درجة الإقناع، ما يعني أنّه أمام معضلة عدم إجادته لإيصال الرسائل/الأفكار إلى المواطن، في ظلّ غياب لغة وأدوات التواصل معه.

حول هذا الشأن كان هذا الملف، مع مجموعة من الأكاديميين والدكاترة الجزائريين المختصين في العلوم السياسية.

 يوسف بن بزة

يوسف بن يــــزة/ أستاذ العلوم السياسية بجامعة باتنة1

 

أغلب السياسيين لم يصلوا إلى مرحلة النضج التي يتم فيها تصنيف لغة الخطابات

 

في تقديري أنّ مصطلح “لغة الخشب” تم توظيفه للكناية عن جفاف اللغة المستخدمة في الحملات الانتخابية، وفي الخطاب السياسي بصفة عامة، وهي في العادة لغة جاهزة تُصاغ في قوالب معروفة فهي خالية من أي مضمون فكري مؤثر، بِغض النظر عن نبرتها التي ترتفع كلّما كان محتوى الخطاب بسيطا وغير مُقنع.

وبالعودة إلى اللغة المُستعملة في الخطاب السياسي عندنا، فأنا أعتقد أن أغلب السياسيين في الجزائر خاصة غير الرسميين لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضج التام التي يتم فيها تصنيف لغة الخطابات والتفنن في اختيار اللغة المرجوة حسب المكان والزمان والموضوع، لذلك نجدهم خاصة في الحملات الانتخابية يستدعون كلّ ما يملكونه من ذخيرة لغوية دون تمحيص أو غربلة وهذا ينتج عنه ضعف التأثير على المُتلقي الذي يتعامل بدوره مع لغة الخطاب بمزيج من العقل والعاطفة.

ما يمكن ملاحظته أيضا أن إلقاء الخطابات السياسية باللغة العربية الفصحى بصوت خطابي جهوري عالي النبرة في العادة ما يُلفت الانتباه لدى جميع الفئات لاسيما تلك غير المتعلمة وهذا يحيلنا إلى اكتشاف أثر سحر اللغة العربية على المُتلقي خاصة إذا جرت على لسان خطيب متمكن.. في حين تأتي الخطابات المُصممة باللغة المحكية والدارجة خالية نوعا ما من الحماسة ولو كانت على لسان حكيم.. وينسحب هذا الأمر على خُطب الجمعة مثلا.. ومن هنا نكتشف أن تأثير الخُطباء المتمكنين من الثقافة الدينية يكون أكبر من غيرهم ولو كانوا شعراء.

أريد أن أشير أيضا إلى أن هذا الجانب لا يحظى بالاهتمام في الحملات الانتخابية عندنا، فمن النادر أن نجد مستشارا لغويا أو مُختصا في اللسانيات بجانب زعيم حزب أو مسؤول سياسي وإذا وجد فهو محرر خطابات لا تتعدى مهمته ترجمة الأفكار من اللغة المحكية إلى الفصحى أو مجرد تنسيقها بلغتها الأصلية.

أما إذا تحدثنا عن المضمون الذي تحمله اللغة، فالأمر يختلف من لغة إلى أخرى ونُسجل أن قوة اللغة العربية في العادة تُغطي على ضحالة الأفكار فالمُتلقي لهذه اللغة يُفتتن بحسن البديع وجمال الصور البيانية ما يجعله لا ينتبه لقوة الفكرة أو بساطتها.. وهنا نستحضر مصطلح “التبلعيط” الذي يُشير إلى ذلك الخطاب المنمق المحشو بالمُحسِنات لكنّه لا يحمل أيّ مضمون مقنع.. وهذا هو النمط السائد في أغلب الخطابات السياسية وكذا خطابات الحملات الانتخابية المتعاقبة بالنظر إلى غياب البرامج الانتخابية وطوفان الشك الذي يحوم حول العملية ككل.

عبد السلام فيلالي

عبد السلام فيلالي/ كاتب ومحاضر – جامعة عنابة

 

إنّ الذي يؤدي إلى طرح مفهوم “لغة الخشب” هو استراتيجيات التعتيم

 

لنتفق على شيء، في السياسة لا شيء يمكن إخفاءه طالما أن الأمر يتعلق بالشأن العام. ولكن يجب أن نُسلم أيضا أنّه لا يمكن قول كلّ شيء. ثم هناك أمر من المهم دائما وأبدا إخفاءه وهو يخص المصلحة العامة. فدائما الإنسان تحركه دوافع خاصة لأجل الارتقاء الاجتماعي والتفوق الشخصي. هكذا فنحن أمام جدلية مُعقدة ظلّت تمثل بيضة القبان، أي في التمييز وخلق التوازن بين ما هو خاص وعام. لا يرتبط الأمر في نهاية المطاف بالأخلاقية التي رغم أنّها مؤسسة للفعل السياسي إلاّ أنّها تظل غير كافية، حيث أنّه لا يمكن البناء على النوايا الحسنة فقط في قضايا الشأن العام. بل أن الحل في تحويل الفعل السياسي إلى فعل مشترك وليس تمظهره فعلا فرديا، بمعنى أن يصنع بناء على منظومة قرارات تبعًا لضوابط وقواعد (القوانين). فنخرج بالتالي من أصول الفعل المرتبط بشخص واحد.

أمّا ما تعلق بطبيعة الخِطّاب الذي ينشأ كعملية اتصالية بين أطراف العمل السياسي، وبالإحالة إلى ما تم تحديده كتمييز بين اللغة السياسة ولغة الشارع. بوسعنا طرح طبيعة هذا الخطاب داخل الثقافة السياسية السائدة، وقد تم الاتفاق على أنّه لا يمكن إنتاج فعل سياسي شفاف في ظل منظومة سياسية لا تقوم على معايير الشفافية وحكم القانون. فلا أحد بوسعه المناورة إذا توفرت هذه الشروط، وقد صار اليوم من الصعب أن تمر على خطاب المناورة والمماراة مع تطور وسائل الاتصال. وكذلك فإنّ تعدد مراكز إنتاج الفعل السياسي التي لم تعد مقتصرة فقط على التكنوقراطيين مع دخول فواعل جُدد خاصة المجتمع المدني. وأيضا يجب الأخذ في الحسبان ارتفاع المستوى المعرفي لدى عموم المواطنين، أوّلا بسبب انتشار التعليم وارتفاع نسبة الحاصلين على مستوى تعليمي عالٍ ثم أيضا سهولة الحصول على المعلومات خاصة مع تطور الوسائل غير الرسمية.

وعليه لم يكن مقبولا وممكنا قطع العلاقة بين مستويات الخطاب السياسي، بين الفاعل الأساسي والفاعلين الثانويين أو غير المشاركين في إنتاجه. إنّ معيار المنافسة مهم في تطوير أداء الفعل السياسي، منافسة تكون فيها القدرة على تبليغ الخطاب من صميم العملية الديمقراطية. إنّ الذي يؤدي إلى طرح مفهوم “لغة الخشب” هو استراتيجيات التعتيم وغياب حرية الصحافة أو إشاعة الخوف والرهبة من التنديد بممارسات الفساد. فليس مهما في بعض الأحيان أن تقولن بقدر ما يهم إنتاج فعل سياسي قادر على الاستجابة إلى التطلعات العامة للمواطنين. وهذا هو نبل السياسة ومهمتها السياسية، أمّا أولئك الدجالين والمسوفين وناهبي المال العام، فليس ينفع معهم سوى قوانين رادعة وتنديد علني بهم.

إن لغة الخشب هي ابنة التستر وإخفاء العيوب وغياب الرقابة، وحينما تتوفر شروط الممارسة السياسية النزيهة لن يجرأ صاحب لغة الخشب أن يخرج إلى السوق ببضاعته الفاسدة.

نبيل دحماني

نبيل دحماني/ كلية العلوم السياسية – جامعة قسنطينة3

 

الخطاب السياسي أحد أهم أنواع الخطابات الشائعة وكلما انحرف وقع في العشوائية ولغة الخشب

 

يمثل الخطاب السياسي أداة جوهرية في نقل الأفكار والتعبير عن البرامج وجمع الدعم، لذلك حُظي المفهوم باهتمام بالغ في حياتنا المعاصرة، كما تحدد سياقات واتجاهات ومستويات هذا الخطاب أو ذلك بحسب اللغة المستخدمة فيها ونطاق شموليتها للمجتمع الذي تغطيه.

فاللغة في حد ذاتها تمثل خطابا، وهي الإطار الترميزي للفكر التفاعلي، والوعاء المُتضمن لمحمول ما يتحدد بحسب نطاقها والفئات المستهدفة منها. فالخطاب هنا يمثل محمول اللغة التي لا تنحصر في كونها وسيلة بل تسمو خطابيا وتمتزج بالفكر الذي تنقله، بمّا يتضمنه من طموحات ومشاعر وأفكار ومعارف وخبرات. إذ لا يمكن خطابيا أن تكون فاعلة ما لم تنسجم بمحمولاتها مع مقتضيات الراهن بتمفصلاته وتقاطعاته وتداخل عناصره وتشعبها ناهيك عن تعدد وتفاوت المُتلقي للخطاب فكريا وقيميا وعقديا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وبيئيا، بل وحتى جندريا (النوع الاجتماعي: نسوي/رجالي). لذلك ما انفكت الدراسات المعاصرة تولي اهتماما بالغا بتحليل الخطاب وتبيان أثره واتجاهاته. ويمثل الخطاب السياسي أحد أهم أنواع الخطابات الشائعة كونه يبلور في ثناياها باقي الأنماط الأخرى ويوظفه في وتيرة التأثير والتأثر داخل المجتمع.

فالمحمول السياسي للغة، يعبر عن الإرادات السلطوية والمجتمعية المتعددة، يقدم إجابات وتفسيرات لانشغالات وقلق الفرد داخل الجماعة، ويُوطن لنماذج فاعلة محددة النطاق والفرص؛ بعبارة أخرى يجيب عمن يحصل على ماذا؟ متى؟ وكيف؟ على حد تعبير (هارولد لازويل) أحد أبرز علماء السياسة والاتصال السياسي.

وقد تُمثل الدعاية أحد وسائل هذا الخطاب بسعيها لإقناع الجماهير وجلب التأييد والتأثير في سلوكات الأفراد، لكن تتوقف هاته الوظيفة على طريقة استخدام اللغة ومجموع المحمولات الرمزية والعينية والتعبيرية فيها، من حيث انتقاء مستوى خطابي شمولي لا يستثني فئة أو شريحة بعينها، من حيث مخاطبة النخبة والعامة في الآن نفسه. وذلك ما يمثل تحديا حقيقيا بالنسبة للساسة وبخاصة في الحملات الانتخابية التي ترسم وفق استراتيجيات وتكتيكات عالية الدقة وبالغة الحساسية. فكلّما انحرفت هذه الخطابات أو تلك وقعت في العشوائية والشعبوية ولغة الخشب غير المجدية. وهو ما يفقدها التأثير اللازم، ويصيب المجتمع بالإحباط والخمول وعدم الثقة.

فلغة الخشب التي شاع استخدامها في أدبيات السياسة الجزائرية والعربية عموما، هي مركب لغوي إنشائي وجداني تاريخي يخاطب القلب لا العقل يناكف الواقع ليعانق الخيال والماضي والأمجاد وهو ما يجعلها ديماغوجية انطوائية، لأنّها لا تتجه للمستقل، هشة وحيادية سرعان ما تتحول إلى رماد إذا اصطدمت بلهيب الواقع ومقتضياته.

إنّ الخطاب السياسي الفاعل والمؤثر هو الخطاب الذي يحمل في طياته ضرورات الراهن ليعانق حلول المستقبل، والذي ينغمس في يومياتنا واحتياجاتنا، مقترحات إشباعاتها الرمزية والعينية. بما سيرفع من معنويات الأفراد ويزيد من تحفيزهم للإقبال على المساهمة والمشاركة وانتقاء أحسن النماذج العامرة بالأفكار والقيم والنهج والأحلام. دون أن يقع في المستويات الدنيا للغة الشارع الغليظة كالتنابز والشتم، وأخبار الجرائم وأعراض الناس، والهمز واللمز في حاراتنا العتيقة والهشة في قصباتنا العثمانية. ودون النزول للحديث إلى حقيقة سعر البطاطا وسعر الموز، وعن الصكوك التي سيتم توزيعها على العائلات المعوزة.

فهو الخطاب الذي يوحي للجماهير بضرورة التعبئة والتجند وانتقاء النموذج الأنسب للتعاطي مع المستقبل الأفضل من خلال برامج حقيقية وفاعلة. خصوصا أنّ التحولات الكبيرة التي يعرفها المجتمع الجزائري والتي لم تعد خافية على أحد تؤكد على أن الأفراد قد بلغوا مستوى من الوعي لم يعد من السهل إقناعهم بوهم الماضي ولا بالنعيم الموعود بقدر ما يطمحون إلى صناعة الجنة في واقعهم اليومي.

لطفي دهينة

لطفي دهينة/ أستاذ وباحث في العلوم السياسية – جامعة قسنطينة 03

 

هناك هوة كبيرة وفجوة واسعة بين لغة السياسي ولغة المواطن العادي

 

إنّ الارتقاء بالعملية السياسية يفرض وجود فهم عميق لواقع المواطن ووجود خطاب سياسي مناسب، يتسم بالعقلانية والواقعية والتماس المباشر مع اهتماماته وانشغالاته اليومية التي تطغى عليها المَطالب الاجتماعية، في ظلها أصبحت لا تغريه كثيرا الشعارات الرنانة التي تتغنى بالديمقراطية والمواطنة ومختلف القِيم التي اعتاد على سماعها خاصة في فترات الانتخابات، حتى تشكلت لديه مناعة ضدّ الانسياق وراءها، وصار يبحث عمن يخاطبه بلغة يفهمها تحكي له عن واقعه ووضعه الاجتماعي والسبيل إلى تحسينه.

إنّ الحالة التي آل إليها الخطاب السياسي جعلته في أزمة حقيقية، حتى أنّه لا يرقى إلى تطلعات المواطن العادي ولا يستطيع إشباع فضوله، حيث يلاحظ على الطبقة السياسية عدم إجادتها لفهم المواطن وعدم تمكنها من لغة وأدوات التواصل معه، مما تسبب في إيجاد هوة كبيرة وفجوة واسعة بين لغة السياسي ولغة المواطن العادي، الشيء الذي ساهم في تكريس حالة العزوف الشعبي عن المشاركة في العملية السياسية، وساهم في تشكيل حالة من عدم الثقة بين المواطن والسياسي.

ومن مظاهر ذلك أن كثيرا من السياسيين والمترشحين، منهم خاصة لا يدركون حقيقة المناصب التي هم مقبلون عليها لذلك لا يحسنون استعمال مفردات الخطاب السياسي المناسب وفي كثير من الأحيان تجدهم يطلقون وعودا زائفة وتعهدات هلامية لا تدخل ضمن صلاحياتهم، في محاولة بائسة لكسب الرضا الجماهيري وهم بذلك ومن حيث لا يشعرون يساهمون في تعميق الهوة الموجودة أصلا بين المواطن والسياسي، ويزيدون في ترسيخ أزمة الثقة بينهما حينما يدرك المواطن أن هذه الوعود هي وعد من لا يملك والتزام من لا يقدر على الوفاء.

ومن مظاهر الأزمة في الخطاب السياسي النزول إلى حد الإسفاف السياسي في كثير من الأحيان، بالقفز على الأدبيات والأبجديات التي تؤسس لخطاب واع وواقعي ومقبول، والهبوط إلى مستوى الخطابات الشعبوية الرديئة التي تستعمل الديماغوجية وتعمل على دغدغة عواطف الجماهير للحصول على تأييدها دون تناول القضايا الحقيقية التي تشكل صلب اهتماماتهم وحجر الزاوية في تطلعاتهم، وهو ما أدى إلى اتساع الشرخ الموجود بين المواطن والطبقة السياسية، وعزز من حالة التوجس وعدم الثقة في العملية السياسية وجدوى المشاركة فيها وهو ما يفسر العزوف الشعبي عنها. فكثيرا مثلا ما تنطلق الحملات الانتخابية وسط تناقضات في الاهتمامات والتطلعات بين طبقة سياسية تسعى لكسب ود المواطن والحصول على التأييد الشعبي، ومواطن يسعى لإيجاد من يفهم واقعه ويلبي تطلعاته، ويبحث عمن ينجح في إقناعه ويعيد إليه بعض الأمل في جدوى العملية السياسية برمتها.

والواقع فإنّ مظاهر الانفصال التي تطبع العلاقة بين الخطاب السياسي الحالي وخطاب المواطن العادي باتت مشكلة حقيقية تواجه العمليات السياسية وتُهدد المشاركة الشعبية فيها، لذلك وجب التعامل معها بحذر وجدية أكبر، للرفع من مستوى الخطاب السياسي وملاءمته مع واقع المواطن وتطلعاته وجعله يتسم بالواقعية والعقلانية والابتعاد عن الشعبوية ولغة الخشب، والهدف من ذلك هو إعادة بناء الثقة المفقودة والتخفيف من حجم الهوة الموجودة وهذا الأمر يتطلب بطبيعة الحال الكثير من الوقت والعمل على المدى القريب وكذا الاستراتيجي لتحقيقه.

بوحنية قـــــوي

بوحنية قوي/ أستاذ العلوم السياسية – جامعة ورقلة

 

في لغة الخشب ينسى المخاطب والسياسي أنّه جزء من منظومة متكاملة

 

لغة الخشب تشير إلى نوع من الخطاب الديماغوجي السكوني يجمع بين جملة من التناقضات، يجمع بين الوعود المعسولة كالقضاء على البطالة مثلا، وضمان جودة النمو، وتحقيق رغد العيش وغيرها من الوعود المُنومة أو المخدرة، لكنّه (أي الخطاب الخشبي الديماغوجي) لا يراعي إمكانيات البلد وتقلبات الاقتصاد وما قد يعتري الحياة السياسية من تغيرات قد تُصعب من تحقيق الأهداف المرسومة، إنّه خطاب يُخلط بين وظيفة يفترض أن تكون نبيلة ترتقي بجودة الحياة التشريعية والاجتماعية للمواطن وبين وعود لا يمكنها أن تحقق ذلك. في لغة الخشب ينسى المخاطب أو السياسي أنه جزء من منظومة متكاملة.

لغة الخشب، لغة تخديرية للأسف، ووطننا يحتاج إلى لغة إيجابية، لغة ترتقي بالأخلاق السياسية وترتقي بالتطلعات الرئيسية لبناء اقتصاد مُستدام وأخلاق سياسية تُساهم في أخلقة الخطاب السياسي. الدولة الجزائرية بذلت مجهودات كبيرة للاستجابة إلى الاحتياجات المتزايدة للمواطن، وقد قدمت خدمات ومرافق في مستوى تطلعات أي شعب في العالم، والخطاب السياسي بحاجة إلى إبرازها ضمانا للحفاظ على الأمن والاستقرار والبناء.

فؤاد منصوري

فؤاد منصوري/ كلية الحقوق والعلوم السياسية جامعة عنابة

السياسة والاستماع: أية جدلية؟

إنّ السياسة كحقل معرفي وممارساتي تستوجب إدارة الشأن العام بتشعباته ورهاناته المتلونة، فالسياسي بامتياز مستمع جيّد لانتظارات المواطن وهمومه وطموحاته، يتماهى مع أهدافه ويقترب من آماله. وإنّ المتفحص للراهن السياسي والدينامية السياسية عموما في الساحة الوطنية يخرج بفكرة مفادها أن لغة الخشب بضاعة يومية مكرسة في محمولات الخطاب السياسي الذي تشوبه لغة اللف والمراوغة وأصبح مختزلا في مباركة ومغازلة المواقف السياسية، دعم البرامج الغامضة وتبادل التهم المبتذلة.

لا يمكن فصل الخطاب السياسي عن منتجيه، ولا يمكن فصله عن ثقافة الخطاب المرتبطة بالممارسة الديمقراطية كقيمة مركزية تُفعله وتثمنه… لقد أصبح كلّ من هب ودب يمكنه أن يتسلق ليصل إلى منصب رئيس جمعية سياسية -في ظلّ نكوص القيم المركزية-  ليحولها إلى شركة خاصة أو شركة ذات أسهم لتكون ترسا في آلة كبيرة لإنتاج الرداءة وإعادة إنتاجها بشكل موسع كلّما استدعت الضرورة ذلك. وبهذا المعنى ابتعد الخطاب السياسي الحزبي كلّ البعد عن ترجمة انتظارات الفئات الاجتماعية بمختلف تدرجاتها وانغمس في الشعبوية المفرطة والابتذال.

إنّ الخطاب السياسي الحقيقي هو ذلك الحامل للقيم والتصورات والبرامج النابعة من ثقافة مجتمع ما وما توصل إليه ذكاؤه وحسن تدبيره في مختلف مشارب الحياة، فهو مقترح لحلول المشاغل اليومية للفرد والجماعات واستشراف السيناريوهات المستقبلية، وهذا يتطلب في منتج الخطاب حدا أدنى من المعرفة النظرية والتطبيقية وأيضا السلوكيات النابعة من احترام القيم الوطنية والعالمية.

إنّ دلالات الخطاب السياسي في شقه الحزبي تعبير عن واقع بائس لا تحركه سوى المطامع والحسابات الشخصية الضيقة، فالعمل الحزبي يتميز بالظرفية المرتبطة بالمواعيد الانتخابية بغية تحصيل المغانم وتقاسم الامتيازات، بعيدا عن أشكال النضال اليومي المستمر والتقرب من المشكلات الحقيقية للمواطن مثل التنمية والتشغيل والقضاء على كلّ أشكال التهميش والهشاشة.

لقد انعكس هذا الواقع على مدى ثقة الفرد في العمل الحزبي وفي الحركية السياسية برمتها فأصبحت ثقته هشة ومهزوزة زادت من حجم الهوة بينه وبين مدى تأثيره في تدبير الشأن العام وجعلت منه فردا غير مهتم وغير مبال بما يجري حوله.

متى تصبح السياسة مستمعا؟ نصل إلى هذا المعنى عندما يرتقي الخطاب السياسي إلى مستوى انتظارات المواطن ويكون بذلك معبرا حقيقة عن آماله وطموحاته حاملا للإجابات في الحاضر والمستقبل، ويكون هذا الخطاب نتاجا لبيئة ثقافية واجتماعية متفاعلة إيجابا مع القِيم الوطنية والإنسانية.

يبقى التنبيه إلى منظومة التعليم ونوعيتها باعتبارها الرهان الحقيقي والأوّل، فهي القاطرة الأساسية الجارة لكلّ القطاعات والتي تنتج مجتمعا واعيا بواجباته وحقوقه، وعندها فقط نتكلم عن السياسة التي تكون مُستمعة ومُنصتة لا طرشاء ومُنفرة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *