“موت صغير” الفائزة بالبوكر 2017: مأخوذة عن رواية عراقية
مايو 3, 2017
*باسم المرعبي
عُلبة لغوية
لماذا تكون أغلب الروايات العربية التي يكتبها الجيل الأحدث من كتاب الرواية، المخطوف ببريق الجوائز، ثقيلة الوطأة على القارئ، عسيرة الهضم، ولا تُكمل قراءتها إلا بدافع الواجب. وبالمقارنة مع نماذج لا حصر لها من الرواية العالمية، لا الراسخة والشهيرة، كي تكون المقارنة موضوعية، بل التجارب الأحدث في الكتابة والأقل شهرة، نجد كم هي بائسة الرواية العربية، كما تجسدها التجارب المشار إليها، لخلوّها من الموهبة، بالدرجة الأساس وغياب المراس والبراعة الكتابية هذه التي تعني جملة الأدوات والتقنيات اللازمة لنجاح العمل بما في ذلك عوامل جذب القارئ، النابعة من داخل العمل، بطبيعة الحال، لا من خارجه. كما لا تُغفل أهمية التجربة الحياتية الغنية أو المغامرات الجديرة بالتدوين، فإذا ما خلت الرواية من كل ذلك فلا تكون بالمحصلة سوى تراكم لطبقات من اللغة والسرد المختنق، وكأنّ الكاتب يغوص، مكبّلاً، تحت الأرض بدل أن يرتقي في الفضاء برشاقة طائر.
من هنا يمكن عدّ رواية محمد حسن علوان “موت صغير” الساقي ـ 2016. البوكر ـ 2017. علبة لغوية مغلقة يشعر القارئ بثقلها عبر مئات الصفحات التي يمكن حذفها بسهولة دون أن يخلّ ذلك بها، خاصة تلك الفصول الموازية للمتن الرئيسي للرواية، المطبوعة بالحرف الغامق فهي وحدات مستقلة تصلح أن تكون قصصاً قصيرة أو حتى مقالات، إذ لا صلة لها من قريب أو من بعيد بمسار أحداث الرواية وتطوراتها، إلا بشكل متعسف. لهذا يمكن اختزال الرواية إلى 150 صفحة فقط وحتى أقل، أي أن هناك ما يقاب الـ 450 صفحة لم يكن لها من لزوم، سوى لزوم وجاهة الحجم وهي عدوى منتشرة كثيراً وباتت ظاهرة. وهو ما وصفه الناقد المغربي سعيد يقطين بـ “البدانة الروائية”، إذ يرى أنّ (الروايات المبنية على الإيجاز هي في الواقع أصعب من كتابة الرواية الطويلة. إنها الرواية التي لا يمكن أن نحذف منها كلمة واحدة. وهذه هي الرواية الحقيقية)، معللاً البدانة الروائية بأنها نتاج الكتابة السريعة. وهو ما تؤكده، كملمح من ملامح السرعة، الأخطاء الطباعية واللغوية في رواية علوان، والتي لا يقع بها سوى المبتدئين، حتى وإن كانت قليلة. مع هذا الكم اللغوي تبدّت “موت صغير” مجرد سطحٍ من السرد يفتقد العمق، وهي بهذا المعنى رواية أُفقية شأنها شأن الشائع من روايات اليوم التي تُروى أو تُفرش على صفحات الكتب كحكاية أو مجموعة حكايات متحللةً من العناصر الفنية وبعيدة عن اللمسة العبقرية التي ترفعها فوق العادي من الكلام والإنشاء. يتساءل القارئ وهو يتقدم بصعوبة ومشقة في قراءته الرواية ما الذي أراده الكاتب من سرد أسفار الشيخ محيي الدين بن عربي واستعراض سيرته التاريخية؟ أليس الحري به أن يسحب ابن عربي إلى عصرنا وليس العكس، كما هو حاصل، أي أن يأخذ قارئ اليوم المُحاط بكل التقنيات الحديثة ويعيش أزمة عصره واختناقه ويقذف به إلى عمق سبعة قرون غابرة بلغة اجترارية عتيقة، تعتمد القاموس، سواء على صعيد الحوار أو السرد ذاته، لذا فرواية مكتوبة بهذا الفهم لا تعني كثيراً قارئ اليوم، وإلا ما شأنه بمفردات أو مصطلحات كهذه، الخرقة والجلوة والخلوة والجذبة والوتد… إلخ، هذا القارئ قد لا يشارك الكاتب اهتمامه ونزعته، من دون إغفال أنّ ثمّة، بالمقابل، صنفاً من القرّاء ينزع إلى الاهتمام بالتصوف، لكن بإمكانه التماس هذا العالم في ينابيعه الأساسية لا عبر رواية مكبّلة فنياً. إنّ غبار الأزمنة ليتطاير من صفحات الرواية التي حفلت بقوالب الكلام المستهلك والجاهز، كما الإلحاح على التكرار الثقيل، اللا مُجدي، والذي هو سمة من سمات نثرية هذا العمل الباهظة وإخفاقه. نشير هنا إلى بعض الأمثلة السريعة فقط.
(وما دام قد خلع خرقته فليس بوتد…..
وقف أمامي وخلع خرقته وخلعت خرقتي).
(فاذا لبس مقطعه ـ كذا ـ التونسي واحتزم بحزام من الخز ووضع فوقها جبة من الديباج واعتمر عمامة علمنا أنه يوم عادي يذهب فيه الى عمله في قصر الملك محمد بن مردنيش. أما اذا اعتمر قلنسوة أو اتشح بطيلسان فنعلم انه ذاهب لشأن آخر غير شؤون البلاط يزور أحداً أو يقضي حاجة في السوق. أما اذا لبس البرنس البربري بلا حزام وطيلساناً بلا قلنسوة فالأغلب أنه سيذهب الى جامع مرسية ليلقي درساً هناك أو يحدث حديثاً. لكل مقام لباس. الديباج لحضرة الملك، والطيلسان للعامة، والبرنس للمسجد).
إن أمثلة كهذه وغيرها الكثير مما لا يمكن حصره، تشير إلى أمرين الأول يتعلق بانعدام الحساسية إزاء اللغة والثاني إلى همّ هو خارج الفن الروائي بل هو عبء عليه يتمثل في السعي إلى زيادة حجم العمل بمثل هذا التكرار الذي يجعل من عملية السرد نكتة سمجة، وكأنّ “ثخن” الرواية يمثّل، في حد ذاته، امتيازاً.
ابن عربي أَم ابن تيمية؟!
في “موت صغير” يتوارى ابن عربي، ذلك الروح الصوفي الكبير، بثقله الفكري والفلسفي، في غُبرة اليومي والانهماك الحياتي الساحق، وكأنّ صاحب “الفتوحات المكية” يموت في كل صفحة من صفحات هذه الرواية، فقد اغتيل فنياً. وقد كان أكثر حضوراً بتلك القبسات المضيئة منه التي تصدّرت كلّ فصل من فصول الرواية المتعلقة به مباشرة وعلى لسانه كراوية للعمل، أو تلك المبثوثة في المتن الحكائي، وهي أجمل ما في الكتاب لأنها تحيل مباشرة وتذكّر بفرادة هذه الشخصية وأثرها في الثقافة العربية والاسلامية وحتى العالمية، رغم الجدل الذي رافقها في حياتها وموتها، والذي لم يهدأ حتى اليوم. ولا يمكن نكران أنّ هناك بعض الالتماعات في الرواية لكنها تلاشت تحت أكوام التفاصيل والسرد النثري المتواتر المُمل الذي نأى عن الشخصية الرئيسية والأحداث الأهم المتصلة بها والمبلوِرة لوجودها. غير أن المفارقة الأشدّ خطورة هو أن يتمّ تقديم ابن عربي كوجه آخر ـ رغم التنافر والبون الكبير بين الاثنين ـ لابن تيمية، بقصد أو دون قصد، في تعصب الأخير وانغلاقه وعدوانيته تجاه الآخر وهو هنا المسيحي، بشكل خاص، وبدرجة أقل اليهودي، فثمة إشارات كثيرة في الرواية تفصح دون مواربة عن طبيعة التمييز والنظرة الدونية التي تعاطى بها ابن عربي مع أصحاب هاتين الديانتين كما أراد له المؤلف، وكأنّ ابن عربي لم يشفّ عن نفسه كما تشفّ الزجاجة عبر هذه الأبيات، وفي جانب عظيم من نتاجه، كروح كبرى:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
أدينُ بدين الحب أنّى توجّهت ركائبُه فالحبّ ديني وإيماني
واستكمالاً للملاحظة الأولى حرص الكاتب، من جهة أُخرى، على إظهار ميلٍ عنصري، عرقي لدى “إمام العارفين” كما يلقبه أصحابه، تعظيماً، ضدّ أحد أتباعه ومريديه، هو بدر الحبشي، في بداية تعرفه عليه، بسبب لون بشرته، واصفاً اياه بالعبد! كما لم ينس الكاتب، وانسياقاً وراء رؤيته السلفية، نصيبه من التعريض بإحدى الطوائف، حدّ الهبوط إلى مستوى يقارب التحريض ضدّها وكأنه موكل بتقديم الصورة السالبة لشخصيته الروائية هذا إن لم يكن اتخذها قناعاً، في هذه الجزئية بشكل خاص، متناسياً أنه ليس بصدد كتابة سيرة تاريخية، حرفية، قدر ما تقتضي مهمته كتابة سيرة فنية روائية. في الوقت الذي يتعامل القارئ مع ابن عربي، هنا، بوصفه معطىً روائياً لا تاريخياً، وبالتالي فإنّه يتوخّى من الكاتب أن يوجه بطله الوجهه التي يريد، بصرف النظر عن الإطار الواقعي المحدد للشخصية وما يترتب على مثل هذا الوجود، فهي في العمل الفني تُخلق وتُشكّل من جديد. هذا إذا أقررنا أو صادقنا على ما نُسب لابن عربي من مواقف أو نظرات كما انتقاها وأبرزها كاتب “موت صغير”، هذا العنوان المأخوذ من قول لابن عربي، “الحب موت صغير”، غير أنّ الكاتب لم يستطع، أو هو لم يُرد، تمثّل روح ابن عربي الحقّة في بُعدها الإنساني وبخصوصيته الصوفية، والتي تعني استيعاب العالم والتوحد به. لقد بدا ابن عربي في مجمل صورته ومواقفه في الرواية، كائناً صغيراً ضائعاً ومشتتاً بين نسائه وأطفاله، وبالمقابل، ولكي لا يُساء فهم اعتراض كهذا، فإنّ القارئ لا يطلب تأليهاً له. وأحسب أن البلبلة التي شابت صورة ابن عربي تعود أولاً وأخيراً إلى ما هو فني، ولو كان الكاتب قد نجح في كتابة رواية فائقة اللغة والتقنية لأقنعنا دون شك ببطله مهما كانت الوجهة التي اتخذها والسيرة التي بدا عليها.
لكن، وأخيراً، لا بد من التوقف عند سؤال “مصيري” يخص فكرة الرواية الأساس وجوهرها باعتمادها سيرة هذه الشخصية موضوعاً لها، والسؤال يلوّح بالشك عن مصدر إيحاء هذا العمل لكاتبه، بشكل مباشر، فلماذا محيي الدين بن عربي، تحديداً؟. سؤال قد يبدو لا معنى له لو لم يكن الكاتب العراقي لؤي عبد الاله ـ بتجاوز بورخس، هنا، واستثماره المختلف لفكر ابن عربي ـ قد سبق علوان بثماني سنوات من خلال إصدار روايته “كوميديا الحب الإلهي” ـ المدى 2008، والتي تلتفت بدورها إلى شخصية هذا القطب الصوفي وتستلهمه روائياً لكن بصيغة أرادها الكاتب أكثر معاصرة وحيوية حين جعل من أبطاله يعانون مشكلات عصرنا هذا ويخوضون أحداثه السياسية والاجتماعية. بالمقابل حاول علوان في “موت صغير” الاتصال بالحاضر في بعض أجزاء الرواية الموازية لكنه أخفق في ذلك بشكل بيّن، لأن معالجتها كانت خارج المتن الروائي الأصل وهي مصممة سلفاً وبشكل متكلّف فكانت أشبه بالترقيعات التي زادت من نفرة القارئ من العمل ككل.