«حان الأوان لأن نفترق»: رسالة الوداع من تشي غيفارا إلى فيديل كاسترو

*ترجمة: عبدالله حبيب 

مقدمة طويلة

أثير كثير من اللغط حول الرسالة الوداعية التي كتبها تشي غيفارا إلى فيديل كاسترو، وقد قام بعض الشيوعيين العرب – منذ الستينيات- بترجمتها بطريقة لا تعكس سوى أمنياتهم التبسيطية حول حقيقة ما جرى، ومن دون الالتفات إلى الخلفيات المعقدة لما حدث، وقد تم التعامل مع الأمر بصورة وجدانية فحسب بإقصاء القارئ من السياق الأكبر الذي كُتبت فيه تلك الوثيقة التاريخية القصيرة والمهمة. لقد طوى المنون الرمزين الثوريين العملاقين معاً، وصرنا نعرف الآن أن تشي غيفارا طلب من رفيق دربه فيديل ألا تظهر رسالته إلى العلن -قراءة أو نشراً- إلا بعد موته. سلّم غيفارا الرسالة إلى كاسترو في مظروف أبيض مغلق بعد تناول وجبة غداء معاً. وقد كان تشي يتأهب حينذاك لشن حملته الافريقية العسكرية، بعد أن شعر ان كوبا صارت تضيق به وعليه (سأقول المزيد حول هذا لاحقاً)، وكان يحدس انه سيموت في إفريقيا، لكن المفارقة المؤلمة كانت ان خبر وفاة امَّه (التي يُجمِع كُتاب سِيَرِه الغيرية انه لم يشعر بالأمان إلا إلى جانبها على الرغم من انه عاش معظم حياته بعيداً عنها، وانه «أحبها أكثر من أي شخص آخر في العالم») قد وصله – أي خبر وفاة أمه- وهو يتأهب للقيام بعملية عسكرية في أحراش الكونغو، فما كان منه إلا أن طلب من رفاقه أن ينفرد بنفسه قليلاً. وفي تلك الخلوة القصيرة بكى تشي غيفارا بينه وبين بنفسه قبل أن يعود إلى زمرة المقاتلين بعينين حمراوين صارخاً بأمره الصارم كالعادة: «أيها الرفاق، هيَّا إلى المعركة».

صحيح أن محاولة تشي في افريقيا كانت جزءاً من الحلم الثوري الأممي للرجلين – فيديل وتشي («فيتنام، فيتنامان، سوف نشعل ألف فيتنام»)، ولكن غيفارا وجد في الحملة الافريقية حلاً مُرضيا ومأساوياً في الوقت ذاته للخلافات التي بدأت تتفاقم بينه وبين فيديل. وافق كاسترو على طلب تشي في الذهاب للنضال الأممي في افريقيا (وهو يدرك سراً بينه وبين نفسه أن كوبا في مرحلة ما بعد انتصار الثورة لم تعد تتسع لأحلام رفيقه الثورية الهائلة) بعد ان تأكد – أي كاسترو- من مرافقة نخبة من خيرة جنود وحدة الصاعقة من ذوي الأصول الإفريقية بعد تدريب خاص وشاق للقتال في طوبوغرافية أفريقيا. ولاحقا، في عدة حوارات معه، حاول كاسترو مداراة الأمر، تماماً كما فعل لاحقاً بعد إخفاق الحملة البوليفية التي أدت إلى أسر وإعدام غيفارا: «كانت تلك فكرة تشي وليست فكرتي أنا. كان في وسعي منعه لأسباب سياسية باعتباري قائداً للحزب، لكني بسبب علاقاتي الخاصة به، ومعرفتي بمزاجه النَّزِق وتوتر أعصابه، لم أكن قادراً وليس لائقاً أن أمنعه من فعل أي شيء».

بهذا فإن الأمر كان أكثر تعقيداً بكثير من «مهمة نضالية أمميَّة في افريقيا»، فقد كانت سطور الرسالة المغَلَّفة تحتوي على تتويج لخلاف صامت بين الرجلين ابتدأ منذ لقائهما الأول في العاصمة المكسيكية (بترتيب من شقيق فيديل، راوءل كاسترو، الرئيس الحالي لكوبا، ومروراً بحملة الـ»سييرا مايسترا»، وحتى انتصار الثورة الكوبية). كانت «الرسالة الوداعية» وداعية بكل معاني الكلمة – مؤلمة، وحزينة، وموجعة، ووفيَّة، وصادقة ربما أكثر مما ينبغي حتى بعد عقود طويلة من كتابتها. ومع ذلك، وعلى طول الخط، فقد تحدث كل من تشي وفيديل عن بعضهما البعض بكلمات إجلاليَّة ومؤثرة لا تزال محفورة في الذاكرة الثورية للقرن العشرين، فقد قال تشي غيفارا عن فيديل كاسترو: «أنا لم أحب فيديل لأنه فكَّر بالمستحيل، بل أحببته لأنه حقق المستحيل». وفي الوقت نفسه، لن ينسى أحد صوت فيديل كاسترو وهو ينعي رفيق دربه في الإعلان الرسمي للاستشهاد بعد تأكده من ذلك عبر الصور الفوتوغرافية التي وردت من «لاباز» وهو ينتفض بصوت متهدج مُرْتَجَل مسائلاً ومتحدياً العالم: «مَن له قلب مثل قلب تشي، من؟. مَن مِثل تشي، من»؟. وأظن انه ينبغي هنا التذكير بمقولة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: «لقد كان تشي غيفارا الإنسان الأكثر قرباً للكمال في عصرنا».

لكن كل هذا لا يستطيع تجاوز حقيقة انه كان لتشي وفيديل مآخذ ليست هَيِّنة على بعضهما البعض. مثلاً، تشي كان يصر على ماركسية الثورة الكوبية بعد النصر، بينما لم يكن كاسترو قادراً على التضحية بحلفائه الوطنيين غير الماركسيين في النخبة الليبرالية الكوبية بصورة خاصة؛ فبعد انتصار الثورة أصبح فيديل كاسترو «رجل دولة» بينما أصر تشي غيفارا على أن يبقى «رجل ثورة». ومن يقرأ ما بين سطور مذكرات غيفارا لن يجد إلا صعوبة قليلة في فهم الاختلاف/‏الاختلاف بين الرجلين العظيمين منذ البداية، وبالطبع تحسب للقائدين ان تلك الخلافات كانت مستترة على الرفاق في النضال (وأظن هنا ان ما يُحسب لكاسترو أكثر مما يُحسب لغيفارا). والحقيقة ان اختلاف الرجلين في التكتيكات العسكرية كانت واضحة منذ البداية بعد الوصول الأعجوبي فعلاً إلى الشاطئ الكوبي، فقد كان تشي غيفارا مقتنعاً بفكرة الهجوم الانتحاري الكبير بحفنة قليلة من الرجال الأكفاء، بينما كان كاسترو مقتنعاً أكثر بالعقيدة التقليدية في حرب العصابات. ولكن كاسترو كان ينبهر في كل مرة بنجاحات تشي العسكرية الانتحارية.

كان تحرير «سانتا كلارا» وسقوط حاميتها العسكرية الحصينة المثال الأعجوبي الأكثر إذهالاً في سيرة تشي الحربية، وليس مستغربَاً انه بعد عقود طويلة من تحرير المدينة وإعدام تشي ارتأى كاسترو أن يُدفن رفات رفيقه بمراسم عسكرية مهيبة يتذكرها الجميع في «سانتا كلارا» تحديداً وليس في «هافانا» في عرفان وتذكار بالنصر الأسطوري الذي مهَّد الطريق لاستسلام العاصمة الكوبية ودخولها دخول الفاتحين على ظهور الدبابات بعد مناوشات محدودة فقط. غير أن جرأة تشي الاستثنائية كانت سبب مصرعه أيضاً، فقد أصر على التقدم المقدام في موقع مكشوف أدى إلى مصرع مقاتليه وأسره وإعدامه في الكارثة البوليفية. الغريب هنا أن تشي أرسل رفيقه بينينو (الذي لا يزال حيا يرزق) لاستطلاع المكان، فعاد هذا قائلا لتشي: «الجنود يملأون المكان مثل النمل»، فنظر إليه تشي وربت على كتفه قائلاً بهدوء: «لا أدري لماذا أحس اننا مقبلون على معركتنا الأخيرة»، وهذا ما كان. والحقيقة أن الكثير من مؤرخي حياة تشي غيفارا يرون انه لا يمكن فهمها من دون الالتفات إلى حس انتحاري هامس يستوطن روحه. وقد لخَّص كاسترو الأمر بإكبار وعتاب ضمنيين بعد وقوفه على تفاصيل العملية الأخيرة بقوله: «لو كنت في مكان تشي لأدركتُ فوراً أن في الأمر كمين، ولانسحبت برجالي، ولكني اعرف ان تشي لا يمكن أن يتراجع أبداً لأنه متهور بطبيعته».

بعد انتصار الثورة الكوبية بطريقة شِعرية تقريباً تفاقم الخلاف الصامت بين الرجلين (خاصة ضمن حملة منظمة في الحزب تدعو الى تقنين دور تشي غيفارا في الحياة السياسية الكوبية التي صار يطالبها بأكثر مما تستطيع، ولا يستطيع قادتها، في أمثلة زهديّة وتقشفيَّة من قبيل ان غيفارا قد تنازل لميزانية الحزب عن السيارة الصغيرة (من طراز «لادا») المخصصة لتنقل أسرته بمرافقة استخبارية لأسباب أمنية، مُصِرَّاً على ان زوجته ستتنقل في حافلات النقل العام كما يفعل كل الكوبيين الآخرين، وطالباً من قيادات الحزب عدم الركون لِدِعة وهدوء عطلة نهاية الأسبوع؛ بل ان عليهم التبرع بوقتهم الشخصي في العطلة الأسبوعية والذهاب إلى المزارع، والمصانع، ومواقع تشييد المباني في أعمال تطوعيَّة وخيرية كي يثبتوا للكادحين انهم القدوة والمثال كما كان هو نفسه يفعل بصورة منتظمة في عطلات نهاية الأسبوع، فكما قال في لقاء صحفي: «منذ انتصار الثورة وحتى الآن لم أتمكن من اصطحاب زوجتي إلى مطعم، أو لمشاهدة فيلم في عطلة نهاية الأسبوع».

كاسترو، السياسي المحنك، واجه موقفاً عسيراً، فهو، من ناحية، يثق في قدرات تشي غيفارا التنظيمية وإخلاصه للثورة ثقة مطلقة، ولكنه يخشى من اندفاعه الثوري في حزب يساري عليه أن لا يعلن عن هويته الحقيقة قبل أن يجد موطئاً للأقدام أولاً في جزيرة لا تبعد أكثر من ثمانين ميلاً بحرياً من شواطئ «فلورِدا».«علينا أن نصطدم بالولايات المتحدة، وعلينا أن نبدأ فوراً»، هكذا أصر تشي على ضرورة التأميم الفوري وطرد الشركات الأمريكية من البلاد (في الذاكرة تحطيم مبنى شركة «شل» النفطية). كان الأمر نصراً معنوياً وأخلاقياً كبيراً، لكنه كان أيضاً كارثة اقتصادية، وهذا ما كان كاسترو يتخوف منه.

وإلى هذا فإن من الجدير بالملاحظة انه فور انتصار الثورة أوكل كاسترو (ضليع المعرفة بالتناقضات الإثنية، والعرقية، والطبقية في بلاده) ملف المحاكمات إلى تشي. الذي يُقال ان كاسترو كان يحاول النزاهة بالنأي عن انحيازاته النفسية، والتاريخية، والانتقامية في المحاكمات، فقد كان يعرف بعض الجلادين شخصياً (ولا ننسى هنا ان كاسترو نفسه كان سجيناً سياسياً سابقاً، وبهذا فإنه يعرف أكثر من غيره الظروف اللاإنسانية للمعتقلين والسجناء السياسيين الكوبيين)، ولذلك فإنه قد سلّم ملف المحاكمات إلى رفيقه الأعز تشي ليتولى الأمر بعدالة موضوعية مبنية على الحقائق والأدلة فقط، متناسياً بذلك فيما يبدو طبيعة تشي غيفارا الطهرانية، والعنيفة، وغير المساومة التي جعلته يصدر أكثر من ستمائة حكم إعدام بحق جلادي الديكتاتور المهزوم باتيستا، بل وقيامه شخصياً بتنفيذ بعض أحكام الإعدام بحق بعض من ثبت تورطهم في اغتصاب المعتقلات والسجينات والسجناء السياسيين أو أي من ذويهم في العهد البائد. لم يكن تنفيذ أكثر من ستمائة حكم إعدام في بلاد صغيرة مثل كوبا أمراً هيناً بحيث بدأ شرخ يعتور المجتمع. ولا أحد يعرف على وجه الدقة فيما إذا كان كاسترو قد ندم على إيكال ملف المحاكمات إلى رفيقه الثوري العاطفي العنيف أم انه أراد الخروج من الأمر بيدين غير ملطختين بالدماء. وبالمناسبة، كان تشي يشرف بنفسه على إعدام من تثبت بحقهم أدلة الخيانة في الحرب الثورية، وقد كان صارماً جداً في ذلك. بيد انه ليس صحيحاً ما أثارته الدعاية السياسية الأمريكية ضده بوصفه «دموياً» و«سفّاحاً»؛ فقد كان الوجه الآخر من عملة تشي الرقة، والحنان، والإخلاص بحيث انه أمر جنوده بعدم مغادرة أرض المعركة إلا بعد التيقن من إخلاء الجرحى، متغاضياً بذلك عن استعادة جثامين القتلى، وفي إحدى المعارك حمل تشي على ظهره اثنين من رفاقه الجرحى وهو يطلق النيران الرشاشة الانسحابيّة في الوقت ذاته. والحقيقة ان من يقرأ مذكرات تشي غيفارا سيجد مواقف إنسانية عظيمة حتمتها قدرته الفائقة في سرعة اتخاذ القرار. وفي هذا كله ما يُذكِّر باللحظة التي وطأت فيها قدما تشي الأرض الكوبية لأول مرة اثر كارثة الإنزال الشاطئي؛ فقد كان تشي (وهو الطبيب الوحيد في الحملة) يحمل حقيبة إسعافات أولية ضخمة على ظهره إضافة إلى بندقية رشاشة، ولكن بعد اتضاح ان المعادلة العسكرية ليست في صالح المجموعة المضغوطة تحت قصف ناري عنيف تخلص من حقيبة الإسعافات الأولية وصار يجمع بنادق رفاقه المجندلين في الموت ويضعها حمولة زائدة جداً على ظهره. بعد سنوات طويلة من ذلك، وحين سئل عن سر تصرفه، أجاب ببساطة شديدة: «حقيبة الإسعافات الأولية قد تنقذ حياة شخص ما، أما البنادق فإنها تحرر شعباً بأكمله».

ضمن هذا السياق كان «رجل الدولة» (كاسترو) مضطراً لكبح جماح «رجل الثورة» (غيفارا). لهذا أخذ كاسترو يقصي تشي غيفارا بالتدريج الحذِر من مواقع صنع القرار من دون إغضابه بصفته رفيق الدرب الأعز الذي لا يفهمه أحد غيره؛ فصار يوكل إليه مهمة الأسفار السرية للقاء القيادات الثورية في أمريكا اللاتينية والعالم الثالث عموماً (زار جمال عبد الناصر مثلاً)، ومهمة الحديث باعتباره الناطق الرسمي باسم الثورة الكوبية في الأمم المتحدة (وفي هذا بالتحديد أبلى غيفارا بلاء حسناً في شرح القضية الكوبية للعالم، ومن الناحية الرمزية ضرب مثالاً للثوري الناصع فقد كان يرفض أن يمشي على السجادة الحمراء المخصصة لرؤساء مندوبي البلدان مُفَضِّلا المشي على الرصيف المحاذي ويديه في جيبي بنطاله)، وفي المؤتمرات الثورية العالمية، ومن ضمنها حضور مؤتمر الجزائر لدول عدم الانحياز، والذي ألقى فيه تشي غيفارا خطاباً عاصفاً بالفرنسية التي يتقنها ضد الاتحاد السوفيتي الذي وصفه بـ»البيروقراطية» و»التآمرية»؛ فبمثاليته الثورية المفرطة طالب تشي غيفارا السوفييت والدول الاشتراكية الأوروبية عدم طلب مقابل للأغذية، والأدوية، والأسلحة التي تقدمها لثورات العالم الثالث. كان خطاب تشي غيفارا في ذلك المؤتمر بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد غضب كاسترو لجهة انه يعتمد من الناحية الاقتصادية على الاتحاد السوفيتي في كل شيء تقريباً خاصة في ظل الحصار الأمريكي الخانق المفروض على بلاده.

وفي هذا كان من عادة فيديل كاسترو ان يذهب إلى سلم الطائرة العائدة لاستقبال واحتضان رفيق دربه تشي غيفارا، لكنه في هذه العودة من مؤتمر الجزائر لم يذهب لاستقباله عند سلم الطائرة، بل انتظره في قاعة كبار الضيوف في إشارة أراد أن يرسلها لمختلف الأطراف السياسية في كوبا. وقد سجلت آلات التصوير في المشهد المتوافر في الأراشيف السينمائية فتوراً واضحاً بين الرجلين (تعمد فيديل كاسترو وتشي غيفارا أن لا ينظر أيهما إلى الآخر، بل كانا يبتسمان للآخرين بمقدار واضح من التكلف البروتوكولي). بعد هذا جاءت سيارة «فيات» صغيرة وأخذت فيديل كاسترو وتشي غيفارا إلى مكان مجهول في هافانا في اجتماع دام لمدة أربع وعشرين ساعة كاملة ومتواصلة. كل الادبيات المتوافرة تجمع على انه «لا أحد يعرف ما دار في ذلك الاجتماع». وليس في هذا أي إمعان في حبكة بوليسية تليق بروايات التشويق والإثارة، ولكن كل من تشي وفيديل تهربا بطرق لبقة لاحقاً من الإجابة عن أي سؤال يخص ذلك الاجتماع.

بعد ذلك الاجتماع بدأ اختفاء تشي غيفارا من الحياة العامة في كوبا (لا يحضر العرض العسكري بمناسبة انتصار الثورة، لا يحضر الاجتماعات المهمة، قَلَّ ظهوره في التلفزيون، الخ)، وبدأ الشارع الكوبي والأمريكي اللاتيني عموماً يتساءل: أين تشي؟. لماذا لا يحضر تشي العروض العسكرية؟، إلخ. بدأت الإشاعات تنتشر حول ان غيفارا قد أُعدم إثر محاكمة ميدانية سريعة (وليس هذا غريباً في تاريخ الأحزاب الشيوعية)، أو نُفي، أو وُضِع رهن الإقامة الجبرية، وان هناك شرخ عميق في قيادة الثورة الكوبية، إلخ من أقاويل وتكهنات.

ضمن هذا السياق الصعب قرر فيديل كاسترو ان يحنث بعهده لرفيقه تشي غيفارا في إفشاء أمر الرسالة الوداعية لأن الأمر لم يعد يحتمل الكتمان. وفي مقابلة تلفزيونية شاهدتها مع فيديل كاسترو قال: «لم يعد الأمر متعلقاً بصداقتي ورفاقيتي العميقة لتشي غيفارا، بل كان ضرورة تخص سمعة الدولة الكوبية. لقد اتخذت قراراً سياسياً صعباً وضرورياً بعيداً عن كل العواطف». لهذا دعا كاسترو رئاسة الحزب لاجتماع قرأ فيه رسالة الوداع كاملة بصوت متهدج غالبَ فيه عاطفته بصورة جليَّة كي يبدو متماسكاً (صوّر التسجيل السينمائي للحدث الجلل عيون بعض قيادات الحزب بعيون تغرورق دمعاً)، وهذا هو نص الرسالة

رسالة قصيرة –

«فيديل:

في هذه اللحظة أتذكر أشياء كثيرة: عندما قابلتك في بيت ماريا أنتونينا، حيث اقترحتَ أن أحضر إلى هناك، وأتذكر كل التوترات التي تضمنتها الاستعدادات [لبدء العمل العسكري في كوبا]. في يومٍ ما جاؤوني وسألوني عمَّن ينبغي إبلاغه في حال موتي، وقد صَدَمَنا ذلك الاحتمال جميعاً. علمنا لاحقاً أن ذلك كان واقعياً، وان المرء في الثورة إما أن ينتصر أو أن يموت (إذا كانت الثورة حقيقية). لقد قضى العديد من الرفاق نحبهم في الطريق إلى النصر.

واليوم كل شيء له نغمة أقل دراميّة، لأننا ناضجين أكثر، ولكن الحدث يعيد نفسه. إنني أشعر انني أديت الجزء الذي يخص واجبي الذي ربطني بالثورة الكوبية في إقليمها، وأقول وداعاً لك، وللرفاق، ولشعبك الذي أصبح الآن شعبي.
إنني أتقدم باستقالتي الرسمية من موقعي في قيادة الحزب [عضو لجنة مركزية ولجنة تنفيذية ومكتب سياسي]، ومن منصبي كوزير [للصناعات]، ومن رتبتي كقائد ]بلقب [Commandante، ومن جنسيتي الكوبيَّة. لم يعد هناك أي شيء قانوني يربطني بكوبا. الروابط الوحيدة [التي تجمعني بكوبا] ذات طبيعة مختلفة، ولا تنفصم عُراها كما تفعل التعيينات في مناصب.
حين أتأمل ما مضى من حياتي أشعر انني عملت بتكامل وتكريس كافيين من أجل تأزير النصر الثوري. وإخفاقي السيء الكبير هو عدم توافري على ثقة أكبر بك منذ اللحظات الأولى في [معارك] الـ»سييرا مايسترا»، وعدم فهمي السريع بما فيه الكفاية لميزاتك بوصفك قائداً وثورياً.
لقد عشت أياماً عظيمة، وشعرت بالفخر وأنا إلى جانبك بالانتماء إلى شعبنا في تلك الأيام المضيئة والحزينة في أزمة [خليج الخنازير]. من النادر ان يقوم رجل دولة بارع بما قمتَ به في تلك الأيام. وإنني أيضاً فخور لأني تبعتك من دون تردد، وبتماهيَّ مع طريقة تفكيرك ووزنك للمخاطر والمبادئ.
ثمة شعوب أخرى في العالم تستدعي جهودي المتواضعة في المساعدة. وإنني أستطيع أن أفعل ذلك بما لا تستطيع أنت بالنظر إلى كونك رئيساً لكوبا، وقد حان الأوان لأن نفترق.
عليك أن تعلم إنني أفعل ذلك بمزيج من السعادة والأسف. إنني أترك هنا امنياتي الأكثر نقاءً باعتباري بانياً، وأترك أعزَّ ما أُعِزّه، وأغادر شعباً استقبلني كأنني ابن له. ذلك يجرح قطعة من روحي. إنني أحمل إلى جبهات معارك جديدة اليقين الذي علمتني إياه، والروح الثورية لشعبي، والشعور بأداء أقدس الواجبات: محاربة الإمبريالية أينما وُجدت. هذا مصدر قوة يفعل أكثر من إشفاء الجراح الأعمق.

إنني أكرر مرة أخرى ان كوبا في حِلٍّ من كل المسؤوليات نحوي، باستثناء تلك التي تنبثق من نموذجها. وإن حلَّت ساعتي الأخيرة تحت سماوات أخرى، فإن تفكراتي الأخيرة سوف تكون بهذا الشعب وخاصة أنت. إنني ممتنٌّ لدرسك ومثالك اللذين سأحاول أن أكون أميناً لهما حتى النتائج الأخيرة لأفعالي.
لقد تمت مماهاتي دوماً بالسياسة الخارجية لثورتنا، وذلك يستمر. في أي مكان أوجد فيه سأشعر بمسؤولية كوني ثائراً كوبياً، وسوف أتصرف بناء على ذلك. لست آسفاً انني لا أترك أي شيء مادي لزوجتي وأطفالي؛ وانني سعيد بهذه الطريقة. لا أطلب شيئاً لهم فالدولة ستعينهم بما فيه الكفاية ليعيشوا ويتعلموا.
لدي كثير من الأشياء أود قولها لشعبنا ولك، ولكني أشعر ان ذلك ليس ضرورياً. الكلمات لا تستطيع أن تعبّر عما أريده منها، وليست هناك جدوى في خط الصفحات».
1 أبريل 1965
__________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *