اقتفاء لأثرِ راكضٍ

خاص- ثقافات

*جابر السّلامي

على اعتبار أن الانتقال من مكان إلى آخر و بسرعة يضمن لنا تغيّرا منطقيّا في الاطار الملموس للحياة ، قرّرت أن أركض دون تحديد وجهة معيّنة والحال أنني لم أفكر بشيء آخر في هذا اليوم من السنة سوى الرّكض وسرعان ما نظرت باستغراب إلى المارّة وهم يسيرون ببطء شديد، ذلك أنهم يحيلونني على سؤال لا مفرّ منه ، لماذا لا يركضون ؟.
و على الرغم من صعوبة إيجاد مكان ملائم للرّكض في المدينة نظرا لاكتظاظ الطّرقات، خلصت إلى أن الرّكض لا يعترف بالحواجز بشرا كانت أو جمادا لأنّه، بصرف النّظر عن خطورة النّشاط ، لا أملك إلا أن أركض كيفما شئت لضمان العفويّة المطلقة .
كان الصّباح قد استرسل و تسرمدت وشائجه بنسائم هادئة ، لم أرتد زيّا رياضيا كما هو الحال عند ممارسة نشاط رياضي لأن ما أنا بصدد فعله كان نشاطا حياتيا بالأساس كأن تحاول تسجيل هدف على بعد خمسين مترا من المرمى لكي تتأكّد من أن الحارس قد بذل ما في وسعه لصدّه. اخترت مكان السّوق الأسبوعيّة لبداية الرّكض و لست أدري لماذا لم أختر مكانا آخر بالذات، ذلك أن السّوق يغصّ بالمتسوّقين ممّا يتيح لي القيام بمناورات لتفادي الاصطدام بهم . ركضت بنسق بطيء في البداية و لم أستعجل الأمر ففي نهاية المطاف لم تكن لدي أدنى فكرة عن جدوى بلوغ خطّ الوصول الذي لم أحدّده بعد . و كان نفر قليل يتابعونني باندهاش على الرّغم من وجود أسباب وجيهة لصرف الاهتمام عنّي، رغم محاولاتهم المعدودة في الانصراف إلى شؤونهم . كنت أركض بشغف ، مثل مارد سعيد بخروجه من جوف قمقم .
أمكن لي أثناء الرّكض ، رؤية شذرات مسرعة من وجوه بشريّة لكنّي، يائسا أحاول، لم أتذكّر أيّا منهم، تماما مثل خصام بين بائعين متجوّلين حول مكان شاغر في السّوق ، لم أتذكّر منه سوى صوت أحدهم لمّا قال لغريمه ” سأحتلّ مكانك شئت أو أبيت ” و كان لتلك الجملة وقع سعيد في مخيّلتي لأن الرّكض لم يثنني عن التذكّر. وواصلت طريقي أناور و أحاذر .
لا أدري كم من الوقت بقيت أركض ، على أيّة حال اجتزت السّوق الأسبوعيّة و دلفت صوب قصر البلديّة، آنذاك تجمهر عمّال النّظافة في السّاحة الرئيسيّة، رفعوا لافتات و هتفوا مطالبين بحقوقهم المسلوبة من ترسيم و زيادة في الأجور، خفّضت من سرعتي و دنوت منهم بحذر كي لا أصطدم ببعضهم ثم مرقت بينهم أردّد ما يردّدون بحماس شديد و لكي لا أفوّت عليّ فرصة مؤازرتهم مكثت أركض بشكل دائريّ حولهم، فطوّقتهم بدائرة افتراضيّة اخترت لها اسم دائرة الاحتجاج الرّاكض ومكثت كذلك أدور حولهم لا ألوي على شيء .
أصابني إرهاق و جفاف لكن ذلك لم يثنني عن نشاطي. دخلت الضّاحية الشّمالية للمدينة، كان شارع الاستقلال شاسعا نسبيّا، زادني ذلك اصرارا اضافيا على الرّكض، كمن لفح رأسي بمياه باردة، فانتقصت تعبا واستزدت قوّة. خلوّ الشّوارع واتّساعها يوحي بضرورة اجتياح المكان بسرعة، و ذلك، ضمنيّا، كان شكلا من أشكال ملء الفراغ. وبالنّسبة لي، لم يكن الفراغ ضمن أولويّاتي في الوقت الرّاهن وواصلت الرّكض بعزم و حزم.
في الأثناء تسنّى لي مشاهدة المدينة بسرعة، أشجار تنتفض بلطف، طلبة يستقلون الميترو الخفيف تباعا، موظّفون يغادرون مكاتبهم في أنق، شجار هنا و هناك ، زخم كبير من الوجوه و المنازل يصطفّ أمام ذاكرتي وأنا على بعد خطوات من اجتياز الجسر الحديديّ و التّوجّه صوب المرج الأخضر، هناك، سأركض ما شاء لي أن أركض، بعيدا عن كلّ شيء، من دون حواجز، في الحقول الوارفة الشّاسعة.
صوت من الضّفّة الأخرى للجسر يهتف بحدّة : ” أنت ! لا تعبر الجسر، عد من حيث أتيت”. كان عامل نظافة. واصلت الرّكض صوبه فأطلّ ثان و ثالث و تجمهر عماّل النظافة على الضّفة الأخرى ثم ركضوا باتّجاهي .
لمعرفة ماهية ما يضمرون لي، سيئا كان أو حسنا، كان يتوجّب عليّ التّدقيق في ملامحهم. و بما أنّني لا أزال أركض، كان من العسير أن ألحظ قسماتهم بتروّ، فكان أن عدت أدراجي ركضا.
عدت من حيث أتيت، راكضا لا شكّ، هاربا حتما، وأمام قصر البلديّة واجهتني جموع محتجّة من عمّال النّظافة. لم أنس أنّني لازلت أنفّذ ما عزمت عليه منذ الصّباح، لكنّ الحواجز البشريّة التي عرقلت استمراري في التّقدّم جعلتني أركض في مكاني، ومهما يكن من أمر، فإن الرّكض متواصل. اقترب منّي النّاطق باسم عمّال النّظافة قائلا:” واصل الرّكض”. ثمّ أشار إلى نفر منهم بأن يفسحوا لي المجال فابتعدوا تاركين لي فجوة ضئيلة لأمرّ عبرها. ركضت مغادرا السّاحة و ما لبثوا أن ركضوا خلفي. عاد العاملون إلى هتافاتهم و شعاراتهم، كانوا في ركضهم مسترسلين، و في ملاحقتي مصمّمين، رغم أنّهم لم يبدوا من العنف الشيء الكثير. أمّا إن كانوا يضمرون لي من الشّر نصيبا، فسأواصل الرّكض مهما كلّفني الأمر .
زعزعت الجموع الرّاكضة هدوء المدينة و مزّق الهرج أوصالها. أقبلت تعزيزات أمنيّة لاحتواء الاحتجاج وركض عناصر الشّرطة خلف عمّال النّظافة. كان ماراتونا بهيجا، بألوان مشعّة و أخرى داكنة. وقف المارّون على جانبي الطّريق يهلّلون و يصفّقون، كنت آنذاك لا أزال الأوّل في ترتيب الرّاكضين و كان الشّعور بالفوز يخامرني كلّما زدت في فارق المسافة بيني و بين ملاحقيّ، ربّما لأنّ ذلك يعزّز فرص نجاتي من جحافل الرّاكضين، أتخيّلني أسقط أرضا و أداس مرارا وكان ذلك السّيناريو مؤلما و مؤرقا بالنّسبة لي.
وصلنا إلى مفترق طرق، ركضت ملتفّا حول الرّصيف الدّائريّ و كنت بذلك أعيد دائرة الاحتجاج الرّاكض. وجدتني ألاحق عناصر الشّرطة. تشتّت ذهني حول ما إذا كنت محافظا على الصّدارة أم تذيّلت التّرتيب. في الأثناء انتشر الغاز المسيل للدّموع في الأرجاء و سادت الضّوضاء. كنت أركض وأركض دون توقّف، بلامبالاة، آملا في تغيير ملموس لحياتي، مثل طائر يتخبّط في بركة ماء. الرّكض سبيلي الوحيد لاستكناه الجديد و نبش القادم و تمحيص الآتي، ربّما كانت دائرة الاحتجاج الرّاكض أمرا رائعا ومسلّيا لكنّني آنذاك مرهق ومنهك، تباطأت خطواتي و انحنى جسدي ومازلت أركض حتى أصابت رأسي عبوّة غاز فارتميت جانبا أتخبّط من الألم.
نظرت ساهما إلى عمّال النظافة الرّاكضين ثمّ إلى عناصر الشّرطة. من يركض خلف من ؟ من يلاحق من ؟ كنت أتحسّس الإصابة في رأسي لمّا كانت قدماي تتخبّطان جيئة و ذهابا .

____________
*كاتب تونسي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *