العِلمُ: حروباً، وإبادات

*أدونيس 

ـ 1 ـ

ننتقدُ الحرب: معظمُنا، إن لم نكُن كلّنا.

لكن، قلّما نُعيد النّظر في العنصر الأوّل الذي يزيدها اشتعالاً: العلم.

فهل العلمُ لتدمير العالم؟ وإذاً، ما معنى الإنسان، وما معنى العالم؟

أهو على العكس، لبنائه؟ ولماذا الحربُ إذاً؟

أسئلةٌ يفرضها التّنافسُ اليوم، في التقدّم العلميّ، الذي يميل، عمليّاً، إلى أن يصبحَ تَنافُساً في تدمير الإنسان، والعالم، مع أنّه، مبدئيّاً، نشأ مُنافِساً في بناء الإنسان وفي تقدّمه.

وها هو الواقع:

أصبح العِلمُ «حَرْباً»، وأصبحت الحربُ «عِلماً».

إنّه للسّلطة، في الدّاخل، أداة هَيمَنة وطغيان. وفي الخارج، أداةُ تدميرٍ واستعباد.

تُرى، هل فقَدَ «العلمُ» هو أيضاً هويّته:

خصوصاً أنّه لم يَعُدْ «حيادِيّاً»، وهذا ما يُفقِدُه إنسانيّتَه وكوْنيّتَه.

ـ 2 ـ

النّظام السّياسيّ الأميركيّ – الأوروبّيّ آلةٌ «علميّة» تُحرِّكها وتقودها العقلية التّقنويّة التّكنوقراطيّة، مُجَسَّدَةً في السّوق التّجاريّة، والثُّكنة العسكريّة.

عقليّةٌ «تطوِّق» حركيّةَ العالم، و»تنظِّمها» داخل أسوارِها. وباسم التّحرّر، لا تفْعل إلّا التّأسيس للاستتباع والاستعباد.

الأكثرُ مهزلةً ومأسويّةً هو أنّ العالم لا يزال يحتضنُ بشراً يناضلون من أجل أن يظلّوا «تابعين» و «عبيداً». لا يرَوْن هويّتَهم في استقلالهم وإرادتهم، وإنّما يرَوْنها في عبوديّتهم وتَبَعيّتهم. ربّما سينشأ في الغرب، مفكّرون

«مستقبليّون» يُنَظِّرون لهويّةٍ تقوم على مَحْو الذّات، تشَبُّهاً بالآلة، وتيَمُّناً بفاعليّتها.

ـ 3 ـ

عادةً توصَفُ الولايات المتّحدةُ الأميركيّة، بأنّها «وطنٌ كبير»، أو «أمّة عظيمة». لكن، عندما نتأمّل في هذه «العظمة» لا نرى أنّها تقوم على المعرفة الخلّاقة: احترام الكينونة الإنسانيّة، والإبداع المعرفيّ الإنسانيّ، فلسفةً وفنّاً وأخلاقاً، بقدر ما تقوم على السّلطة: الهيمنة، والاقتصاد، والحرب.

نرى، بعبارةٍ أخرى، أنّها تقوم على «السّوق»، و «الآلة»، وليس على «الإبداع» و «القيمة».

إنّها عظَمَةُ «إخضاعٍ» وليست «عظمَة» تحرير.

ـ 4 ـ

متى تبدأ الشّجرةُ، هي نفسها، بحراسة الحقلِ الذي نشأت فيه، وتتغذّى منه؟

سؤالٌ «طفوليّ»، يقول بعضُهم.

«مُضحِكٌ» يقول بعضُهم الآخر.

ضدّ «العقل» يقول آخرون.

حسناً. ربّما يتوجّب علينا لكي نُحسِن مواجَهَةَ هذا العالم «التّقنويّ» ولكي نغيّره ونتخطّاه، أن نكونَ «أطفالاً»، وأن نُغريَ البشرَ بالضّحك، وأن نخرج من هذه التّقنويّة التي تقتل الإنسانَ فينا.

ـ 5 ـ

في أيِّ سريرٍ، إذاً، تنامين أيّتُها الجميلةُ المريضةُ، الثّورة؟

أهو نفسُه السّرير الورقُ المُقوّى العائمُ على أمواج حبرٍ أحمر؟

أهو نفسُه الحِزامُ إيّاه، حِزامُ المُحارِب المُرتَزِق الأخرس الأطرش،

يزَنِّرُ خاصرةَ العالم؟

أهي نفسها الرؤوسُ المُدَوَّرةُ كمثل عجلاتٍ تنطح جدراناً ومتاريس من كلّ نوع.

وكلّما اصطدَمَتْ، احْتَدَمَتْ.

أهي نفسها الحناجِرُ التي تغنّي على قبور أحِبّائها:

صوتُها غبارٌ شمسيٌّ؟

أهو نفسه الصّاروخ الذي يحفر مجاريَ عميقةً في صدر الفضاء، لدمْعٍ سماويٍّ لا يتوقّف عن السّيَلان؟

تعرفين، أيّتها الثّورة الجميلة المريضة، أنّ سيّدَ الحرب

يجهلُ، من زَمَنٍ، كيف يميِّز بين الماء والنّار.

واسمعي:

وترُ القيثارة يجرح يدَ الموسيقى، بينما تُضمّد يدُ الأولى

جرحَ الثّانية.

وأصغي:

من أجلكِ، أيّتها الثّورةُ الجميلةُ المريضة،

سنضعُ مناديلَ كثيفةً، تزيِّنها رؤوسٌ مقطوعةٌ على وجه الشمس،

بعد أن نفقأ عينيها. وسوف نشهدُ أنّكِ أنتِ وحدكِ الضّوء الذي ينير العالم.

إذاً، اسمحي لي، أيّتها الثّورةُ الجميلةُ المريضة، أن أطرحَ، باسمكِ، موقّتاً

ثلاثة أسئلةٍ تُقلِقُني، ولا أريد أجوبةً، وإنّما أريدُ أن نتأمّل عبرها،

ونذهبَ إلى أبعد:

1 ـ هل بين «البطل» و «المجرم» علاقةٌ، وما تكون؟ وبأيِّ سحرٍ خارقٍ

تصبحُ «الأكاذيبُ» هي وحدها «الحقائق»؟

2 ـ هل تموت الدّولة من السياسة؟

3 ـ أليس في مفهومِ «الأكثريّة» و «الأقلّيّة» السّائد في البلدان العربيّة، احتقارٌ عميقٌ للكائن الإنسانيّ، من حيث إنّه يحوِّل الإنسان الفرد إلى مجرّد رقم، والجماعة إلى مجرّد قطيع، والسلطة إلى مجرّد تجارة؟

أليس في هذا المفهوم ما يُبيد النّوعَ والكيف، ويُعْلي شأنَ الكمّ، ويؤسِّس لسيادة الأشياء؟

أليس فيه غيابٌ للمواطَنَة، وتِبعاً لذلك، للوطن؟

أليس فيه ما يحوِّل المواطنين إلى مجرّد أعدادٍ وأرقامٍ لا علاقةَ في ما بينها إلّا علاقة «المُجاورة»، و «الضّربِ» و «الطّرح» و «الجمْع» و «التقسيم»؟

واستطراداً، لمناسبة «النّظام الرّئاسيّ» الجديد في تركيّا، كيف نفسّر

«أكثريّةَ» أردوغان، حاضِراً، قياساً بأكثريّة أتاتورك، ماضِياً، في ضوء الانقلابات المعرفيّة الكونيّة، وفي ضوء التطلُّع البشريّ نحو بناء مستقبل الإنسان والعالم، ونحو مزيدٍ من حريّة الإنسان الفرد، ومزيدٍ من العدالة والمساواة ومن المُواطَنة المدَنيّة، في ما وراء مفهوم «الأكثريّة» و «الأقلّيّة»؟

ـ 6 ـ

خرجَ الفرحُ تائهاً من بيتِه الرّبيعيّ، ولم يجدْ مَن يفتح له صدرهُ

وبيتَه، إلّا الحزن. ربّما لهذا، لا يقدر الفرحُ أن يسمعَ حنينَ أجفانه

إلّا عندما تسافر مع سفينة الدّمع.

ـ 7 ـ

أحياناً، لا أقرأ الكتاب. أقرأ يديّ اللتين تقلِّبان صفحاته.

ـ 8 ـ

عرّيْتُ هذا الصّباح وردةً لكي أعرف كيف ألمسُها.

ـ 9 ـ

– متى ستقول، أيّها الشاعر، كيف ولماذا تحمل على كتفيكَ هذه الجسورَ كلَّها؟

– انظُرْ: خرطومُ فيلٍ غيرِ هنديّ، يضعُ لنا، نحن العربَ أصدقاءَهُ، حصْراً، إبَراً لخياطة البحر.

– ألِهذا فُرِضَ عليّ أن أموتَ، إن شِئتُ أن أعرفَ الحياة؟

– لا تزال أمامكَ فرصةٌ ضئيلةٌ لكي تحسمَ أمركَ.

ـ 10 ـ

رَبِحْتُ أكثرَ من مرّةٍ في لعبي مع النّهار.

لماذا، إذاً، أخسرُ دائماً في لعبي مع الليل؟

ـ 11 ـ

لا أتّفِقُ معكَ أيُّها العِطر، في نظْرتِكَ إلى الهواء الذي حَمَلَك إليّ.

ربّما لهذا، قرّرْتُ من زمنٍ، ألّا أنسُجَ لهذا الزّمن الذي أعيش فيه،

ثوباً شبيهاً بالثّوب الذي ألبسه.

سأفكِّر في نسْجِ ثوبٍ آخر.

خصوصاً أنّ اللغةَ العربيّة أعْلَنَت ثورتَها علينا، نحن أبناءها

الذين نغنّيها.

صارَت تفضِّل أن تنفصِلَ عنّا،

وأن تُغنّي، وحيدةً.

تضامُناً معها،

أخذت الورقةُ الأخيرةُ في دفتري

تكتب قصيدَتَها الأخيرة، مَمْزوجةً بغُبارٍ أسود.

ـ 12 ـ

بُقعةُ حبرٍ على الصّفحة الأولى من دفتري الذي لا تزالُ أكثرُ

صفحاته بيضاً. بقعةٌ تحوّلَت إلى غيمةٍ كثيفةٍ غريبةـ

إنّها المقبره،

مُدْهِشٌ أن يكون لقبريَ فيها،

هيئةُ المحبره.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *