سيلفيا بلاث: حياة منتهكة حتى آخر رمق

*ديمة الشكر

رغم قصر حياتها، إلا أن الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث (1932-1963)، كانت غزيرة الإنتاج، فقد أصدرت خمسة دواوين: “العملاق”و”أرييل” و”عبور المياه” و”شجرات الشتاء” و”القصائد المجموعة”، بالإضافة إلى رواية أقرب إلى السيرة الذاتية “الناقوس الزجاجي” وأربع مجموعات قصصية للأطفال. زد على هذا أنها حرصت منذ عمر الحادية عشرة على تدوين يومياتها.

مع ذلك، فإن العين “المحبّة” لا تنظر إلى عملها، بل إليها من خلال حياتها الشخصية. قصة زواجها بعد حب عاصف بالشاعر الإنكليزي تيد هيوز (1930 -1998)، ثم انتحارها حين اكتشفت خيانته لها مع الجارة آسيا ويفيل، وقبل ذاك اضطراباتها النفسية التي دفعتها غير ما مرة للاكتئاب ومحاولات الانتحار.

الحياة المكثفة لتلك الأميركية الشابة، هي النقطة التي تدور حولها كلّ الكتابات عنها تقريبًا، لا أدل على ذلك من عدد كتب السيرة عنها التي تتجاوز 15 كتابًا، منها:”المرأة الصامتة: سيلفيا بلاث وتيد هيوز”، و”شهرة مريرة: حياة سيلفيا بلاث” و”سحر فظ: سيرة سيلفيا بلاث” و”إيزيس الأميركية: حياة سيلفيا بلاث وفنها” و”جرح الكلمات وعلاجها” و”حياة سيلفيا بلاث وموتها” و”أغنية حب لفتاة مجنونة: سيلفيا بلاث والحياة قبل تيد” و”الاستسلام: أيام سيلفيا بلاث الأخيرة”، وغيرها وغيرها.

سيلفيا كما كثير من الأميركيين (ت إس إليوت مثلًا)، قطعت “بحر الظلمات” صوب الجزيرة: المملكة المتحدة؛ ذاك المكان الفوّار، الذي كان خصوصًا في النصف الأوّل من القرن العشرين، مرتعًا للإلهام في الشعر والموسيقى والمسرح طبعًا. لكن الشاعرة، التي ستصير “أيقونة” بعد موتها، لم تجد وقتذاك اهتمامًا نقديًا بعملها. وعاشت حياة قاسية، إذ رغم دأبها في العمل وفي الكتابة، لم تهنأ بشيء على ما يبدو، وهذا ما يفسّر ولو جزئيًا اضطراباتها النفسية ونوبات الاكتئاب.

وصار وصف “الشاعرة الشابة التي انتحرت”، يافطةً شهيرة جاذبة، يمكن تشبيهها بلمسة ميداس. إذ إن كل شيء وكل تفصيل وكل شخص في حياة سيلفيا بلاث، سيكون تحت الضوء بعد موتها.

كنز جديد

ومؤخرًا “عُثر” على ما يبدو على كنز جديد: رسائلها لطبيبتها النفسية “روث بارنهاوس” (1924- 1999) وعددها تسع، وأوراق أخرى، تؤلف “الأرشيف الذي جمعته الباحثة النسوية هارييت روزنشتاين، بعد مرور سبع سنوات على وفاة الشاعرة، كجزء من بحث لسيرة غير ناجزة. وثمة في المجموعة أيضًا السجلات الطبية منذ عام 1954، والمراسلات مع أصدقاء بلاث، وحوار مع بارنهاوس عن جلسات علاج الشاعرة. الأرشيف اجتذب الضوء بعدما أقدم بائع الكتب قديمة على طرحه للبيع بـ 875 ألف دولار”. وفقًا لصحيفة “الغارديان”.

قد يتفهم المرء أن تكون مراسلات الشاعرة محل “اهتمام القارئ”، باعتبارها أولًا واخيرًا صادرة عن أديبة، بيد أن فكرة عرض سجلاتها الطبية، والحوار مع طبيبتها المعالِجة، في المزاد العلني على الأنترنت، تبدو فكرة شريرة.

الشهرة أصابت طبيبة بلاث وصديقتها “روث بارنهاوس”، ففي عام 2004 نشرت الطبيبة النفسية الأميركية “كارين مارودا” مقالًا طويلًا عن روث، إذ سمّيت رسميًا لعلاج الشاعرة في مشفى مكلين، كذا بدأت تلك الصداقة عام 1953 بعد نجاة بلاث من أولى محاولاتها في الانتحار، حيث ستشرف الطبيبة الشابة – كانت روث في الثلاثين من عمرها – على علاج الشاعرة الصغيرة (19 عامًا). وسترتبطان بصداقة قوية حتى موت سيلفيا منتحرة عام 1963، بغاز الفرن في مطبخها، تاركة خبزًا وحليبًا لطفليها النائمين في الغرفة المجاورة فريدا ونيكولاس.

العلاقة القوية بين الطبيبة والشاعرة، كانت إلى حدّ كبير مدوّنة، – ومقال مارودا يتفحص تلك العلاقة بدقة، إذ ثمة رسائل تبادلتها المرأتان على مدى عشرة أعوام، كما أن روث حضرت بقوّة في الرواية – السير ذاتية “الناقوس الزجاجي”، وفي يوميات سيلفيا.

اللافت للنظر في مقال مارودا (حاز بدوره شهرة وجائزة)، ما تورده من معلومات أن “روث بارنهاوس أحرقت دزينات من الرسائل التي تلقتها من سيلفيا حين كانت تقيم في إنكلترا. لذا فإن الحوار مع روث يقدم الفرصة الوحيدة من أجل إجابات صحيحة حقيقية عن علاقتهما”.

الجديد اليوم هو ظهور الرسائل التسع، والطريق الغريبة التي قطعتها لتصل إلى مزاد الكتب القديمة، وكيفية حصول الباحثة روزنشتاين عليها. خاصّة لو عرفنا أمرين: الأول أن تلك الرسائل تغطي فترة لم تكن يومًا في متناول القراء والباحثين من حياة سيلفيا، تحديدًا من 18 شباط/ فبراير 1960 وحتى 4 شباط / فبراير 1963، أي قبل وفاتها بأسبوع. والأمر الثاني: أن كلية سميث حيث درست سيلفيا ودرّست، هي صاحبة الحقوق الفكرية لإرث سيلفيا. فقد حازت كلية سميث عام 1982 على ما تبقى من أجزاء يوميات سيلفيا (نشر الجزء الأول بإشراف هيوز في العام نفسه). ووقتها ختم هيوز كرّاسين من اليوميات. وقبل وفاته بوقت قصير، فضّ الختم وعهد بالكراسين لولديه فريدا ونيكولاس. ونشرت اليوميات عام 2000. لكن يبدو أن هيوز أتلف الكراس الأخير الذي كتبته سيلفيا، وفيه دونت أيامها الأخيرة من شتاء 1962 حتى وفاتها.

رسائل كاشفة أم انتهاك جديد؟

الرسائل إذن تكشف ما لم يرد هيوز كشفه وما أتلفه، أو لعل هذا ما يثير الاهتمام مجددًا بسيلفيا، فقد اهتمت الصحافة بالمقاطع التي كتبت فيها بلاث لطبيبتها، عن أن هيوز ضربها، ما أدى إلى إجهاضها، وعن أنه قال لها مباشرة يتمنى لو يراها ميتة.

عاد طيف هيوز على هيئة رجل شرير خائن، وأرسلت أرملته كارول لصحيفة الغارديان رسالة قصيرة: “الادعاءات المزعومة من قبل سيلفيا بلاث في رسائل غير منشورة لطبيبتها النفسية السابقة، بأنها ضُربت من قبل زوجها تيد هيوز، أيام قليلة قبل إجهاضها، هي ادعاءات عبثية بقدر ما هي صادمة لكل من عرف تيد بشكل جيد”.

ورفعت كلية سميث دعوى في 12 مارس / آذار المنصرم، “زاعمة أن الرسائل كانت جزءًا من منزل بارنهاوس الذي ورثته بعد وفاتها، إلا أن روزنشتاين تتمسك بالقول إنها حصلت على الرسائل من قبل بارنهاوس نفسها قبل سبعة وأربعين عامًا”.

أسئلة كثيرة يمكن للمرء أن يطرحها حول نشر الرسائل، لا باعتبارها فقط نتاجًا أدبيًا، بل باعتبارها تدوينًا لعلاج غير ناجح، وتنفيسًا لامرأة مجروحة مكسورة. وباعتبارها أيضًا “مطرحًا” جديدًا للانتهاك، إذ تبزغ فجأة في مزاد علني رفقة سجلات طبية، فلا تبدد شيئًا من صورة الشاعرة “المضطربة نفسيًا”، فيغيب الأدب ويبقى الانتحار.

_________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *