عشاق وفونوغراف وأزمنة… درس نموذجي في السرد

*ناطق خلوصي

 

    تشعر وأنت تقرأ رواية ” عشاق  وفونوعراف وأزمنة ”  للطفية الدليمي ، أنها مسكونة بهاجس الحنين إلى الماضي ، و يتجلى ذلك بدءً من عنوانها  بمفرداته الثلاث  التي تبدو غير متجانسة بادىء الأمر لكنها ما تلبث  أن تتناغم مع بعضها خلال السياق العام للرواية ، ومرورا ً بصورة الغلاف الموحية ، ثم بلقب ” الكتبخاني ” الذي تحمله عائلة شخصية نهى المحورية، وليس انتهاءً بنماذج شخصياتها وتفاصيل أحداثها .

       هذه الرواية الكبيرة حجما ًو مضمونا ً  590  صفحة من القطع المتوسط   الصادرة عن دار المدى ، تتنقل بك في سياحة مكانية وزمانية وفكرية  ، من الحاضر إلى الماضي وبالعكس : سياحة تنفتح بك على آفاق يتداخل فيها الزمان والمكان ، لكنها لا تأخذك بعيدا ًتماما ُ فالماضي ، إنما  تسير بك رجوعا ً إلى الماضي القريب  الذي ما زالت بعض سماته المكانية والاجتماعية ماثلة حتى اليوم ، وهذا الماضي يتوقف بوجهه الإيجابي في العراق عند  حدود سنوات السبعينات التي نجد من يصفها بالذهبية فيكون هذا الوجه جديرا ً بالحنين إليه ، أما وجهه السلبي فيبدأ مع بداية الثمانينات التي استهلت بالحرب العراقية ــ الايرانية التي كانت فاتحة سلسلة من الحروب لم تتوقف بعد : حرب تلد حربا ًإلى يومنا هذا . ولا يفوت الرواية أن تتوقف  عند هذا الوجه واستذكاره ليس من باب الحنين إليه وإنما من باب استنكاره  لاسيما الجزء المرتبط منه  بسنوات حرب احتلال العراق التي مازالت تأثيراتها الموجعة قائمة حتى الآن . إنه الماضي القريب من الحاضر ، لكنه لا ينفرد لوحده بالحضور قثمة ماضي الأجداد الذي يعود بك إلى  أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين والنصف الأول منه ، في عملية ربط متقن بين الماضي والحاضر، فتكشف عن وجه ذلك الماضي من خلال المدونات القادمة من هناك .

1528635_755308674497968_1656928806_n (2)

تصريحات ثانوية

         تتوزع صفحات الرواية على اثني عشر فصلا ، يتفرع كل منها إلى فصول  أ و تفرعات ثانوية ، ويحمل كل منها  عنوانا ًخاصا ً يه  ، مصحوبا ً في الغالب بمقولة ذات بعد فلسفي أو فكري  أكثر من سبعين عنوانا رئيسيا ً وفرعيا ً وما يقرب من أربعين مقولة مقتبسة   بما يشي بعمق ثقافة الروائية وتعدد وتنوع قراءاتها .

       يُستهل المبنى السردي للرواية بالمفردة الأولى لعنوانه التي تشير إلى العشق ، والعشق هنا لا مكان محدداً له ولا زمان فهو يتنقل بين الماضي والحاضر . ومنذ السطور الأولى تتجلى معالم جرأة الروائية  في تناول موضوعة تنطوي على حساسية خاصة .   ها أنت تجد نهى جابر الكتبخاني ،  الموزعة بين الحلم والوهم والحقيقة ، وهي في قطار الأنفاق ثم محطة تحت الأرض في فرنسا ، يتلبسها هاجس العشق حين ” ينبثق  طيف رجل طالما تراءى لها في أحلامها، ويمر الآن مثل برق خاطف على رصيف المحطة  ….. تاقت تلك اللحظة للمس وجهه متغير الملامح ، تشهت ملاطفة جبينه المشع بأطراف أناملها الوجلة  آملة أن تبهج روحها المستوحدة  ”  ص 9    و”تركها طيفه الضوئي  تعوم  في لجة عاطفة مهتاجة وسرت رعشة خفيفة في ظهرها لها دفء المتعة ولذتها”  ص 10   ويدعوك توقها وتشهيها إلى الاعتقاد بأنها  تعاني من  الحرمان من التواصل الجسدي الناشىء عن طلاقها من المغترب العربي  الذي كانت قد اقترنت به على عجل وهما في مغتربهما الفرنسي ولم تحسن اختيارها ، فابتزها عندما طلبت الطلاق منه  ، فهي كانت ” ارتبطت بصديقها العربي المغترب في زواج متسرع اتفقا عليه وهما يحتسيان القهوة  ويتناولان حلوى الماكرون في مقهى الفلاسفة  ، زواج تم بين التلذذ  بشذى القهوة وأحلام الشهوة  ومذاق الحلوى  وصخب الشارع  وظلال الفلاسفة  فما كان له إلإ أن يتهاوى في شهره الأول . ”  ص 24  ? وزوجها السابق هذ ا كان شابا عاطلا ً عن العمل ، من بيئة عمالية وهي  من الطبقة المتوسطة  وكان هذا التفاوت الطبقي سبباً مضافاً  لتعميق الهوة بينهما، ” فأدركت بعد زوال نزوة العشق  أنها أمعنت في خداع النفس قبل خداع الآخر لها ، وتوهمت أنها تكشف عن سريرة العاشق ببراعات تعلمتها من الكتب وتعاليم الحكماء ”  ص 25    وقادها شعورها بالندم إلى محاولة الانتحار ، لكنها تجاوزت تلك المحنة  .

            تتلبس حالة العشق نهى ثانية ً ولكن في بغداد هذه المرة  حيث تقودها المصادفة إلى ذلك . كانت تبحث عمن يصلح ذراع الفونوغراف لذي ورثه أبوها عن جده فتدلها خالتها هناء على نادر شقيق صديقتها منال ، وما أن يقع بصرها عليه حتى تجد فيه صورة رجل الرؤيا الذي كان يتراءى لها في حلمها ويقظتها ، ومن النظرة الأولى تتوهج شرارة الحب ” نظرت إليه  ، كان مطرقا ً وهو يمسك بذراع الفونوغراف، تأملته بحنو خفي : بدا لها أنها تعرفه  منذ ألف عام ، في ملامحه  شبه عظيم برجل الرؤيا الذي سحرها  ”  ص 344  و ” كانت  في حالة من النشوة  التي لم تألفها  وهي تتفجر طاقة عجيبة  ”  ص 350   . لكن حالة العشق  هذه المرة كانت مختلفة عن سابقته  التي آلت للفشل سريعا ً. وحيث وجدت نادر ميالا ً للعزلة ومسكونا ً بالمخاوف  التي فرضها على نفسه احتجاجا ً على الوضع المتردي الذي يمر به  البلد وانهيار التعليم الذي أجبره على الاستقالة ،عقدت العزم على أن تنتشله بالحب من وهدة العزلة والمخاوف ” ستكون له العاشقة والمعشوقة ….. ستعلمه ألف ياء العشق ويرتقيان معا ً في مدارج الهوى 379  . وتوهجت جذوة العشق بينهما علنا ًفي أول خلوة له معها حين صعد بها السلـّم ليريها في غرفته ” ما صنعه من عجائب  الآلات الصغيرة  والتجارب الفيزياوية .. دخلا الممر المعتم المفضي إلى غرفته  .. جذبها نحوه ، إحتضنها فاستجابت لعناقه ”  ص 530  بمعنى أنه تحرر من   مخاوفه وشكوكه . وعلى  الرغم من اعتراض أمها على زواجها منه ، قررت أن تغامر بأن ترحل معه إلى الخارج، تدفعها جذوة العشق المتوهجة لأن تفعل ذلك . لفد  استحضرت  أمامها  الجدة الحاجة مديحة  التي كانت ” خبيرة بأمور النساء والحياة ، تعرف سر الجسد وهمهمات  الأنثى  ”  ص 124  وترى أن العشق  ” ميراث قديم  في دماء العائلة  ” و ” مات رجل وامرأتان من عائلتنا  بمرض العشق ”  ص 125  وهي تقدم نموذجا ً أكثر حضورا ًفي هذا المجال . إن الحنين إلى الماضي يجعلها تقول : ” كنا في زمننا نقول أن دق الوشم  على ملتقى عظام حوض المرأة  يخفف من وجع العشق ويهدىء الجسد، ولكنني لم أفعل  ، فقد كنت أحب جدكن حبا ً ما أردت له أن يهدأ ”  ص 125  . وتأتي مديحة الثانية ، وهي خالة نهى ، امتدادا هي الأخرى للجدة مديحة  في مسيرة العائلة العشقية فقد أحبت رجلا ً إلى حد العشق لكنه تخلى عنها ووقع تحت اغراء ” امرأة مطلقة  عادت إلى البلاد بعد غربة وكسبت ثروة  كبيرة خلال أربع سنوات من عملها مع الأمريكان  ومنظمات المجتمع المدني  ”  ص 127   وحين تأكدت مديحة من ارتباطه بتلك المرأة المشبوهة ، أصابها مس من الجنون وانتحرت غرقا ً . وإذا ما صاحبت نهى وهي تقرأ أوراق المدونات التي كلفها  أبوها بتحقيقها ، ستجد أن العشق ، أو الجنس بمعنىً أصح ، كان سمة ملازمة لعائلة الكتبخالني . فاسماعيل الكتبخاني ، وهو فرع بارز  في شجرة العائلة ، كان يحتفظ ، كما يشاع ، بجواريه في قصر كبير له في محلة البارودية  مع أنه لا يخفي حبه لزوجته ، وهي الثانية . وأثارت الشبهات سفراته المتكررة إلى المحمودية التي يذهب اليها محملاً بالهدايا ويعود منه بوجه طافح بالبشر ليتضح انه كان يحتفظ هناك سرا ً بزوجة أخرى أو محظية له منها ولد .أما ابنه الكبير نشأت فقد ” اشترى جارية من جورجيا  وأفرد لها بيتا ً ًفي مكان غير معلوم  من بغداد  ولم يكتف بذلك بل لبث يطارد النساء في بيوت الدعارة ”  ص 171  .وعشقت ابنته الكبرى وفيقة أبن عمتها   رأفت الخيامي وزفت أليه ” بعد قصة  حب خفية موجعة  حرستها الأمهات  والمربيات  وأرواح الجدات  وأشباح العشاق الموتى عن أعين رجال الأسرتين على مدى عامين ”   ص  165  .وأرادت  ابنته الفت أن تنتحر حرقا ً لأنه  رفض زواجها من رجل يراه دون مستوى العائلة فكانت  “تنظر إلى الحارس بشهوة أنثى فائرة الرغبات ” ص  469  . أما أختها بديعة فقد “عشقت عازف العود في الكنيسة عند تقديمهن  النذور  لمريم العذراء  ” من أجل حمل أختها وفيقة   ص 470  . وأحب ابنه صبحي المطربة الشابة بنفشة خاتون عن بعد  وهو في مطلع شبابه فكان يستحضرها في الحلم فيراها ” بين ذراعيه الفتيين القويين يعانقها بقوة فتوته وشهوة المحروم ، يقبّلها من قمة رأسها حتى أصابع قدميها وينتشي بسماع تنهداتها ”  ص 184   وما لبث  أن تحققت أحلامه  فتزوجها دون علم أهله بعد عودته من رحلته الفاشلة إلى الاستانة  .

  يبدو  أن عددا من نساء ورجال عائلتي الكتبخاني والخيامي المتداخلتين بالمصاهرة ، مررن ومروا بتجارب حب أو عشق  فاشلة أو متعثرة  او غير اعتيادية . فإلى جانب تجربة نهى ، ارتبط أخوها وليد بحبيبته سميراميس التي تختلف عنه دينيا ً والمصابة باضطراب نفسي . فهي  مسيحية  تعرضت أسرتها للقتل ولم يتبق منها سوى ابن أخيها الصغير الذي وجد وليد  نفسه مضطرا ً لتبنيه بعد أن أصرت سميراميس  على عدم التخلي عن ، فعانى كثيرا ً حتى تمكن من الحصول على قرار التبني ، وهاجر معهما إلى الخارج . أما خالتها هناء فقد ارتبطت بعلاقة حب مع فنان تشكيلي  التقته في  كلية الفنون الجميلة  لكنها اكتشفت أنه متزوج  وتخلى عن أسرته وترك العراق مهاجرا ً إلى بلغاريا .  وفي سياق الأزمنة ، كانت نهى قد مرت بتجربة  اللجوء الإنساني في فرنسا بعد تعرضها لمحاولة اختطاف من أمام باب المدرسة التي كانت تعمل فيها في  بغداد ، فتكشف لك هنا عن جوانب من معاناة طالبي اللجوء  وتدين الأسباب التي تلجئهم إلى ذلك ” تذكرت أيام الجوع في باريس وغرينوبل  وغصت بلقمتها : استعادت ذكرى أول وصولها إلى مأوى اللاجئين ….. مأوى ناء منبوذ يتكون مبناه من طابقين كمحطات ترحيل العمال أو كمعتقل مؤقت …..تبكي نهى كلما اضطرت لدخول الحمام ”  ص 74  إذ عليها أن تنظف المكان قبل دخولها ، ” أيام مريرة أمضتها نهى في ذلك المكان  ”  ص76  . وتحملت كل ذلك هربا ً من بغداد  الموبوءة بحوادث الاختطاف والقتل  وبرائحة الدم أيامذاك وقد بلغها وهي في غربتها المريرة خبر اغتيال أخيها فؤاد مع ستة من زملائه في باب الجامعة المستنصرية .

143575720684f663e9ba27-e1435757227155 (2)

طواف المدن

 ولأن الفصل الأول في الرواية يحمل عنوان ” طواف المدن ”  الذي يومىء إلى المكان و  هو إحدى الثيمات الرئيسية في الرواية  وكان يمكن أن يكون جزءا ً من العنوان هو الآخر ، فإن نهى تأخذك معها في رحلة طواف من باريس إلى بغداد مرورا ً بزيوريخ واسطنبول و أربيل  ،بالقطار مرة وبالطائرة أخرى  ، وتتيح لها ساعات السفر والانتظار ، فرص  العودة إلى ماضيها  بما يفصح عن الحنين إليه فتسترجع أيام طفولتها ببراءتها من خلال مشهد صديقاتها وهن يحتفين بالمطر ويرددن ترنيمة : ”  مطر مطر حلبي    عبّر بنات الجلبي ” ، ثم تجد نفسها تسترجع  لمحات من حياتها الأسرية المفعمة بحب أبيها وأمها لها ولأخويها .  وها قد وصلت بغداد برفقة خالها سليم الذي كان في انتظارها في مطار أربيل ، لتكتشف  أن حالة أبيها الصحية ليست على تلك الدرجة من التدني التي جاءت في رسالة أخيها وليد الألكترونية التي يستعجلها فيها  على العودة إلى بغداد ..وكان استرجاعها ، وهي في المقهى المجاورة لسينما دانتون لما جاء في رسالة لأبيها لها  ، قد أثار الكامن في روحها من مشاعر وهاج بها الحنين ، ولكن إلى الماضي القريب هذه المرة : “تفجرت في روحها موجة عارمة من الحنين إلى كل ما تركته  هناك في بغداد ــ حنين اتخذ هيأة دوامة تلفها وتدور بها وتصيبها بالدوار العاطفي ، تُرعش قلبها وتُطيح بتوازنها  وتُهيج أنواء عاطفتها فيجتاحها حنين أنثوي حزين لأشياء صغيرة في البيت ”  و ” حاولت التماسك إزاء جائحة الحنين   غير أن دموعها انهمرت فشهقت ”  ص 26  . ويوحي هذا الحنين بانشدادها إلى البيئة التي كانت قد نشأت فيها  ولم تفلح أيامها في الغربة أن تنتزعها منها على الرغم مما وفرته لها ، بعد اجتيازها  لمتاعب محنة اللجوء ، من هدوء واطمئنان  بعيدا ً عن الأهوال التي عاشتها في بغداد .

 حين تتمعن بالحنين الذي يتشبث بنهى أو تتشبث به هي ، ستجد أنه حنين غريزي موروث أو مكتسب من الوسط الأسري الذي نشأت داخله، وها هي تتذكر أن أمها ميادة هي الأخرى لا تخفي حنينها إلى الماضي . نهى  الآن في مطار زيوريخ في انتظار الطائرة التي ستقلها إلى اسطنبول فترى عين ذاكرتها أمها تخرج إليها ذات يوم بعلبة من الصور التقطت لها أيام الشباب وهي في الجامعة  تستمتع وزميلاتها بفضاء الحرية الشخصية ، وتقول : “كنا نخرج في مظاهرات ونصرخ في وجه الشرطة ، كنا نرتدي الثياب القصيرة فوق الركبة ونسدل شعورنا الطويلة  ونذهب في مجموعات  من الفتيات  إلى السينما . ” ص 53    وهي  جليسة البيت  الآن وقد تركت وظيفتها لتتفرغ للعناية بزوجها الذي تدهورت صحته بعد فجيعتهما باغتيال ابنهما .

       تأخذك نهى معها  إلى بغداد  وقد وصلتها نزولاً عند رغبة أبيها الذي ساءت صحته بعد اغتيال ابنه وكان يرى فيها وفي أخيها وليد  البقية الباقية له في حياته . وليس غريبا ً إذن أن تترك   كل شيء  حتى وظيفتها التدريسية  التي لم تكن قد حصلت عليها بسهولة  في مدينة غرونوبل  وتقرر العودة  ، فتجد أنه أرادها أن تكون معه لتخفف عنه وطأة غياب أخيها فؤاد . لكن هذا لم يكن وحده سبب طلب عودتها  ، ذلك أن جابر الكتبخاني كان مسكونا ً بهاجس الحنين إلى الماضي هو الآخر ، وتجلى هذا الهاجس في عشقه للاستماع إلى الموسيقى من خلال  الفونوغراف   وهو جهاز مسحوب من الماضي بات من النادر استعماله الآن بعد شيوع استخدام  أجهزة الصوت الحديثة المتطورة ،وقد لعب الفونغراف دورا ً مهما ً في أحداث الرواية  ، فإلى جانب الربط بين نهى ونادر برباط حب جارف فإنه قام بدور توثيق  نسب ابن نشأت من الخادمة الحبشية  التي اغتصبها ،  وما هو أهم من ذلك انه حل لغز اختفاء بنفشة المفاجىء من بيت زوجها وهو الحل الذي احتفظت به الروائية  إلى الصفحتين الأخيرتين من  النص الروائي . لقد كشفت بنفشة بصوتها  الذي سجلته بالفونوغراف عما يمكن النظر إليه كفضيحة مزلزلة حين اكتشفت بأن التاجر الذي اشتراها  كجارية واستخدمها محظية وحملت منه بإبن قبل أن يقدمها إلى الوالي طمعا ً في الحصول على مركز مرموق ، لم يكن سوى اسماعيل الكتبخاني والد زوجها صبحي فهربت  ولم يعرف بقصتها سوى رأفت  الخيامي الذي تكتم وساعدها على العودة إلى وطن أهلها في سمرقند  وقد فعل ذلك على ما نظن لكي لا تتلوث عائلته هو بعار فضيحة ” أسرة عجيبة لها إرث باهظ من الشر والدناءات العتيقة  وأبناء الزنا  وشهوة  السلطة  والمال والجواري  ، والمحظيات .”  ص 476  .

سبب آخر

         ولا يشكل الفونغراف لوحده سببا ً للكشف عن حنين جابر إلى الماضي فكان ثمة سبب آخر أكثر أهمية منه  يتمثل في رغبته في قيام نهى بتحقيق المخطوطات الموروثة: مخطوطات تعود إلى جده صبحي الكتبخاني وأخرى تعود لأبيه فؤاد ، مما يفصح عن حنينه  للماضي بوجهه الايجابي  .

 تشكل هذه المخطوطات جزءا ً مهما ً في الرواية وتغطي مساحة واسعة منها وتقدم عرضا ً سيريا ً للمكان والزمان والأشخاص وتستعرض أوجه الصراع الدائر في زمن الأحداث عائليا ً واجتماعيا ً وسياسيا ً ، يمثل اسماعيل الكتبخاني أحد طرفيه ويمثل ابنه صبحي طرفه الأخر : اسماعيل الكتبخاني المنغلق على أفكاره  المتخلفة واللاهث وراء ملذاته والباحث عن الوجاهة من خلال استرضاء المسؤولين العثمانيين  بشتى السبل،  وكان يمارس سلطة أبوية فوقية ويعامل  أفراد أسرته  مثلما يعامل عبيده ، ويمثل ابنه صبحي طرفه الآخر النقيض لأبيه وقد تمرد على سلطته لاسيما حين تبلور وعيه عند سفره إلى الاستانة . ومالبث الصراع أن أخذ بعدا ً سياسيا ً حين ارتبط صبحي بجمعية الاتحاد والترقي التركية وحاول أن ينقل أفكارها إلى بغداد  ، وهي أفكار تتقاطع مع أفكار أبيه الموالية لحكم السلطان  . أما  ما دونه ابنه فؤاد من مذكرات فلم يكن ينطوي على ما هو مهم كثيرا  غير أن أبرز ما فيه أنه كشف عن أن جابر الكتبخاني هو إبن فؤاد من زوجته الهندية جايا التي تزوجها أيام دراسته في لندن  وانفصلا لأنها رفضت الذهاب معه إلى بغداد بعد إكمال دراسته .  .لقد رسمت الرواية لوحة بانورامية للواقع الاجتماعي والسياسي للعراق أوائل القرن العشرين والنصف الأول منه  ، وللواقع  الراهن في العراق ، فيبدو واضحا ً أن حنين عائلة الكتبخاني الحالية للماضي  يأتي كمعادل نفسي لإحساسها بخيبة الأمل من الحاضر : خيبة أمل الطبقة المتوسطة التي تنتمي إليها ، وقد نزلت بها الدنيا  مقابل  تسلق  طبقة طفيلية للسلـّم الاجتماعي واحتلال  موقع الصدارة في غفلة من الزمن .

نهى الآن : ” في البيت  ، بيتها في ما يسمى وطنها : الوطن الخانق المختنق ، كل ما فيه تحلل أو تعرض للفقدان ، الحرب مرت من هنا وتركت وراءها الموتى والرماد ، تغير حال أسرتها عندما تآكلت الطبقة المتوسطة كلها واحتلت واجهة المجتمع طبقات طفيلية تملك المال وترعى الخراب  ”  ص 98    فتشعر  بالاختناق  ويساورها التوق  للحرية في مشهد مفعم بالإيحاء تفننت الروائية في صياغته  من خلال صورة الطائر التي على الجدار المقابل لسريرها ، الطائر الذي يهشم زجاج الصورة ويغادرها : ” تحرك الطائر اللحظة ضمن إطار الصورة ، نفض جناحيه اللازورديين وفتح  منقاره وحطـّم زجاج الصورة ….

   حلّـّق الطائر بعيدا ً ” ص 102    فشعرت كأنها استحالت إلى ذلك الطائر.   لقد شادت الروائية معمار روايتها بمهارة سردية عالية ، وحيث تعلم بأن روايتها طويلة وقد تثير الملل ، فقد  تلافت ذلك بتوزيع مادة نصها على  فصول وفصول فرعية قصيرة ،  فضلا ً على توظيف التنقل المتواتر في الزمان والمكان ، إلى جانب الزج بالتلغيز  في مفاجأة اختفاء  بنفشة فوفرت عناصر الشد والانتظار والترقب ، مع اعتماد لغة سرد صافية تقترب من روح الشعر أحيانا ً .حين تنتهي من هذه الرواية التي  تكون قد أخذت منك ساعات طويلة  من القراءة المتأنية ، وتضعها جانبا ً ولكن قريبا ً من النفس ، ستجد أن لطفية الدليمي ألقت عليك درسا ً نموذجيا ًكبيرا ً في السرد !
____________

*عن  جريدة : الزمان

شباط-2017

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *