نستطيع القول ببساطة إن لكل رواية بنائها الفني الخاص، ورؤيتها المستقبلية أو الواقعية، فضلاً عن المعمار النصي للرواية بوصفها بناءً لغوياً. وعلى الرغم من مئات الأعداد من الروايات المنشورة مؤخراً؛ إلاّ أن الرواية المبدعة تنماز عن الروايات الأخرى بإفادتها من الأساليب السردية الحديثة؛ ولكن بتوظيف فني جديد.
وتعد الروائية لطفية الدليمي واحدة من الروائيين المؤسسين للفن الروائي العربي الحديث، بما تمتلك من حرفية وغزارة في الانتاج القصصي والروائي، أو بما تنشره من ترجمات روائية ونقدية. وتعنى روايات الدليمي، وقصصها القصيرة بعالم النساء، أحلامهن وتحدياتهن في الحب والحياة والأمومة، وغالباً ما تكون المرأة هي الشخصية الرئيسة في الرواية؛ بل هي الشخصية المؤثرة في مسار الرواية.
وفي روايتها الأخيرة (عشاق وفونوغراف وأزمنة) الصادرة عن دار المدى 2016 نلحظ إفادتها من العتبات النصية، ونظام المدونة أو المخطوطة، وتوظيفها فنياً من أجل منح الرواية تفرداً في الأداء السردي.
وتحاول هذه الورقة الإشارة سريعاً إلى هذه الأساليب السردية، ومدى فاعليتها للخروج برؤية مستقبلية للرواية.
أولاً ـ العتبات النصية :
وهي النصوص المصاحبة للرواية، مثل : الهوامش والمقتبسات والعنوانات الفرعية والمقدمات والغلاف و …، وتشكل العتبات نظاماً إشارياً ومعرفياً يحفز النص، ويوجه القراءة، فضلاً عن قيمته الجمالية، وستقتصر الورقة على عنوان الرواية والمقتبسات النصية.
1ـ العنوان : لا يجوز الابتداء بالنكرة؛ إلاّ بمسوغ كما يقول النحاة، وابتدأ عنوان الرواية بنكرة (عشاق) وعطف عليه بنكرة أيضاً (فونوغراف) وعطف بنكرة آخر (أزمنة) وقد سوغ النحاة الابتداء بالنكرة إذا كانت مبهمة، وجاء العنوان بثلاث نكرات مبهمات؛ وكأن الإبهام هنا صار معرفة! ولعرض هذه المعارف المبهمة سنحتاج إلى 582 صفحة!!
وجمعت الكاتبة في العنوان بين الانسان والآلة والزمن، فصهرتهم وصيرتهم كائناً سردياً جديداً، له صفة التحول والحركة والدوران، فالعشاق في تحول دائم، وشخصيات الرواية من العشاق جميعاً، تنتظر (نهى جابر) عشيقها عن طريق الرؤيا ” أكان هذا صوت رجل الرؤيا الذي تنتظره، تحلم به؟؟ الرواية، ص 39. لقد خدعتها الرؤيا! لكن (نادر) كان يحمل “ملامح رجل الرؤيا الذي طالما ظهر لها في رؤاها العابرة وأحلامها” الرواية، ص336. ويعشق (صبحي الكتبخاني) (بيدار خانم) صاحبة المقهى، ثم يميل قلبه إلى ابنة أخيها (سزكار خانم) التي تبحر معه، لكن عشقه الأصلي هي المغنية (بنفشة خانم) التي يفقدها ولا يعرف سبب فقدانها حتى نهاية حياته، فضلاً عن اصابته بعشق الكتب والكتابة. وأما خال نهى الستيني (سليم) فيعشق أرملة كردية جميلة في الأربعين من العمر، ولها أولاد ينتظر موافقتهم للزواج منها، ووالدها (جابر صبحي الكتبخاني) عاشق كبير للموسيقى والمعرفة والزهور، فضلاً عن العشق المتبادل بينه وبين زوجته التي تتقاعد من وظيفتها من أجل رعايته، ويؤمن والدها أن الموسيقى أحد عناصر تطور البشرية. ويعشق شقيقها (وليد) الفتاة المسيحية (سميراميس) ثم يتزوجها ويهاجرا خارج العراق، أما (مديحة) خالة (نهى) فتنهي قصة عشقها بالانتحار! وخالتها (هناء) لم تجد بعد الرجل الذي يصلح عشيقاً لها بعد أن فقدت الرسام الذي رسم لها عدة بورتيرهات وهي شبه عارية.
وتعود (حياة البابلي) من رواية (سيدات زحل) إلى بغداد في العام 2009، وسرعان ما تجد الحب “دونما مقدمات عزيزتي نهى، دونما تمهيد أعترف لك إنه الحب …” الرواية، ص427. حتى إنها تنسى مشروع التصوير الذي اتفقت مع (نهى) على القيام به. حتى الشخصيات الثانوية في الرواية تعيش في حالة عشق مثل (كارولين) صديقة نهى في باريس. وكذلك “نساء سالونيك البارعات في صنع الدانتيلا خلال انتظارهن العشاق والأزواج المجندين ..” الرواية، ص221.
أما الفونوغراف الذي صفته الدوران؛ كي يعطينا صوتاً جديداً، فقد أنسنته الروائية حتى غدا إحدى الشخصيات الرئيسة، وبسبب الفونوغراف يطرأ تغيير على شخصيات الرواية ومساراتها، ففي داخله تجد (نهى) خاتم جدتها (بنفشة خانم) “خذي، إليك بهذا الخاتم، إنه يليق بجمالك، هذا خاتمها …” الرواية، ص297. يقول لها جدها صاحب المخطوطة وهي في حالة هذيان، وبسبب عطل الفونوغراف أيضاً ترتبط (نهى) مع (نادر) الفيزيائي المنعزل بسبب تغيرات الزمن السلبية، وتتزوج (منال) أخت نادر من (فراس) الذي صنع بوق الفونوغراف.
وعن طريق الفونوغراف فقط نعرف نهاية قصة بنفشة خاتون التي ستكون نهاية الرواية.
ويلحظ أن الفونوغراف صار عنواناً لفصلين من اثني عشر فصلاً للرواية، هما الفصل الخامس (الفونوغراف) والفصل الثاني عشر (الفونوغراف: كشف الخبايا) فضلاً عن عنوانين فرعيين في الفصلين الخامس والسابع.
أما الأزمنة فتحمل معنى التغير والتحول، وسنرى في الرواية إننا في حركة مستمرة وانتقالات زمنية، فتبدأ الرواية من كافيه دانتون في باريس، لنمر مروراً سريعاً في سويسرا ونبقى لساعات في اسطنبول، ثم أربيل، ونستقر أخيراً في بغداد المتغيرة المتحولة بفعل الزمن والحرب، لتنتهي الرواية و(نهى) تستعد لمغادرة بغداد هرباً من الأزمنة القديمة والجديدة!
أما الزمن في الرواية فهو زمن جدّ طويل، يمتد إلى قرن مضى متحولاً إلى أزمنة متعددة بعيدة ومتقاربة، تجري متوازية مرة، عن طريق تقنية المخطوطة، أو نعود لها عن طريق الفلاش باك والتداعي الحر؛ لكنه في تفاصيله زمن متسلسل.
ويرى الباحث أن اختيار الكاتبة عنواناً طويلاً للرواية (ثلاث كلمات، قياساً إلى كلمتين في معظم الروايات) قد أوحى بطول زمن الرواية، أما تنكير كلمات العنوان فقد أشار إلى غموض الأحداث التي تعيشها الشخصيات، وتنكر الزمن لها، ثم موتها المجاني، أو هجرتها إلى الخارج.
2ـ المقتبسات : تعد المقتبسات النصية في هذه الرواية مهيمناً شكلياً فيها، فقد بلغت ثلاثة وأربعون مقتبساً، تنوعت بين الشعر والنثر، فقبل بدء فصول الرواية نجد ثلاثة مقتبسات، وفي معظم العنوانات الفرعية للفصول نجد مقتبساً أو مقتبسين في بعض الأحيان. وتبدأ مذكرات (صبحي الكتبخاني) بمقتبس من ابن عربي. ويلحظ على المقتبسات الثلاثة الأولى امتدادها الزمني منذ الفلسفة اليونانية متمثلة بهيراقليطس، مروراً بالفلسفة الإسلامية، متمثلة بـ أحمد ابن مسكويه، وانتهاء بالعصر الحديث متمثلة بـ أمين معلوف، وفي هذا الامتداد الزمني دلالة على المصير المشترك للانسانية، ويلحظ أيضاً أن الرواية ابتدأت بمقتبس من هيراقليطس ” في بحثك عن الحقيقة كن متأهباً دوما لما هو غير متوقع؛ لأن الحقيقة منهكة في البحث عنها وباعثة على الحيرة عند إيجادها ” وانتهت بهذا المقتبس نفسه مع العنوان الفرعي للفصل الأخير. ويبدو أن (نهى) في إصرارها على قراءة المذكرات المخطوطة، وسماع الأسطوانات المسجلة، كانت متأهبة لمواجهة هذه اللحظة، ثم اتخذت قرارها المجنون ” أيتها المجنونة، ما كنت أتوقع منك هذه المفاجآت …” الرواية، ص580
توزعت المقتبسات بين المتصوفة (ابن عربي، سهل التستري، اخوان الصفا، جلال الدين الرومي، حافظ الشيرازي، الجنيد البغدادي …) الذين أخذوا الحصة الأكبر، وأخرين من الشعراء والرسامين والكتاب والكتب والروايات والفلاسفة والفيزيائيين ومقتبسات بلا مصدر. تشير كثرة المقتبسات الصوفية إلى تصوف وزهد وعفة الشخصيات الرئيسة إزاء أندادهم من الشخصيات الأخرى التي أخذت حيزاً أقل في الرواية؛ عفة وشرف (صبحي الكتبخاني) الذي يتزوج زواجاً شرعياً؛ إزاء شهوات والده وظلمه وجشعه الذي انحدر إلى أخيه نشأت الذي يغتصب الخادمة الحبشية (نمنم) وينكر فعلته! وكذلك زهد أسرة (جابر الكتبخاني) مع أرث الأسرة، ورفضه للمناصب إزاء أسرة شقيقه منصور الذي يصبح ابنه فهمي نائباً في البرلمان، ويتنقل بين الأحزاب من أجل مصلحته. زهد (نادر) واعتزاله العالم بعد أن اكتشف حقارة ذلك العالم في الحرب، ثم تركه التدريس بعد ” تضاعف ما يراه من قبح نفوس البشر وتشوهاتهم … وأن المدارس تنهار … والمناهج تقوم على أسس بالية” الرواية، ص332. وفضلاً عن ذلك إن بعض معلومات (نهى) تصلها عن طريق الحدس، وهو طريق المعرفة عند المتصوفة ” تدرك نهى من تتابع الإشارات الغريبة على وعيها أن جذورها تمتد لأكثر من عرق وأكثر من بلاد وأكثر من عصر … أي البشر يعلم حقيقة أصوله ونسبه” الرواية، ص13.
واقتبست الكاتبة مقطعاً من (أسطورة الطوفان السومرية) في بداية الفصل الفرعي (الطوفان) الذي تتحدث به عن غرق بغداد وبيت أهل نهى في المطر، وكأن الطوفان ملازم لأهل العراق حتى اليوم. ووضعت الكاتبة مقتبساً من رسالة أخوان الصفا في الرياضيات والموسيقى في الفصل الفرعي (الفونوغراف) وفيه يتحدث (صبحي الكتبخاني) عن تعلمه للموسيقى وشرائه لجهاز الفونغراف. وفي الفصل الفرعي (الحب والجحيم) تختار الكاتبة مقطعاً للشاعر اليوناني كافافيس ” إن لم تستطع تشكيل حياتك كما تريد/ فحاول ـ على الأقل ـ ألا تبتذلها …” الرواية، ص459. وفي هذه الفصل يتحدث (نادر) عن سبب عزلته، وعن حياته التي لا يريد أن يبتذلها! ومن المقتبسات المهمة مقتبسين ” للشيخ قيدار ـ سيدات زحل” ولـ “حياة البابلي (سيدات زحل)” إذ حولت الكاتبة هاتين الشخصيتين الروائيتين إلى شخصيتين حقيقيتين، ونسبت لهما هذه المقتبسات النصية، بدل أن تنسبهما إلى لطفية الدليمي كاتبة رواية (سيدات زحل) ويلحظ هنا أن المقتبس النصي لحياة البابلي هو المقتبس الوحيد لكاتبة أنثى في رواية تعلي من شأن المرأة في مواجهة الحياة.
لقد استطاعت الروائية أن تكون دقيقة في اختياراتها للمقتبسات النصية بحيث “تتصل به اتصالاً يجعلها تتداخل معه إلى حد تبلغ فيه درجة من تعيين استقلاليته وتنفصل عنه انفصالاً يسمح للداخل النصي كبنية وبناء أن يشتغل وينتج دلاليته” كما يقول محمد بن نيس في كتابه، الشعر العربي الحديث، بنايته وإبدالاتها التقليدية.
ثانياً: نظام المدونة أو المخطوطة :
توظيف المخطوطة أو الرقوق في الرواية أسلوب سابق على الروايات العربية، فقد ظهر بلفظه في قصة لإدجار ألن بو، وكافكا، وفي رواية (مخطوطة وجدت في عكرا) لباولو كيلو، ويسعى هذا الأسلوب إلى خلق روح جمالية توثر في المتلقي لتحقيق صدق فني لحوادث لم يطلع عليها الراوي. فضلاً عن التوظيف الفني من خلال رسم الشخوص ووصف الأماكن النائية زمانياً، وتمدد الرواية بحرية عبر الزمن. وقد استفادت الرواية العراقية والعربية والعالمية من هذا الأسلوب، ووظفته في بناء فني مستلهم من البيئة المكانية للرواية، والتراث الثقافي الذي تنتمي له لغة الرواية، كما في روايات الراووق، وسابع أيام الخلق، وعزازيل، وقواعد العشق الأربعون، وغيرها.
وفي هذه الرواية وظفت لطفية الدليمي المذكرات الشخصية، واسطوانات الفونوغراف المسجل عليها الصوت بوصفها مخطوطة تحاول فك كتابتها من أجل والدها المريض ” أنت الحفيدة الأخيرة التي ستجمع أخبار الأسرة والبلد معاً، تقومين بتحقيق المخطوطات …” الرواية، ص 92. ولكن الحقيقة أن الرواية قدمت لنا عن طريق المخطوط الذي ظهر في الرواية بلون غامق، رواية أخرى موازية للرواية الأصلية، ومرتبطة بها فنياً، فكيف استطاعت ذلك؟
أنشأت الروائية مجالاً مناسباً لعرض المخطوط، من حيث التجليد وحبر الكتابة ولون الورق ونوع الخط، ومن ثم تحقيقه أو أعادة كتابته، واختار جابر صبحي الكتبخاني ابنته (نهى جابر) لهذه المهمة، وهي ليست طارئة على هذه الوظيفة، فهي سليلة أسرة الكتبخاني التي آل إليها اللقب “من جد بعيد عاش في القرن السابع عشر وكان كتبياً مولعاً بالمخطوطات والكتب … ولم يرث أيّ من أحفاده علمه وولعه ما خلا صبحي …” الرواية، ص 36.
جعلت كاتب المخطوط يغير من طريقة الكتابة ” فاكتشفت أنه كان يتحدث عن نفسه مرة بضمير الغائب، يتحدث عن شخص يعايشه ويشهد تفاصيل حياته وحياة الأقربين وأحوال البلاد ولا يريد أن يظهر آنويته، ومرة يكتب بصوته هو …” الرواية ص154. وعن طريق هذا الايهام استطاعت الكاتبة شد القراء إلى رواية طويلة، وقللت من الرتابة في السرد.
وبوساطة اشتراك أكثر من كاتب في المخطوط (فؤاد صبحي، رأفت الخيامي، بنفشة خاتون) استطاعت الكاتبة أن تعطينا رواية أجيال تمتد لأكثر من مائة عام، ولكن من خلال زمن السرد الذي لم يستغرق سوى أشهر قليلة.
ويتجلى توظيف المخطوط لهذه الرواية من خلال وصف المكان، والمكان في هذه الرواية هو بغداد في عصرين مختلفين، بغداد في العهد العثماني إلى العام 1953 في العهد الملكي، وبغداد بعد العام 2007، بالمساكن العشوائية، وتبدلات السكان وتغير شكل المحلات والشوارع … لقد وصفت الرواية البيت البغدادي للأسر البغدادية المتنفذة، وبساتينها، ومحلات بغداد القديمة، فضلاً عن الملاهي، ودوائر الحكومة، وشق شارع الرشيد، وعربات الترامواي، ووسائل المواصلات، وبعض الأزقة … كما وانتقل بنا المخطوط إلى الإستانة بوصفها المؤثر الفعلي في بغداد، ثم إلى لندن وجامعاتها.
وعلى الرغم من أن المخطوط يعنى بمذكرات صبحي الكتبخاني الشخصية؛ إلا إنه ممتلئ بالرسائل التي تود الرواية بثها، ففيه رفض للعبودية والرق إبان الدولة العثمانية، وتشمل هذه العبودية الجميع وليس الرقيق الخادم فقط ” أبكي تأسياً على روحي، أبكي على أمي وأخواتي وأخوتي والخدم والحراس والمربية المخلدة أم نعمان وعلى الناس القانعين بما وجدوا أنفسهم عليه من عبودية موروثة ..” الرواية، ص 154.
وفيه إشارة إلى الفلكلور البغدادي من خلال تقديم النذور من قبل النساء المسلمات إلى الكنيسة طلباً للإنجاب أو الزواج ” أتينا نتبارك بالسيدة العذراء ونطلب المراد من أم سيدنا عيسى” الرواية، ص 322.
وعن طريق المخطوط فضحت الرواية الطبقات السياسية والأرستقراطية منذ العهد العثماني حتى زمن الرواية؛ لأن نفوذها وأملاكها وأراضيها جاءت عن طريق هبات السلطة العثمانية والبريطانيين فيما بعد.
وعن طريق الحبكة الروائية ربطت الكاتبة فنياً بين المخطوط والرواية الأصلية؛ بحيث يكمل أحدهما الآخر درامياً. إذ تبدأ الحبكة في القطار الذاهب إلى زيورخ من باريس، إذ يسألها “رجل خمسيني نحيل وله ملامح ما بين القوقازية والهندية …
ـ هل أنت جايا؟؟
ـ عفوا؟؟
ـ أنت جايا القادمة من لندن؟
ـ لا .. لست جايا..
ـ آسف أنت تشبهين جايا ميراي تماماً .. أنا شاهروخ قريب والدتها.” الرواية، ص46. وقد لا تترك هذه الحادثة أثراً درامياً لأن مثل هذا التوهم موجود بكثرة، ولكن التوتر الدرامي يحدث حين تخبر والدها بهذا الحوار، فيقول مرتبكاً :
ـ أيعقل هذا؟ مستحيل! لا لا .. جايا؟
ـ ماذا يا أبي؟
ـ سأحكي لك القصة في وقت آخر ..” الرواية، ص95
ومما يزيد الحدث توتراً أن والد نهى يموت وهي لم تعرف بعد من هي جايا؛ لكن المخطوط يتكفل لنا بمعرفة من هي جايا.
وبجانب المخطوط استخدمت الكاتبة رسائل البريد الرقمي، كما تظهر من خلال الحاسوب، مما أضفى توثيقاً تأريخياً على الرواية، ولو قرأنا الرواية بعد ربع قرن مثلاً، عرفنا شكل الرسائل المتبادلة حينها!
ولقد تسلل إلى المخطوط أسلوب الكاتبة، ومعجمها السردي، كما في هذه العبارات : “أنما أنا أكتب عن الانسان وأوجاع روحه وأشواقه المكبوحة عن أحلامه وخطاياه وجنون القلب” الرواية، ص155. أو “فتحت نوافذ الغرف المطلة على البستان فانهمرت الأشذاء وأصوات بعض الطيور ..” الرواية، ص284.
المعمار النصي للرواية :
الرواية بناء لغوي بالدرجة الأولى، والرواية الناجحة هي التي توظف هذا البناء في إنتاج دلالاتها، وتعطيها صفة التفرد والتميز عن الروايات الأخرى، مثلها مثل الهندسة المعمارية تماماً، فلا تفاصيل زائدة، وأيّ مكان أو استدارة في البناء يؤدي وظيفة جمالية ونفعية. ولعل المعجم السردي يشكل ملمحاً مناسباً للدراسة؛ لكنه يحتاج إلى مقالة خاصة، لذلك سيستعرض الكاتب بعض النسيج السردي الذي أضفى على الرواية هذا التفرد.
إن إحدى الثيمات الرئيسة للرواية هو الزواج من عرق أو دين آخر، كما رأينا زواج (وليد) من (سميراميس) أو زواج (جابر) جدّ نهى من زميلته الطالبة الهندية ثم انفصالهما المفاجئ، كما ستعرف (نهى) من خلال المخطوط. ومن الثيمات أيضاً، طبيعة الحياة اليومية في العراق الجديد، وأثر المفخخات وجرائم الخطف في الناس الأبرياء.
ولتعزيز هذه الثيمات في المعمار النصي، اختارت الكاتبة باريس كمحطة أولى للرواية، وباريس مثالاً للتنوع والتداخل الجنسي، وثمة إشارات كثيرة له في جمل مبثوثة في النص أو مشاهد يومية، مثل : “هسيس اللغات، فرقة موسيقية من الهنود الحمر، كلنا أبناء هذه الأرض، سفر ابنها الشاب موريس لرؤية والده الأفريقي، احتشدت نساء من مهاجرات شرق أوروبا في جهة القطار اليمنى …”
و(نهى) قرب سينما دانتون تشاهد شباب وفتيات من أعراق مختلفة بانتظار مشاهدة فيلم (مذاق الآخر) الذي يتناول معضلة الهوية وتداخل الثقافات.
واختارت ساحة دانتون في باريس كمكان للتداعي الحر في السرد، ومن المعروف أن دانتون هو أحد رجالات الثورة الفرنسية، وقد أعدمته الثورة نفسها، فهل أستطيع القول إن اختيار هذه الساحة يرمز إلى التخبط والعشوائية، وأكل بعضهم البعض في العراق الجديد!! دون أن يكتب السارد “فكرت نهى؛ وهكذا في بلادي قبض على السلطة من هم أشد نذالة وخسة وفساداً وكراهية للحياة والجمال” الرواية، ص 27.
ولتعزيز الانتقالات الزمانية فإن سلالم المترو الباريسي تتداعى بها إلى سلالم زقورة دوركوريكالزو في عقرقوف، وهي سلالم تؤدي إلى السماء، أما سلالم المترو فتؤدي لزحام المدينة!!
ولو نظرنا إلى الكتب المفضلة لدى نهى سنجد : كتاب الطّواسين، وفصوص الحكم، وترانيم العشق السومرية، وكتب طه باقر، وهادي العلوي، وأمين معلوف، و …، ومن الواضح أن المتصوفة يدعون إلى وحدة الأديان، وطه باقر نقل لنا أدب وادي الرافدين، وهادي العلوي من المتصوفة المحدثين، وعالج أمين معلوف مشكلة الهوية … وكل هذه الكتب تعزز رؤية الرواية، ولا تختلف الكتب في مكتبة (نادر) إلا بإضافة كتب الفيزياء والكون، ومنها جاءت بعض المقتبسات النصية.
وبثت الكاتبة في ثنايا السرد أبياتاً من الشعر العربي والأوربي، وترنيمات شعبية، وأغان لفيروز، وبعض الأبوذيات العراقية، وأسماء أو حضوراً لعازفين حقيقيين مثل جميل بشير، فضلاً عن مشاركة الأنسة غريترود بيل في جزء بسيط من الأحداث، أو معرفتنا أن الأب أنستاس الكرملي يدير جريدة العرب، مما خلق إيهاماً سردياً ومتعة في التخييل، فضلاً عن الصورة الجميلة للمجتمع العراقي إبان السلم.
ويخلص الباحث إلى أن هذه التفاصيل الصغيرة في المعمار النصي العام للرواية، لم توجد عبثاً، بل أدت وظيفتين : جمالية ونفعية (سردية) واضاءت لنا جوانب مهمة من دلالات الرواية ورؤيتها الخاصة.
رؤية الرواية ورسائلها:
ربما كان الفن السردي هو الأكثر انتشاراً في العالم، وهو الأكثر قدرةً على تصوير المصائر الانسانية المتشابكة، وخلق واقع موازٍ للواقع الحقيقي؛ بما يبثُ من رسائل، وبما يحمل من رؤية، ذات صدق فنيّ. وستحاول هذه الورقة إضاءة بعض هذه الرؤية.
قلت في بداية الورقة أن روايات لطفية الدليمي تعنى بعالم النساء، وغالباً ما تكون المرأة هي الشخصية الرئيسة في الرواية، بل هي الشخصية المؤثرة في مسار الرواية.
وهذه (نهى) يسميها والدها إينانا ” كان أملي أن تكوني بمقام ملكة في بيت …” الرواية، ص92. لقد أرسل في طلبها من فرنسا كي يسلمها الإرث ” في المكتبة، سوف يكون هديتي وإرثي الذي لن أسلمه لسواك ..” الرواية، ص85
وكأنها هي الملكة المباركة القادرة على تحقيق الأمان، بعد أن قتل شقيقها فؤاد، وانشغال شقيقها وليد بزواجه، وعدم رغبته في الكتابة. وعلى الرغم من فشل زواجها الأول إلا أنها استطاعت التغلب على هذا الفشل.
وتتجلى قوة الأنثى في الرواية من خلال اعتراف (نادر) لنهى “قال لنهى من بين ما قاله لها: ـ أنت أشد مضاءً وعزيمة مني لأنك خضت معترك الحياة غرباً وشرقاً وحسمت أمر زواجك البائس بإرادة فعالة … أما أنا فلم أجرب المجازفات إلا كجندي مرغم … كنت أشفق من تغيير نمط حياتي لولا أنك بزغت كالشمس في أفقي المعتم وأيقظت بي شهوة الحياة ذاتها ..” الرواية، ص412.
أما نهاية الرواية فقد كان بيد (نهى) واستجاب لها (نادر) بسرعة.
أما في الرواية المخطوطة فإن (صبحي الكتبخاني) هو الشخصية الرئيسة في الرواية، إنه يبحث عن الحقيقة والعدالة، ويذهب إلى الإستانة كي يتعلم رغم معارضة والده، وينتمي إلى جمعية الاتحاد والترقي، ثم يتركها لدعوتها للتتريك، ويتخذ قرارات جريئة، مثل سكنه في قصر آخر وزواجه من (بنفشة) وهي مغنية سابقة أصلها من قرية في سمرقند, ويبدو (صبحي الكتبخاني) هنا وكأنه يسمو فوق سيرة والده من خلال دفاعه عن خدم الأسرة ودعوته للتعليم، وإنشائه لمكتبة خاصة به، ومن خلال اطلاعنا على الكتاب المفضل لديه تبث الرواية رسالتها في الدعوة إلى السلام الدائم ” ونعود بعدها إلى المكتبة ليطلعني على كتاب يراه مهماً ويعترف بأنه غير أفكاره وطور قدرته على الجدل والنقاش هو كتاب (مشروع السلام الدائم) للفيلسوف (إيمانويل كانت) الرواية، ص538. وهو ضد الحرب “تملكني الحزن على أحوال البشر الذين مسختهم الحروب والكراهية وأفقدتهم إنسانيتهم” الرواية، ص401. لكن مسيرة صبحي الكتبخاني تتوقف بعد الاختفاء الغامض لزوجته (بنفشة) وتصيبه الكآبة، ويرفض أن يتزوج مرة أخرى، وكأن (بنفشة) هي المحرك الرئيس لحياته!
وعلى وفق رؤية الرواية فإن الخلاص يكمن في الهجرة من العراق “الحمد لله لقد نجا واحد منا” الرواية، ص456.
وتحفل الرواية بنظرة موضوعية إلى الآخر ” وفي لندن وبعد خبرة عام في الغربة إكتشفت بطلان فكرتي عن نفسي فأنا لا أعرف شيئاً قياساً إلى شباب هذه البلاد الغريبة المختلفة عما عشته وعرفته …” الرواية، ص546.
وأخيراً سيكون الخلاص الفردي هو الرؤية الأخيرة للرواية ” لا تطرح المزيد من الأسئلة، العشق أولاً ..” الرواية، ص580.
ويرى الباحث أن الرواية طرحت المزيد من الأسئلة؛ لأن الفن الخالص يستوجب المزيد من الأسئلة، وقدمت الرواية رؤاها، وإجاباتها من وحي هذا الفن الخالص، الذي هو الأول في الرواية.
وعلى الرغم من طول الرواية؛ إلاّ أن البناء الدرامي المتقن، وانعدام الترهل اللفظي، ولغة الرواية التي تحمل موجات موسيقية، ساعدت القارئ على مواصلة القراءة، كما أرى.
________
*المدى