إعادة تكرير الموظّف، ثمّ معالجته بالصّبر

خاص- ثقافات

* د.عريب محمّد عيد

قد يبتلعُ فردٌ كرامته؛ ويَطحنُ أعصابه تحت أضراسه، ويلوكُ مبادئه وأفكاره بأسنانه، ويطرّيها بلعابه؛ علّها تذوب وتتلاشى مع حركة لسانه، فتغدو اللّقيمات الّتي يؤمّنها لنفسه وعياله قوتًا مغموسًا بالحاجة يَسدُّ بها وجع أحشائه؛ ويخدّرُ بها جسده الممضوغ بأفواه المتعجرفين، ويعبّد بوهن تماسكه طريق المتعالين، ثمّ يرصفه للمارّة والمارقين عن الخلْق، وقد يسحقه تحت خيبة نعال المتآمرين عليه، ولا يُستغربُ لو مَدّ لهم جسور الودّ والعرفان تملّقًا وتزلّفًا لعلّ الخير يكون حليفه، وعسى العطاء يُردّ له منحنيًّا بدائرة قد تكتمل به.

هو ليس وصوليًّا، ولا كما يُظنّ به أنّه منحطٌّ أو متآمرٌ أو انتهازيٌّ أو انفاعليٌّ أو مزاجيٌّ أو ضعيفٌ؛ كلُّ ما في الأمر أنّه موظّفٌ مسخٌ، فقَدَ ملامحَ عاش بها ورَبيتْ معه، أصابه عطبٌ مؤقّت، مشوّشٌ وتائِهٌ يخرجُ من ذاته لساعات، ثمّ يعود إليها، فهو داخل عمله ليس هو، فصام “شوزفرينيّ” مسوّغ، هو شكلٌ لكونٍ صغيرٍ مشوّهٍ يدور به، ولا يقف عنده؛ لا يعيبه نظام العمل ولا شكل المسؤول وهيئته ولا حجم الشّركة أو مساحة المؤسّسة وارتفاعها أو عدد زملائه أو ملامح ماديّة أخرى؛ لكن يعيبه مجتمعٌ قذرٌ قاسٍ يسيرُ في منظومة لاأخلاقيّة، عقارب سير ساعاتها التّسيّب والتّرهّل الإداريّ والإهمال، ودقائقها المعدودة الفساد، وثواني انعطافاتها التّوقيعات المغروضة والحسابات الّتي تُسدّد وفق المصالح الخاصّة، وتقسيم المنافع حسب الأهواء والميول، ويعيبهُ حالٌ مالَ واستطالَ به البلاء وعجز عن تغييره أو توجيهه؛ لقلّة حيلته، وضِعَة مركزه، وتواضع نسبهِ، وكثرة متطلّبات أسرته، وديونه، والتزاماته، وتشقّق جلده من التّعب وغيور عينيه اللّتين باتتا شاهدتين على ما يرى من ضلال وظلم وقهروتزييف وانحراف، ويعيبه جيبٌ خالٍ من الدّنانير إلا عند استلام الرّاتب الطّيّار، راتبه الّذي لا يخضع لقانون الجُهد المضاعف العام، فكلّما زادت ساعات العمل، وتضخّمت غُدّة الإخلاص، وارتفعت وتيرة الوفاء، وعَلت موجة البذْل، وتفاقم حجم الإنتاج؛ قلّ التّقدير وفُقِد الاحترام، وطُحِن الموظّف أكثر بعجلة العمل، وكُثفّت عليه الأعباء، ووهن منه العظم واشتعل الرّأس شيبًا، وتواضع الرّاتب مع زيادة الغلاء، وتقشّفَ البدن حتّى من جروحه تقشّر، ودميَ حتّى نزف غيظًا.

كلّ ذلك يؤدّي لتجميد طموحاته وتصفيته ثمّ إعادة تكريره يوميّا، بإضافة بعض المنكّهات حينًا؛ لتغطية حدّة العمل وتحليته، أو سلب طاقته وعَصْره حينًا آخر، ثمّ معالجته بالتّسويف والأمل والصّبر.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *