اشتباك

خاص- ثقافات

*محمود شقير

بعد مائة وعشر سنوات مات، لم يفقد تعلقه اللذيذ بالحياة حتى اللحظة الأخيرة، لم يكن مكروهاً من أحد، عاش حياة مديدة فيها الكثير من التقلبات، شارك في العديد من الثورات، وحينما حلت الهزيمة الكبرى لم يفلسف الأمر لأنه – أصلاً – لا يجيد التفلسف، وإنما اكتفى بأن قال: آخ. لم يفرط في التعلق بشهوات الحياة، كان يعشق التدخين في عهد الصبا، ثم ما لبث أن أقلع عن التدخين حفاظاً على عوده النحيل، لم يذق الخمرة بتاتاً ولم يأكل لحم الخنزير، تزوج عدة مرات لأنه لم يرزق بولد إلا وهو في الثمانين من عمره، لكنه رزق بالعديد من البنات.

       كان طيباً مع الزوجات الطيبات، إلا حين يغضب منهن، فقد كان يكثر من اشتقاق الألقاب القبيحة لهن، ثم لا يلبث أن يرضى فلا تمحّي الألقاب ولا تذوب، كانت الزوجات يلاحظن أرقه المزمن في ليالي الشتاء، حيث يجلس في فراشه محدثاً نفسه بصوت مسموع، وحينما كانت الزوجات يستيقظن من نومهن ويسألنه عما يفعل، كان يقول، إنه جده السابع الذي مات قبل ستمائة عام، يأتي، فيقصّ عليه أعذب القصص ثم يتبادلان الكلام، فلا تفعل الزوجات سوى الركون إلى الصمت، إذ لم تكن لديهن حيلة أخرى.

       كان له صوت خافت فلم يرتفع يوماً بأذى ضد الناس، كانت له ضحكة ناعمة فلم يقهقه في حياته مرة واحدة، وكانت له طريقته الخاصة في المزاح، أحبّ أطفال الحي كلهم، وأطفال الحي بدورهم أحبوه، كان يداعب الواحد منهم قائلاً له “تعال يا أبو خصوة”، وحينما يفرط في المزاح كان ينادي الواحد منهم قائلاً: “تعال يا كلب يا ابن الكلب” ثم يطلق ضحكته الناعمة، ويقبل الأولاد على الجبين.

       كان يذهب كل صباح إلى حانوته الصغير، يبيع القمح والشعير والذرة، ولا يتقاضى الثمن من زبائنه الفقراء إلا مرة كل عام، كان لا يعرف الكتابة، وكان يقول: إن عقلي دفتر لا تضيع منه شاردة أو واردة. لم يكن محباً للتبذير والمباهاة، كان يتناول طعامه البسيط في المطعم القريب، ويصلي في المسجد صلاة العصر ثم يعود إلى بيته في المساء.

       مات على حين غرة في الصباح الماطر، اجتمع أهل الحي واجتمع الشباب، هيأوا له جنازة مهيبة في الزمن الذي تفاقم فيه القتل على أيدي الأعداء. مات وهو يتأسى على مصير البلاد، خرجت جنازته تدوي بالهتاف وبالنشيد. جاء الجنود وصبّوا على الجنازة وابلاً من قنابل الغاز، ما اضطر أهل الحي إلى الدخول معهم في اشتباك.

       الرجل الذي مات في فراشه هذا الصباح لم يعجبه هذا الحال، صاح وهو في ذروة موته: سأقارع الغزاة.

       حينما انفضّ الاشتباك، عاد أهل الحي ليجدوا النعش فارغاً، والرجل الميت لم يعد إلى نعشه حتى الآن.
___

*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991

 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *