اعْتِرَافَاتُ لَيْلٍ أَعْمَى

خاص ثقافات

*عثمان بوطسان

بعد أن قضيت سبع سنوات معتكفا في مكتبة. لم أكن في حالة نفسية تسمح لي بمقاومة الجرح والنكبات عبر كتابة الشعر ليلا. كنت كالظل سجين أربعة جدران، حيث لا شيء يعلو على الفراغ والسكون القاتل. سكون عميق جعلني أترك رصيف الذكريات باحثا عن منفى ينقدني من جرح الحب الذي أصابني. كان الليل والنهار متشابهان بالنسبة لي، فكل شيء كان مظلما. ربما أعماني الجرح لدرجة أنني أصبحت عاجزا عن التفريق بين الأبيض والأسود. بدأت أكتشف لاحقا ما يفعله الحب فينا. هو يُحوِّل الجداول والحدائق الى صحراء قاحلة. يقتلع جدور العاطفة والحس العميق، يصير كل شيء دون معنى، يصير المكان والزمان سجناً مؤقتا أو قاعة جنازة لا ميت فيها ولا عَزَاءُ.
لَقد أعماني الحب لدرجة أنني نسيت نفسي، تاركا كل الأحلام على حافة المخيلة. أدور بجرحي كالأحمق محاولا أن أسعفَ حيرتي ببعض الصراخ أو رمي الحجارة في مياه بحرٍ لا يسمع شيئاً ولا يُحرك ساكناَ. فالذاكرة لا تتوقف عن التواصل مع الحبيبة البعيدة والأمكنة التي كنا نتقاسم فيها أطراف الكلام وبعض الشعر المرتجل. لا تتوقف الذاكرة عن النبش في فراغات القلب المنكسر والمتصلب جراء العزلة القاتلة. وكما قال أحد الشعرا: القَلبُ الذِي يَسلَمُ مِن قَسوَةِ الشِتَاءِ،لاَ يَسلَمُ مِن قَطرَةِ الدَّمِ. تمرُّ الأيام في مخيلتي كسرب الحمام المهاجر. تمرُّ مشبعة باليأس والحزن الذي لم يغادر أبدا ميناء الأعين الحائرة. الحبُ حربٌ والعزلة جنارة الخاسرين. لقد نبدتني الشوارع والمدينة، وقلب من أعتقدتها يوماً وطنا.
على الحد الفاصل بين اليأس والأمل أقف. كأنني في حيرةٍ من أمري، أحاول أن أنتزع الجرح الذي أصابني كما تُنتزع الرصاصة من الجسد. وحيدٌ كالقصيدة في الليلة الباردة. يأخدني الحنين الى ظلمات الماضي البعيد، حيث لم يكن لي أنيسٌ سوى شمعةٍ وسجائرٍ مستوردة. بالطبع لا أحد يشعر بقسوة الحب سوى العاشقين الذين أصابهم من العشق ما أصاب غيسطافو أدلفو بكير.
هل كان الحب يستحق كل هذا العناء…هذا الجرح الذي مسح كل الإبتسامات من وجهي الطفولي. لكنني ما أزال أتذكر كل شيء وكيف أنسى جرح من سكن الفؤاد. كُلُّ شيءٍ كَانَ فِي عَيْنَيْهَا مُقَدَسٌ، فِيهِمَا تُشْرِقُ الشَمْسُ قَبْلَ أَنْ يَطْرُقَ الصَبَاحُ  أَبْوَابَ المَدينَةِ. فِيهِمَا نَهْرٌ كالغَانْجِ عَلَى صَدْرِهِ نُجُومٌ لاَ تَنَامُ ومَسْجِدٌ للعِبَادَةِ.
لَكِنْ ما أحزنني ليس فراقُ الحبيبةِ، وَإِنَمَا خيانة الأصدقاء الذين إعتبرتهم دوما عائلة. سقط القناع وسقطت معه كل الضحكات والكلمات الكاذبة. لا صداقة في عالم أصبح فيه الخداع والمكر وسيلة لقضاء المصالح، عالم تحول فيه الإحساس الى بضاعة رخيصة يستعملها البعض لكسب العطف والقرابة، ليطعنك من حيث لا تدري. لا صداقة اليوم والعالم يرتدي ثوب النفاق والكذب والوهم. لذا فالجرح الذي أصابني جراء الصداقة الكاذبة جعلني أنزف مرة أخرى، رغم أن نزيف الفراق ووداع الحبيبة لم يشفى بعد. فكلما أصابني جرحٌ، أكتبُ قصيدة لعلني أنسى قليلا…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *