ولكن، يا معلمي: أين لوعة القلب؟!

خاص- ثقافات

*فاروق وادي

أستعيد أحمد دحبور، دائما، في واحدة من التماعاته الثقافيّة المتألقة التي أدين له بها دائماً. وإن كانت لحظة اللقاء الأولى به تفرض نفسها الآن وهو يًلملم أوراقه وأوزان شعره ويمضي في رحلته النهائيّة، عندما قدّمه لنا ناجي علوش في أحد اجتماعات اتحاد الكتاب الفلسطينيين التي كان يستضيفها اتحاد المرأة الفلسطينيّة في مقره في جبل اللويبدة أواخر الستينيات، وفرض نفسه علينا بقراءة قصيدته “الولد الفلسطيني” التي لم تغب أبداً عن ديوان الشعر الفلسطيني. غير أن الغنىى الثقافي والمعرفى التي تنطوي عليها الحكاية التي أرويها عنه هنا، يجعلها غير قابلة للنسيان.
لأحمد البقاء، ومن خلّف هذا الشعر لا يموت..

كنّا مجموعة من الكتّاب والفنانين نتجمّع حول مائدة أحمد دحبور في تونس، وكان يتصدرها كاتبنا الكبير، واسع الثقافة، وشديد العمق والتواضع، جبرا إبراهيم جبرا، عندما اندلع السؤال حول ذلك الشيء السرّي، الغامض، الذي يتحدّد بحضوره الخفي سحر النص، فتتحقق النشوة لدى المتلقي، أو تغيب عنه إذا ما غاب!

بعضنا التجأ إلى الغيب لتفسير ذلك الغموض المدهش. قال البعض إنه شئ إلهي يعطيه المولى من يشاء من مبدعيه. واجتهد آخرون بأنه ربما يكون منحة شيطانيّة ملغّزة، مستفيدين من الأسطورة العربيّة حول وادي عبقر. فيما اجتهدت فئة ثالثة بالقول إنه ربما يكون نتاج لحظة عقليّة أو سيكولوجيّة غامضة، فيها من العقل قدر ما فيها من الجنون، وفيها من الشعور قدر ما فيها من انفلات اللاشعور. وقيل أيضاً، إنها مثل كلّ الظواهر الكونيّة الكبرى، تشتعل كما الشهاب لتهوي على الورق، ثم تشتعل مجدداً في نفس المتلقي، رعشاً إبداعياً عصيّاً على الوصف.

كلّ اجتهاداتنا، من محاولة تدّعي العلميّة، ومن محاولات غيبيّة لا تضيف شيئاً إلى الغيب، تداعت أمام تلك الحكاية الباهرة التي رواها دحبور، والتي أحيلها إليه كلما رويتها إذا ما دعت الحاجة، وها أنا ذا أفعل الآن مجدداً…

***

تقول الحكاية، إن “أبي نواس” تلقى تعليمه، في مراحله الأولى، على يد أستاذ شديد الدقّة والصرامة هو “خلف الأحمر”. وما كان الأستاذ يسمح لتلميذه الطامح إلى كتابة الشعر أن يُقدم على ذلك قبل الأوان، ودون أن تتوافر للتلميذ حصيلة هائلة من المعرفة والثقافة وعلم الأدب.

وعندما حانت اللحظة التي أدرك فيها المعلِّم الصارم أن تلميذه النجيب قد بلغ مبلغاً من العلم والثقافة يتيح له قرض الشعر، طلب منه مطلباً لا يخلو من غرابة:
ـ أكتب يا أبا النوّاس قصيدة في رثائي!
لم يطرح التلميذ المتشوِّق لكتابة الشعر سؤال دهشته على مثل ذلك الطلب العجيب، ولكنه انطلق سعيداً بالمهمّة التي طالما حلم بها، ليعود في اليوم التالي إلى معلمه الذي ما برح على قيد الحياة، بقصيدتيّ رثاء قرأهما أمامه، فأثار التلميذ دهشة المعلِّم:
ـ لم أكن أطمح يا أبا نواس بأن يُقرض في رثائي شعراً أجمل وأبلغ من هذا الشعر‍.

أمّا الشاعر الجديد، الذي سيتكرّس اسمه فيما بعد في ديوان العرب، فقد قال بين مزاح وجدّ، وشعور غامر بنجاح تجربته الشعريّة الأولى:
ـ عندما تموت يا معلمي، أعدك بأن أكتب شعراً أجمل وأبلغ من هذا‍!
دهش خلف الأحمر من تلك الثقة العالية التي أحسها في تلميذه، فصاح متسائلاً:
ـ وهل هناك ما هو أكثر جمالاً وبلاغة مما قلت؟!

وهنا أجابه أبو نواس بجملة قد يقع فيها جوهر ذلك السرّ الذي بحثنا عنه طويلاً:
ـ إذا كنت قد رثيتك حيّاً، إذن، فأين يا معلِّمي.. لوعة القلب؟‍!

***

ربما تكون “لوعة القلب” هي الشيء الغائب في أعمال كثيرة نقرأها أو نشاهدها، ليس في الشعر وحسب، الأقرب إلى القلب ومعاناته، وإنما في الرواية أيضاً، في المقطوعة الموسيقيّة والأغنية، في اللوحة، المنحوتة، الفيلم السينمائي، المسرحيّة.. اوكلّ أشكال الإبداع. فذلك الشيء السري، الغامض، ينبغي حضوره في كلّ أشكال الإبداع.

يمكن لنا أن نجتهد في تفسير معنى “لوعة القلب”، وسوف نجد لها معنى في ائتلاف عدد من المفردات والتعبيرات الأدبيّة التي لا يكفي تفرُّد الواحدة منها للتعبير عن معنى مرادف يفي بالغرض، وإنما تظل بحاجة إلى تحقيق معنى يقترب من دلالة اللوعة في اجتماعها وتآلفها.

فهي من ناحية إتقان الصنعة الفنيّة إتقاناً تاماً، وهو الاتقان الذي ينطلق من مقولة (لسنا واثقين من إحالتها لكاتب محدّد) أن “صنعة الفنّ صنعتان: صنعة إتقان الصّنعة، وصنعة إخفاء كلّ أثر للصنعة”. وربما يكون ذلك هو ما تحقق في قصيدتيّ أبي نواس. لكن السؤال يظلّ قائماً حول غياب الإحساس الحقيقي النابع من المعاناة والتجربة الحياتيّة. وقد يتجلّى غياب ذلك المعادل روائياً في غياب المعرفة بالمناخات الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تقوم فيها الأحداث وتتنامى الشخصيات بمشاعرها وأفكارها وعواطفها، وعدم معرفة الكاتب الكافية بشخصياته، مما يُسقط عنها قدرتها على الإقناع، حيث تتحرّك ضمن عمليّة تخييل مفتعلة، لا تقارب الواقع ولا ترتقي إلى مستوى التخييل الإبداعي، وفي سرد يستعير لغته من الكتب لا من التجربة والإحساس والمعرفةً.

غياب الحرارة عن النصّ، وانعدام الصدق الفني والإقناع. غياب التجربة والمعاناة، في نصّ مسبوك لغوياً ومصنّع بإتقان، يمكن أن يُضاف إلى كلّ ما نعنيه بذلك الغياب الكاسح، لما أطلق عليه أبو نواس، حقيقة: لوعة القلب!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *