إلى ميشيل فوكو بعد انقضاء ثلاث عقود عن رحيل جسده وديمومة فكره ” إن وجود فلاسفة محترفين يخطبون ويطلبون ويؤكدون ويلحون على أن نهتم بأنفسنا لم تكن لتمر من دون أن تطرح عددا من المشكلات السياسية التي أثيرت حولها مناقشات مهمة للغاية.”1
بين الذات والحقيقة علاقة لا ينكرها إلا من لم يعتني بذاته ولم يبحث عن الحقيقة وعاش أبد الدهر مغمض العينين ولم يحاول معرفة نفسه والاستطلاع في العالم المحيط به والخوض في رحلات وتجارب المعنى. بيد أن العلاقة مع الذات قد لا تكفي معرفة الحقيقة الذاتية للتعبير عن مختلف أبعادها وتدرك ما في بواطنها. وبناء على ذلك يمكن تعويض الاهتمام بالذات والاشتغال على الذات بالعناية بها Souci de soi 2 قصد تجنب السقوط في أهواء الانشغال ومتاهات الانهمام دون إضاعة الفرصة للإقامة في الذات والسير الحثيث إليها. لا مناص من القول بأن العناية بالذات مثلت لُبَّ النشاط الفلسفي وطريقه المستقيم ، والآية على ذلك شدة الدفاع عن النفس عند التعرض للمخاطر والأذى وتشييد الحكمة على هذه المقارعة المستمرة للخارج. لكن لماذا تم تفضيل مبدا اعرف نفسك كتقنية رسمية للنشاط الفلسفي على حساب مبدأ اعتن بنفسك؟ وما الذي حدث للإنسان في الزمن مابعد الحديث لكي يعيد من جديد تعريف النشاط الفلسفي على ضوء مبدأ العناية بالذات؟ وبعبارة أخرى بأي معنى يمثل مطلب العناية بالذات أحسن التقنيات الإيتيقية الممكنة لتقدير الذات؟
” لقد تشكل هذا المبدأ وتم التعبير عنه في سلسلة من الصيغ مثل “اعتن بنفسك” و”ارجع الى نفسك” و”عد إلى نفسك” و” ابحث عن الرغبة في نفسك” و”لا تبحث عن أي لذة أخرى غير نفسك” و” صاحب نفسك” و”كُن صديقا لنفسك” و” كُن مع نفسك كمن يكون في قلعة” و”عالج نفسك و”اجعل من نفسك عبادة” و”احترم نفسك”…الخ.”3
لقد تنوعت العناية بالذات في تاريخ البشر بين معرفة النفس وعلاج الجسد ومغالبة الأهواء ومصارعة القدر وملاءمة نظام العقل وترويض رغبات المرء حتى تتناغم مع نظام الكون وتتوافق مع قانون الطبيعة.
يترتب عن ذلك اعتبار العناية بالذات امتيازا لا يرقى إليه من الناس إلا أصحاب الفطر الفائقة من الحكماء واستثناء يمنح المرء علاقة دائمة مع ذاته وتصورا متكاملا عن الحياة وتعطيه فرصة بناء موقف وجودي متماسك ويوفر تربية روحية وذوقا جماليا وممارسات عملية ومقاصد خيرة تجلب المنافع وتدفع المضار. لا يشترط من أجل العناية بالذات الرغبة في المعرفة وحب الحكمة وعقد العزم على الفوز بالحقيقة وايثار الحياة الروحية على ملذات الجسد والشروع في البحث عن جواهر الأشياء بل التوجه نحو الفكر وامتلاك القدرة على التجاوز والارتقاء والتجرد والسمو والتعالي وتحويل النفس نحو الغايات المطلقة والكليات. هكذا تشكلت تقنيات للعناية بالذات ترتكز بالأساس على الإعداد والتحضير والصقل والتهذيب والترويض والتثقيف والتربية والتطهير من أجل التواجد إلى كلية الوجود والمكوث قبالة العالم والعمل على التصحيح. علاوة على ذلك يحرص النشاط الفلسفي للعناية بالذات على الانفتاح وبعد النظر وتوسيع دوائر التفكير وإدراك مكمن الغموض الذي يخفي سر انعقاد شرط الخلاص على امتحان الضمير وتوجيه الوجود وفق كونية النداء وعن طريق براعة الانتقاء ونمو ثقافة تحقيق الذات عبر التدبير والهداية والغائية والفضيلة.
لا تنبني حكمة العناية بالذات على معرفة النفس ضمن الإطار النظري التأويلي فحسب بل تقتضي التحرك ضمن الإطار العملي وإحداث تغييرات جوهرية في الشخصية عبر خوض مغامرات وتدريبات ومكابدة. أضف إلى ذلك أن العناية بالذات يفضي إلى تحديد الشروط التي تمنح للفكر الاقتدار على التوجه نحو الحقيقة وذلك بتربيتها على العناية بحسن طرح الأسئلة وعمق التحليل والمقارنة والشرح والعبارة والحد.
بناء على ذلك تتكون تجربة العناية بالذات من نظام في السلوك يسعى إلى جلب المتع وإشباع الرغبات عن طريق معرفة الذات لنفسها بنفسها في مقام أول والاستمتاع من تحصيل الحقيقة عند الاجتهاد في معرفتها.
بيد أن الاستجابة إلى الأمر السقراطي: اعرف نفسك بنفسك قد لا يكون كافيا للعناية بالذات ولذلك يتخذ ميشيل فوكو هذه وصية حجر الزاوية للنشاط الفلسفي ومبدأ ايتيقي للحياة المشتركة للجماعة البشرية4 .
إذا استنطقنا مطلب: اعرف نفسك بنفسك فإننا نجده يشير إلى ما يلي:
– لا تهمل نفسك واعتن بذاتك واهتم برغباتها وحاجياتها وانشغل بمطالبها
– انتبه إلى ما تحتاجه معرفة نفسك ولا يجب في كل الأحوال أن تنس نفسك
– لا تفرط في الأمنيات ولا تكثر من التعهدات واقتصد واعتدل في الضروريات
– لا تنذر ولا تتمنى ولا تلزم نفسك بما لا تفي به وبما لا تستطيع انجازه.
– ثق بقدراتك الذاتية وعوّل على نفسك واستخدم قوتك في مواجهة القوى الخارجية
– اسخر من حياتك المعتادة وانقد آرائك من أجل أن تغير حياتك نحو الأفضل وتعيش حياة جيدة.
– ارتبط بنفسك أشد الارتباط وصالح ذاته على أحسن وجه وأقم علاقة راسخة ودائمة معها.
– ادفع الآخرين إلى العناية بأنفسهم ونبههم وادفعهم إلى تدبير ذواتهم وتحصيل الحياة الجيدة.
غني عن البيان أن النشاط الفلسفي يقنع المرء بأن تدبير الذات هو جزء من تدبير المدينة وأنه يمكن أن يصير أفضل عقليا وأخلاقيا وأن يسلك طريقا يعود بالنفع عليه وعلى غيره وأن يكون عادلا مع الجميع. ما يترتب عن العناية بالذات هو إنقاذ الحياة البشرية من الضياع واحتلال مكانة في المجتمع وتحمل الرسالة وممارسة مهمة التخليص وإحراز اليقظة المعرفية والاستفاقة والعمل على معالجة البشرية من الآفات. كما تتحول العناية بالذات إلى نوع من الفعل العلاجي يشبه العبادة المنتظمة للنفس وتنبيه الغافلين نحو الصلاح والانعتاق والتحرر من الجهل والعبودية والابتعاد على ارتكاب الحماقات والتحول نحو السداد والاستقامة.
لقد وقع تعميم مبدأ وجوب العناية بالذات على جميع الناس ولم يعد حكرا على نخبة من المثقفين المتعلمين وصار مطلب الفوز بحياة جيدة ظاهرة ثقافية جامعة ونمط وجود للذات الجماعية في زمن ما بعد الحداثة.
لقد مكن مبدأ العناية بالذات المرء من نبذ الانطواء على النفس والانشغال عنها وكذلك التوقف عن الضياع في الكون والاشتغال بالأمور الخارجية والاهتمام بالآخرين وتركيز الانتباه على خدمة عين الذات وجعلها أساس الحياة ومرجع الإيتيقا ونداء من أجل التشجع على الوجود والتحدي الجمالي أمام تقلبات الزمان.
اللافت للنظر أن الأمر القطعي بلزومية العناية بالذات واحترامها لا يدخل ضمن باب النصح والوعظ والدعوة والهدي والإرشاد والوصية وإنما يتنزل ضمن الأحوال التي تتعلق بالكينونة الخاصة بعين الذات وتحمل بين طياتها مشارع في اتجاه الغيرية ومحاولة وجودية قصد إعادة هيكلة الذات وبناءها ايتيقيا.
ربما السبب الحقيقي من وراء العناية بالذات ليس عقد العزم على معرفة حقيقة العالم الذي تسكنه الذات مع ذوات وكائنات أخرى وإنما الوعي بأولوية القيام بتعبئة إضافية في فعل التعرف نفسه للذات عن ذاتها وتدشين التجربة القصصية للذات عن حقيقة السكنى في العالم حيث تصبح محور تبدل وموضع رهان. وبالتالي لا يتعلق الأمر عند ميشيل فوكو بطرح سؤال: كيف يمكن بلوغ الحقيقة من قبل الذات؟ وإنما تكمن المسألة في معرفة كيف يتسنى للذات بلوغ الحقيقة؟ وماهي التحولات في كينونة الذات لتتمكن من ذلك؟
من المرجح اذن أن يكون قرار العناية بالذات لحظة شهادة وتوكيد على استفاقة واستنارة حدثت في كينونة الإنسان ومكافأة على جهد تأملي وعرفاني تم بذله ولحظة تحويلية للذات نحو العودة والانجاز والاكتمال.
غاية المراد أن ميشيل فوكو يستخلص ثلاثة دلالات من أمر العناية بالذات هي:
– اتخاذ موقف تتوجه بمقتضاه الذات نحو ذاتها والآخرين والعالم.
– تغيير النظرة من الخارج إلى الداخل وتحويل الاهتمام وقلب الانتباه من الهناك إلى الهنا.
– امتلاك جملة من التقنيات والقيام بمجموعة من الأفعال الدائمة والممارسات والتمارين والأنشطة تساعد الذات على التغير والتحول نحو الأحسن مثل التأمل والتذكر والحساب وامتحان الضمير ومراقبة الذات والتثبت من صحة الأفكار والتدقيق في التصورات ومراجعة الذات وتفقدها.
من هذا المنطلق يتخطى مبدأ العناية بالذات عتبة التفكير ليصير شكلا من الكينونة وتوجها اتيقيا للحياة. لكن كيف تتحول الايتيقا إلى مفتاح هرمينوطيقي للعناية بالذات وبلوغ درجة الوجود الأجمل والأشرف؟ والى مدى يقدر الفكر الفلسفي المعاصر على منع العناية بالذات من الانحدار نحو الوله الذاتي المرضي؟ واذا كان من المسلم أن الذات قادرة على معرفة الحقيقة فهل تتمكن الحقيقة من تغيير وانقاذ الذات؟
__________
المرجع:
فوكو ( ميشيل) ، تأويل الذات، دروس سنة 1981-1982. ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت،الطبعة الأولى، 2011.
_______
*كاتب فلسفي