في مصر أعلن مؤخرا وزير تربيتها وتعليمها الدكتور طارق شوقي أنه سيعتمد طرقا ووسائل جديدة مبتكرة لتفتيش طلاب الثانوية العامة قبيل ولوجهم إلى قاعات الامتحان التي هي في كافة بلدان العالم الراقي غرف اختبارات وليست امتحانات أي محنة وابتلاء وشقاء ، وبدلا من أن تفكر مصر العظيمة سياسيا واقتصاديا أيضا بالمناسبة ومن قبل ذلك كله العريقة حضاريا ـ في ابتكار وسائل شتى لتنمية مهارات التفكير المختلفة أو تدعيم الملكات الذهنية والمهارية لدى الطلاب والارتقاء بطبائع عقولهم راحت الوزارة العريقة تفتش عن شئ جديد يدعم بقاءها النسبي ويؤكد أن هناك ثمة موظفين يعملون بأروقتها من اكتشاف حيلة سحرية لتفتيش الطلاب باعتبار أنهم ـ الطلاب ـ محل شبهة واتهام بصورة مستدامة ، وهذا ما أفزعني وأنا أطالع هذا الخبر في كافة صحف القاهرة وعشرات المواقع الإلكترونية التعليمية المتخصصة .
وحقا ، رحم الله أيام المدرسة الابتدائية التي كنا نتناول فيها أقراص الدروس والموضوعات بغير تأويل أو تثوير للمادة المقروءة ، تلك الأيام والساعات الطويلة والبعيدة التي كنا وغيرنا نمارس فعل القراءة بغير جهد أو اجتهاد ، مع مزيد من الصبر في تجرع المعارف والمعلومات واجترار البيانات والحقائق التي لم نفطن ساعتها أنها تشارف اليقين أم أنها تغالي في الزيف والخداع . ورغم أن تلك الأيام كنا نتداول فيها ما سطره عميد الأدب العربي من فكر ورأي تثير إعمال العقل ، وكذا أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي التي تصف تارة ، وتسرد تارة أخرى لتثير في نفوسنا كافة مظاهر الإعجاب والانبهار بالنص وصاحبه إلا أن كليهما ـ طه وشوقي ـ لم يستهدفا إعمال عقولنا عن طريق المعلم أو الكتاب أو البيئة المدرسية ، وإن شئت فقل المناخ التعليمي بوصفه أرسخ ظاهرة ثقافية عرفتها البشرية .
وهذه المقاربة التلقينية لم تختلف عن مثيلتها في تلقي القصص والروايات القصيرة التي كنا وربما يزال أبناؤنا أيضا يتدراسونها بكثير من التلقي السلبي ومزيد من حالات غياب إعمال الذهن وعملياته في تأويل أحداثها ، بل لن أغادر مكان القول بالتأكيد أن تدريس النصوص القصصية في زماننا كان ينتهي بابتسامة أو باقتضاب صوب بطل القصة أو بطلتها ، أو بموت قائد أو الغدر به على يد أحد أعوانه ، هكذا كان المشهد يسير كما تسير أحداث المسرحية على الخشبة وسط التصفيق أو الامتقاع أو إسدال الستار إيذانا وإعلانا بالنهاية رغم أنف الحضور .
هذه التقدمة كفيلة بتوصيف المشهد التعليمي الثقافي الراهن لا من حيث رصد مشكلاته المزمنة بل التأكيد على ضرورة البحث عن منافذ معرفية تحث على إعمال العقل وإمعان النظر الذهني التأويلي في المعارف التي تطرح على قارعة الفصول الدراسية في مدارسنا العربية .
ولعل آخر ما قرأت عن التعليم تقريرا يرصد واقع النهضة التعليمية في فنلندا والتي لا يمكن محاكاتها كما زعم وأتيقن أنا في بلداننا العربية . لاسيما وأن أبرز ملامح التدبير التعليمي هناك يقوم على التوجيه العقلاني والتنفيذ المحكم المرن المخطط بدقة وليس مجرد سياسات عشوائية وليدة الصدفة ، وفي الوقت الذي تبتدع فيها مصر الطريقة الفريدة في تفتيش الطلاب تتصدر فنلندا نتائج البرنامج الدولي لتقييم الطلاب التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وهو باختصار برنامج يقوم على قياس نجاعة الأنظمة التعليمية بالبلدان الأوروبية مقارنة بغيرها من بلدان النمور الأسيوية والولايات المتحدة الأمريكية .ويمكن الاطلاع على ملامح هذه التجربة فيما نقله لنا الدكتور محمد رضوان بمجلة الدوحة بعنوان ” تجربة التعليم في فنلندا ” المنشور في مارس 2017.
وفي صدد الاهتمام بالتعليم والتربية القرائية ، أصبحت تربية الطفل أمراً يتعلق بمستقبل الشعوب وتطورها ، وذلك باعتبار الطفل نواة التقدم لمواكبة عصر التغير المتسارع نحو التنمية والرخاء ، ولعل النصف الأخير من القرن الحالي كان بداية فعلية للاهتمام بالطفل والطفولة ، وتمثل ذلك بإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة حقوق الطفل عام 1959م ، وإعلان عام 1979م عاماً عالمياً للطفل وفيه تم التأكيد على ضرورة أن تؤمن للطفل الحماية ضد كافة أنواع الإهمال والقسوة والاستغلال وأن يحمي ضد أية تصرفات قد تعرضه في المستقبل لأي نوع من أنواع الإحباط.وإذا كان هذا الاهتمام ، وهذه الحماية ، موجهين إلى الطفل عامة، لا فرق في ذلك بين سوي ومعاق ، فإن المعاقين من الأطفال أشد حاجة لمثل هذا الاهتمام .
وهذا ما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعلان عام 1981م عاما دوليا للمعاقين ، وعلى المستوى العربي جاءت قرارات المؤتمر العربي الإقليمي عام 1981م نؤكد أن رعاية المعاقين تعد استثماراً لرؤوس الأموال لا استهلاكاً لها ، كما أكدت ضرورة تضمين خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية برامج وقائية علاجية لرعايتهم . وفي مصر خصص عام 1989م ـ 1990 م للطفل المصري ، وجاء الهدف التاسع من وثيقة الطفل مؤكداً على ضرورة توفير قدر مناسب من الرعاية النفسية والاجتماعية للأطفال المعاقين ، فالطفل المعاق يحتاج إلى رعاية وعناية تتناسب وما لديه من إمكانات وقدرات محدودة .
وقد تناول كثير من الباحثين موضوع القراءة كعملية عقلية وحاولوا تعريفها ، وقد تراوحت التعريفات بين التعريف الأولي الذي يرى في القراءة عملية ميكانيكية أو فك رموز، أي ترجمة الرمز المكتوب إلى صوت ، والتعريفات التي ترى في عملية القراءة عملية عقلية مركبة وذات شكل هرمي يرتبط بالتفكير بدرجاته المختلفة، بحيث إن كل درجة تفكير تعتمد على ما تحتها ولا تتم بدونها . ويرى جيبسون أن القراءة عملية اتصال واستجابة لرموز مكتوبة وترجمتها إلى كلام وفهم معناها. بينما يرى دشنت أن عملية القراءة عملية تتعدى فك الرمز وتهجئة الكلمات المطبوعة ، وهي عملية تهدف إلى الوصول لمعنى المادة وفهمها ومن ثم تداخل القارئ بالمادة وتحليلها وعمل إسقاطات ذاتية عليها. أي أن القراءة عملية موضوعية من حيث إدراك معنى المادة ، وعملية ذاتية من حيث التفاعل معها وتحليلها واستخلاص نتائج منها.
ولكن القراءة الحقيقية تبدأ من اللحظة التي يحول فيها القارئ تحويل الرموز إلى أصوات. والقراءة على هذا الأساس هي عملية معقدة تشمل تقييم القارئ للكلمات وعلاقتها مع بعضها في الجملة وقبول معنى ورفض معنى آخر، وتتداخل فيها قدرات عقلية مختلفة وتتأثر بمعطيات داخلية تتصل بالقارئ، وعوامل خارجية تتصل بالنص والظروف المحيطة ، وجميع ذلك يؤثر على صورة الاستجابة النهائية للمادة المقروءة ، وعليه فإن القراءة تشتمل على جميع مقومات التفكير.
إذن فعملية القراءة -كأداء معرفي- تعتبر عملية متكاملة تمر بمجموعة مستويات، تبدأ بالاكتشاف أو التحري الأول وأحياناُ يسمى الانطباع الأول، ثم مرحلة الاستنطاق التي تعمل على تحليل البنى الداخلية وتفكيكها لتمهد للقراءة التأويلية في إعادة تشكيل الوحدات المعرفية إلى منتج نهائي يصف سلوك ودوافع النص المكتوب.
ولقد تعددت تعريفات التعويق القرائي وفقا للمنظور المعرفي والنفسي صوب الظاهرة نفسها ، ومن هذه التعريفات ما ترى أن التأخر القرائي هو أن ليس الأطفال سواء في قدرتهم على القراءة ، فمنهم الأقوياء ، ومنهم المتوسطون ، ومنهم الضعفاء المتأخرون . وهؤلاء في نمو قدراتهم على القراءة لا يسايرون نمو أعمارهم الزمنية ، بل لكل تلميذ عمره القرائي الخاص به ، فقد يكون عمره الزمني 12 سنة ، على حين لا يزيد عمر القراءة عنده على ثماني سنوات.
ويعرف الطفل المتخلف في القراءة بأنه كل طفل يكون تحصيله القرائي أقل من تحصيله في باقي المواد الدراسية الأخرى ، ومن مستوى ذكائه العام بمقدار سنة ونصف السنة ، كما يعرف بأنه الطفل الذي تقل درجاته في اختبارات القراءة المقننة من سنة إلى ثلاث سنوات فأكثر عن متوسط الدرجة التي تناسب عمره الزمني أو العقلي. والمتأخر قرائيا هو الشخص الذي يظهر في استجاباته القرائية والتعليمية تأخر ملحوظ ونموه القرائي خارج الخط العام لمن هم في مثل نموه ، وكانت إمكانياتهم التعليمية وعدل نموهم الشخصي القرائي أكثر من تحصيله .
وهناك كثير من صور ومظاهر التعويق القرائي لدى ذوي الاحتياجات الخاصة ، فمن الأطفال من يعاني من خلل وظيفي ، لأنه يبدو بوضوح أنه غير قادر على القراءة ، حتى لدقيقتين دون أن يصاب بالصداع واضطراب في المعدة ، وهو يدعي أن عينيه تؤلماه ، على الرغم من أن ذلك لم يتبين من خلال الكشف الدقيق ، وهو يستطيع أن ينشغل بالمواد والأوراق من نوع الألغاز البسيطة لمدة أطول من الوقت الذي قد يقضيه في القراءة ، بدون أن يبدو عليه أي ضيق أو تعب أو اضطراب ، وعندما استطاع أن يحقق نجاحا في القراءة من خلال عمل انفرادي مخطط بعناية ، ويقوم على أساس تشخيص كامل ، فإنه لم تظهر عليه أي علامات من أنواع الاضطرابات السابقة .
و أسباب التعويق القرائي لدى ذوي الاحتياجات الخاصة متعددة ومتنوعة، فهي كثيرة ومتنوعة ولا شك أن بعض هذه الأسباب يرجع إلى المعلم ، وبعضها يرجع إلى الكتاب المدرسي المقرر على هذه الفئة ، ومن الصعوبة بمكان قصر أسباب التعويق القرائي وتأخره إلى عامل واحد من هذه العوامل ، فهي تعمل مجتمعة ، وتتكامل فيما بينها.
ويمثل الكتاب أهمية كبرى في جذب التلاميذ للقراءة ، وقد أسهم إسهاما في تخلف التلاميذ في القراءة على نحو كبير ، مثل سوء اختيار موضوعات القراءة ورداءة إعدادها وعدم الاهتمام بحسن إخراج الكتاب من ناحية الصور والطباعة وحجم وشكل الحروف وجودة الورق والغلاف والتنسيق . كما تعد الأحوال البيئية والاجتماعية أحد أسباب التعويق القرائي لدى ذوي الاحتياجات الخاصة ، مثل كثرة غياب التلاميذ وعدم اقتناع أولياء الأمور بذهابهم إلى المدارس المتخصصة لهم .
والجدير بالرصد في إصدار دولة الإمارات العربية المتحدة قانون للقراءة بوصفها حقا إنسانيا يتمتع به المواطن الإماراتي ومن ثم العربي بوجه عام هو ما يحققه هذا القانون من جوانب نفع كثيرة ، فالقراءة غذاء العقل و الروح ، و هي نافذتنا نحو العالم و تعتبر من أهم وسائل كسب المعرفة ، فهي تمكن الإنسان من الاتصال المباشر بالمعارف الإنسانية في حاضرها و ماضيها ، وستظل دائماً أهم وسيلة لاتصال الإنسان بعقول الآخرين وأفكارهم ، بالإضافة إلى أثرها البالغ في تكوين الشخصية الإنسانية بأبعادها المختلفة .
و القراءة ليست هدفا إنما وسيلة التعليم الأولي، و أصبح العالم ينظر للقراءة بنفس الأهمية التي ينظر بها للكلام والمشي، والذي يقرأ ويفهم ما يقرأ في سرعة يمكنه أن ينجز من الأعمال أضعاف ما ينهي القارئ العادي.
وتعتبر القراءة وفقا لقانونها الأول الجديد أساس التعليم ووسيلته الأولى، والفرد القارئ فرد نامٍ وقادر على استمرار النمو؛ فالقراءة تجعل العقل يستجيب استجابة دقيقة واعية للكلام المطبوع، وهي السبيل للاتصال بعالم الآخرين، واكتساب معارفهم وخبراتهم التي تجعله قادرًا على العيش بفكر ناضج رحب، كما تكسبه القدرة على التعبير عن نفسه. كما أن القراءة ليست هدفا في حد ذاتها، وإنما هي الوسيلة الأولى للتعلم والمعرفة والتفاعل الإيجابي، خاصة إذا ما اعتمد الأهل صيغة دائمة للتفاعل الإيجابي مع الطفل من خلال القراءة بالمناقشة والتحليل، وتبادل الرأي والتعليق على ما يقرؤه الطفل. وقد تكون هذه الإيجابية والتفاعلية هدفا في حد ذاتها؛ حيث أصبحت صفة معبرة عن قدرة الفرد على التعايش والنمو، وهذه المعرفة والتفاعل لن يكونا بغير قراءة.
ـ مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا