حين أفكر بجدتي الراحلة تزول الجراح جميعها، ويتغير كل شيء في نظري، وتصبح الحياة رائعة، وأكثر جاذبية، ومستحقة للعيش بعمق..يموت الأحباب، وتظل الحياة تطوينا من دونهم، ويعلم الله كم قاسيت بموت أبي وجدتي من بعده.. و ما وقع،في بيتنا بسبب السمك، جعلني أُدفن في الظلمات، ولم تنتشلني غير يد جدتي، ظهورها إلى جانبي أيقظني، وأخرجني إلى النور، أما حزنها على موت أبي فقد خلخل الأشياء في نظري، أتذكر أشياء كثيرة عن جدتي، لكن حزنها تحديداً لم يكن له مثال في نظري غير الخنساء في بكاها عن أخيها صخر.
ذكراها عصية على النسيان، فلا شيء يمنعني من تذكرها كل يوم، إنها جدتي التي علمتني لا كيف أحزن بل كيف يصح أن أحزن.. أما الفرح فاكتشاف متأخر عندنا، لا يأتي بيتنا ولا يدق أبوابنا، ولا يسأل عنا، الحزن نعم، يزورنا كما الحمى خفيفاً في النهار، في كل يوم، وملماً وحاراً في الليل يجر ذيل جهنمِه.
مر على موت جدتي أعوام كثيرة، وأنا الآن أستاذ محاضر أعي الأشياء من حولي جيداً، وأحياناً لا أفقه شيءً مما يحصل حولي.. فكري يشل مرات عدة وفي مواقف كثيرة، لكن موقفي تحديداً من ذكرى جدتي مختلف تماماً، الجزئيات تحضرني وأنا أتذكر كل شيء عنها، بت أرقب ذكراها رقبة الأعياد، في الصحو كما في النوم.
حين كانت تمشي في البيت، وفي الطرقات تسبقها رائحتها، تنظر في الأرض، ولا ترفع رأسها إلا لماماً، يقودها ظلها، يتكسر أمامها كلما تهادت متكئة على عكازها، تخز به الأرض، ولها فيه مآرب أخرى، تظل أوقاتاً كثيرة ممسكة به، وهي تحفر لدرجة أن أرض بيتنا صارت كلها حفراً، لعلها تبحث عن شيء ما، ولعلها تعشق أريج التراب كلما بلغت الحفر الصغيرة تمامها، أحيانا تظل تتأمل أديم الأرض فتبدو كقبة ولي صالح هجره الزوار.. وحين تتعب من الوقوف، وليس من التأمل، تتقدم ببطء.
رجلاها واهنتان، ولم تعودا تقويان على حملها، ومع ذلك تحب الحركة ما دام في العمر بقية، والأمر الذي حير الجميع من الذين لا يعرفون قصتها هو لماذا تتحاشى النظر في وجوه الناس، يستحيل أن تتنقل في الأمكنة دون أن تضع نقابها، هي تحرص عليه لا لتستر به الوجه، فهي أم الجميع، وتخطت السبعين من عمرها، إنما البرقع لأنفها.. الأنف مشكلتها، وحاسة الشم عندها قوية رغم كبر سنها، لم يفلح الزمن في تعطيلها كما فعل مع بقية جوارحها، الأنف مشكلتها، وستره ضروري، كانت المسكينة تخاف أن تشم رائحة السمك أثناء تجوالها في الطرقات، وحين تلتقي بمن تحب وبمن لا تحب لا تنظر في وجوههم أبداً، ففي الوجوه أنوف، وكل أنف يذكرها بمأساتها.. لذلك ظلت تتحاشاها ومشكلتها هي محسومة مع الأنف منذ مات ابنها.
أنجبت خمسة أطفال، أبي ولدها البكر والبقية إناث.. ولدها (والدي) هو الذي قصم ظهرها، لا أحد أفلح في أن يجعلها تنسى ذلك اليوم المرير، لا الزمن، ولا أصهارها، ولا عماتي، و لا الأحفاد؛ ظلت تبكيه، منذ مات غرقاً في البحر، اعتبرته من موتى الفناء، ووهبت نفسها ميتة للوجود، واعتبرت البيتَ قبرها، والبحر رمسها، والسمك دودَها.
السمك دودها لأنه المسؤول عن وفاة ابنها، بهذا قر قرارها رغم إيمانها.
تحكي لي أمي أن البحر حين لفظ ولدها (والدي)، أصرت على رؤيته.. دخلت الغرفة حيث سُجي، طلبت من الجميع أن يتركوها معه، رفعت الملاءة على الجثة.. صرخت:
ليس ابني، ليس ابني..
دخل الجميع، لم يكونوا بعيدين عنها، غطوه، صرخت فيهم:
“الجثة ليست لابني…انظروا إليه”..
أمي عرفته، والزوجة أحياناً تعرف ما لا تعرفه الأم عن ولدها، هي أدرى بتضاريس جسد زوجها.
كان البحر قد ترك أثره، السمك نخر جسده، بدت الجثة مثقوبة كغربال، الأرجل مبتورة، والعينان عبارة عن حفرتين غائرتين، الرأس بدون شعر، والبطن والظهر لا معالم لهما، بقايا إنسان ليس إلا، السمك ترك توقيعه؛ وجدتي حفظت التوقيع وكرهت السمك.
كان ابنها، لكن السمك غير جلده، قالوا لها في محاولة لإقناعها بأنه هو، لكن الموت تترك أثرها، وظلت أياماً كثيرة ترفض التسليم بأنه ابنها، ظلت المسكينة تردد ثلاث كلمات: الله، ولدي، السمك.. ظلت تهذي بها دون توقف.
في يوم الأربعين قالت لهم:
” تعددت الأسباب والموت واحد، إلا موت ابني، موته استثناء.. استثناء..”
ومنذ مات الابن حرمت البناتِ، والأصهارَ، والأحفادَ أكل السمك، واعتبرت إدخاله إلى البيت كوجبة طعام خيانة، كانت تقول:
“أتحبون أن تأكلوا لحم ابني وقد كرهتموه، إن السمك محظور، محظور، ومن يصالح منكم ليس مني”،
اعتبرت الأسماك منذ ذاك العهد أعداء العائلة، وكانت المسكينة تغادر أي بيت تزوره تشم فيه رائحة السمك، ولكثرة ما باتت تشمه في البيوت التي تزورها عقدت العزم على ألا تزور أحداً بسبب السمك، وكانت تحب التجوال منقبة، وتكتفي بحفر الحفر.
أحفادها الذين ولدوا لزمن غير زمان جدتهم حفظوا الدرس جيداً، لم يتذوقوا السمك يوماً، ولم يزوروا البحر يوماً، ولكنهم كل يوم يترحمون على فقيد العائلة الذي شوهه السمك.
وفي المدرسة حين يتحدث إليهم رفاقهم عن البحر والاصطياف والسباحة، يبادرونهم بالقول:
السمك هناك..نحن لا نريد الذهاب ..
الآخرون الذين لا يعرفون قصتهم يستغربون ردود الصغار وكلامهم عن السمك؛ حدث مرة أن أحد رفاقهم واتته النكتة وقال لهم:
عليكم بتذوق فواكه البحر.. قد تغيرون رأيكم.
وحين نقلوا عبارة ” فواكه البحر” إلى البيت، قالت الجدة بحدة:
لا تصالحوا يا أولاد، ومن يصالح منكم ليس مني، فرعه يُستأصل من الشجرة.
حقد جدتي على السمك، لم يذكرني سوى ببطل “هرمان ملفل” آخاب الحاقد على الحوت “موبي ديك” الذي التهم إحدى رجليه، فقرر الانتقام لنفسه منه في صراع لا نهائي، يومها وأنا طالب علقت على الرواية:
” أخاب هذا أحمق ولا شك، يطارد حوتاً في البحر، كيف يجرؤ؟”.
وحين سمعت وقائع موت أبي لم أستطع أن أصف جدتي بالحمق مثلما فعلت مع “أخاب” لمجرد عدائها للسمك.. حال دون ذلك طريقة حزنها كما قلت.. بُكاها نزف دموع عينيْها، لذلك كانت تستعير عيوننا لتبكي بها.
وحين جاءتها سكرة الموت تركت وصيتها:
“اغسلوني بماء السمك (لم تكن تقول البحر)، واكتبوا على قبري: “هذا قبر امرأة عاشت لتموت مرتيْن..” .
وحين سألت أمي، وأنا طفل، عن معنى الكلام ردت بكلام كثير لم أفهم منه غير أن السمك غير حياة الجدة.
أتذكر كل هذه التفاصيل، وأنا اليوم أب ومثقف متنور، صرت أباً وطفلي الصغير يحيرني، لقد فاجأني يوماً حين فحصت دفاتره المدرسية، وجدته قد رسم: “سمكاً وسط البحر”، يومها خرست، ولم أنبس ببنت شفة، لكني في الليل حلمت بجدتي في هيئة حورية البحر، بهية، وغادة، تسبح، تغطس في البحر ولا تبتل.
وحين حكيت الحلم لأمي الأرملة، قالت دون تفكير:
اُصدقني القول، هل حدثت طلبتك عن البحر، هل تصالحت وأكلت سمكاً، هل زرت البحر؟هل..؟ وهل؟…
أمطرتني بالأسئلة وأحسست بكل سؤال كأشروطة الإعدام يُلفُ حول عنقي.. كنت أنزف من الداخل لذكرى جدتي، لكن ما نفع ضمادة لمن ينزف لذكراها حتى الموت، لذلك قررت، بعد أن طمأنت والدتي بأني لن أصالح البحر، وأن أزور قبر جدتي بعد حلمي مباشرة، حصل ذلك في أول الأسبوع، كنت قد تعودتُ أن أزور قبرها كل يوم جمعة، لكن حلمها اعتبرته نداء، لذلك كسرت القاعدة فقررت زيارتها في يوم الاثنين، ويبدو أني كنت مستعجلا لأبثها همي والكلام معها.
وحين وقفت على قبرها قلت لها أشياء كثيرة، كنت كالشلال، همست لها بكلام كثير، ولكني دون أن أدري ختمته بالحديث عن السمك رغماً عني، ولأول مرة أفعل ذلك، قلت لها:
” لو عِشْتِ جدتي في زمن الأحفاد لصالحتِ السمك،والبحر،والحجر والسماء”.
قرأت الفاتحة على روحها فمضيت لأعود يوماً حياً أو ميتاً.