يقول أبو سعيد الخراز المولود ببغداد في بداية القرن الثالث الهجري في كتاب الصدق : ” قلت : متى يألف العبد أحكام مولاه ، ويسكن في تدبيره واختياره ؟ .
قال : الناس في هذا على مقامين ، فافهم . فمن كان منهم إنما يألف أحكام مولاه ،، ليقوم بأمره الذي يوصله إلى ثوابه ، فذلك حسن وفيه خير كثير ، إلا أن صاحبه يقوم ويقع ، ويصبر مرة ويجزع أخرى ، ويرضى ويسخط ، ويعبر ويراجع الأمر ، فلذلك يؤديه إلى ثواب الله ورحمته ، إلا أنه معني في شدة ومكابدة ” .
وفي ضوء ما سطره أبو سعيد الخراز في كتابه الصدق من علامات المقربين يمكننا رصد الخطاب الشعري الصوفي الذي بالضرورة لا يخرج عن ملامح وإحداثيات مفادها التقرب إلى الله ، والوصول شعرا إلى حالات من الوجد الروحي الذي لم يكن مجرد نظم لغوي ضيق يقع محتجزاً داخل قصيدة عمودية بالقدر الذي كان رصدا طبيعيا لتجربة قلبية قوامها الرياضات الصوفية والتعبد المستدام والذي أسفر عن أبيات شعرية تكشف حقيقة وجوهر هذه التجربة الاستثنائية.
لذلك من باب العجز النقدي والتناول الضيق لنصوص المتصوفية الشعرية وفق آليات المدارس النقدية التقليدية كالبنيوية أو الشكلانية الروسية أو تلك المناهج النقدية المدرسية التي لا تخرج عن فلك تحديد واستنتاج الصور البلاغية والتراكيب الرصينة أو تحديد اتجاهات الشاعر وأغراضه ، بل إنه من باب الصواب معالجة تلك النصوص وفق آليات نقدية تقارب تجربة الشاعر الصوفي من ناحية ، وتعتمد نظرية التلقي والإجراءات التأويلية الهيرمينوطيقية من ناحية أخرى .
ولأنهم يَذهبون إلى التصوف طوعاً مترجمين تجاربهم الروحية شعرا ، فهم في حالة بحث مستمر عن معرفة الحقيقة ، وهؤلاء في قلق مستدام وهو قلق طبيعي إيجابي يسعى إلى الجمع بين المعرفة والحقيقة بغير غموض أو شبه التباس على الأقل من وجهة نظرهم ، بخلاف اللغة التي تبدو رمزية وغامضة معظم الوقت ، وربما رمزية النظم وغموضه يعد من أسرار التصوف ؛ حيث إن الذين يعمدون الوصول إلى معارجه لا يتجرعوا مرارة الإخفاق وتعثرات النفس التي تصاحب الفشل في الحياة الاجتماعية ، بل هو اختيار قصدي لا يعرف للتصنيف سبيلاً ، أو مثلما يعاني إنسان ما متاعب الحياة ويتحمل عثراتها فيلجأ مباشرة صوب الاحتماء بأستار الدين كتوجه ظاهري فقط ، أما أولئك الذين ذهبوا للتصوف ليس كطوق نجاة فحسب من فتنة الدنيا وكدرها فإنهم لم يغادروا الدنيا بمشاعرهم نحو نصوص السلف القدماء من أجل اجترارها بل تيقنوا أن بتصوفهم هذا يؤكدون إرادة تحقق العقل وكماله . بل إن معظم أقطاب الصوفية اعتبروا عن جهد وروية أن الإرادة هي جوهر الإنسان نفسه ، وبمقتضاها يستطيعون إثبات وجودهم وكنههم ، بل إن بعضهم طرح فكرة أن الإرادة هي سبيل الوصول إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مطلوبهم .
والشعر الصوفي الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بصاحبه الذي يمتلك تجربة روحية نجم عنها نظم لغوي مغاير للنظم الشعري المألوف والمعتاد ، يتطلب بالحتمية قراءة تأويلية له ، وهذه القراءة الجديدة تعد نتاجا للوعي بالنص وصاحبه ، وهو بذلك يدخل في عملية تفاعلية مع النص غير متغافل عن مؤسسه الشرعي وهو الشاعر الصوفي ، ورغم ذلك فهو يقوم ـ القارئ ـ بتناص معرفي تارة ، وشعري تارة أخرى مع مخزونه الثقافي والشعري وتلك المتون الصوفية التي تناولت المباحث الصوفية الموجودة بالقصيدة رهن القراءة .
وربما الاتهامات المتلاحقة التي نالت من التصوف بحجة أنه اتجاه روحي فحسب ولا علاقة له بالعقل أو فعل الإرادة ، هي التي دفعت المتأخرين من مؤرخي حركة التصوف الإسلامي نحو إبراز دور الوعي والإدراك لدى متصوفة الإسلام ، وأن كنه التصوف لا يتمثل في مساجلات تنظم شعراً أو مجرد أقوال مرهونة بمواقف محددة بل هو وعي شديد الحضور وضرب من ضروب النشاط العقلي والذهني ، وإن جازت التسمية في بعض الأحايين بأنه ما فوق الإدراك وما وراء المعرفة .
وهذا الملمح العقلي الأقرب للفلسفة نجده بوضوح في النصوص الشعرية لدى المتصوفة لاسيما وهم يفرقون بين أحوال المحبة والوجد والعشق الإلهي ، وجميع تلك الأحوال هي من علامات القرب التي تعني الانقطاع عن كل شئ سوى الله عز وجل ، وربما قد لا يفطن البعض إلى أن بعض نظم أهل التصوف كان إجابة لأسئلة وُجهت إليهم حول هذه الأحوال ، فسُئل أبو بكر الشبلي مرة : هل يقنع المحب بشئ من محبوبه دون مشاهدته ، فأنشد يقول :
والله لو أنك توجتني …. بتاج كسرى ملك المشرقي
ولو بأموال الورى جدت لي …. أموال من باد ومن قد بقي
وقلت لي لا نلتقي ساعة …. اخترت يا مولاي أن نلتقي
وهذه الصورة الشعرية لأحوال المحبة والعشق الإلهي نجدها بازغة بوضوح في نصوص عمر بن الفارض الشعرية ، وابن الفارض بامتداد التراجم التي تناولت سيرته فضل الورع والتقوى والانقطاع للعبادة والتفكر والاطلاع والبعد كل البعد عن مظاهر الجاه والسلطان وفتنة الدنيا وهذا الورع كان كفيلاً لأن يكون خير مرشد ومرب لهذا الشاعر الذي سيصير فيما بعد سلطاناً للعاشقين ومحباً بغير انقطاع أو ملل . يقول ابن الفارض :
( ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا *** سر أرق من النسـيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها *** فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال مني مجهرا ) .
ويقول الإمام المحاسبي : ” إن أول المحبة الطاعة وهي منتزعة من حب الله ” ، ويشير المحاسبي إلى أن لتحقيق محبة الله فوائد عظيمة ، فالفوائد واصلة إلى قلوب محبيه ، لذلك قيل إن علامة المحب لله حلول الفوائد من الله بقلوب من اختصه الله بمحبته ، يقول أحد المتصوفة في ذلك شعرا :
له خصائص يكفلون بحبه … اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقهم … بوداع وفوائد وبيان .
ووفقا لنظرية التلقي النقدية فإن تجربة القارئ السابقة ومعارفه المرتبطة بالنص الوقتي الحالي تمثل قرينة مناسبة لتحقيق الفهم والتأويل ، فالنموذجان السابقان يمكن ربطهما بقراءة متجددة لذي النون على سبيل المثال حينما يقول :
أموت وما ماتت إليك صبابتي … ولا قضيت من صدق حبك أوطاري
مناي ، المنى كل المنى ، أنت لي مني … وأنت الغني ، كل الغنى ، عند أقتاري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي … وموضع آمالي وكنون اضماري
وهذا الربط المعرفي يمثل قراءة متجددة لا لأنه يشاكل ويماثل تجارب شعرية في معنى واحد وهو العشق الإلهي ، لكن يأتي التجدد هنا من إضافة القارئ لدلالات وإحالات أخرى لأحوال المحبة والعشق مثل اليقين الواقع في القلب ، والخوف ، ومتابعة الله في الأخلاق والأفعال والأوامر والسنن .
لكن تظل مشكلة التلقي للقصيدة الصوفية التي يمكن توصيفها بالخطاب الصوفي ظاهرة لا يمكن الفكاك من شراكها ، لاسيما وأن النص نفسه يمثل منحى لغويا غير معتاد بألفاظه ورموزه وإطلالاته غير التداولية ، وهذه المشكلة ظلت قائمة طالما اعتاد النقاد على تناول هذه النصوص بميكانيزمات كسولة تصر على رؤية النصوص الشعرية الصوفية من زاوية أنها نصوص شعرية دينية لا بوصفها تجارب إنسانية ترتبط بأصحابها من أهل الأحوال والمقامات ، ورغم أن نظرية التلقي المعاصرة تسعى باجتهاداتها في ملء فراغات النص وإيجاد أفق للتوقع والتنبؤ يتوافق مع قراءاته السابقة والنص الذي يتناوله ، إلا أن النص الشعري الصوفي يقوم بالضرورة أفق التوقع هذا ، ويأبى بل ويتمنع أن يسعى امرؤ لمل فراغاته التي قد لا تتسع لتأويل منصف يحسب للنص أو صاحبه .
ونرى بوضوح ثمة اتهامات موجهة لعمر بن الفارض المعروف في تاريخ التصوف والشعر العربي بسلطان العاشقين ، هذه الاتهامات مفادها أن قمة التجربة الصوفية عند ابن الفارض والتي تم إنتاجها شعرا لا يمكن اختزالها فقط في تجربة العشق الإلهي ، بل تبلغ القمة مداها حينما نجد الشاعر نفسه يتحدث عن الأنا الجمعي ، وهذه الأنا نفسها اللفظ المركزي في قصائده بغير منازع ، وربما مقصد التجربة الصوفية الروحية لعمر بن الفارض الأسمى هو الاكتشاف والتحقيق لذاته لأبعد حدود لها . يقول ابن الفارض في تائيته :
(ولولا حِجابُ الكَونِ قُلتُ وإنَّما … قيامي بأحكامِ المظاهِرِ مُسْكِتي
فلا عَبَثٌ والخَلْقُ لم يُخلَقوا سُدىً …. وإنْ لم تكُنْ أَفعالُهُمْ بالسديدَة
على سِمَةِ الاسماءِ تَجري أمورُهُمْ … وحِكْمَةُ وصْف الذاتِ للحكم أجرَت
يُصَرِّفُهُمْ في القبضَتَيْنِ ولا ولا … فقَبْضَةُ تَنْعِيمٍ وقَبْضَةُ شِقْوَة
ألا هكذا فلتَعرِفِ النّفسُ أو فلا … ويُتْلَ بها الفُرقَانُ كُلَّ صبيحة )
فالقارئ الاعتيادي يظل على حالته التي يرى نفسه مهاجما للشاعر ونصه بغير مباغته بل مصوبا كل أسلحته صوبهما ( الشاعر والنص ) معا معلنا أن النص يخالف الموروث الديني رغم أن النص في ذاته حالة وتجربة شعرية محضة ، لكن لم يعبأ هذا القارئ بأن الشاعر الصوفي في نصه ـ عموما ـ هو في حالة مستدامة من البحث عن مرفأ لليقين ، وعن استقرار معرفي محتجا على العالم الذي يهرب منه بعيدا إلى لغة خاصة تشكل له عالما جديدا .
ولأن الخطاب الشعري لدى المتصوفة بحق خطاب خارج سياق التأمل وبعض الأحايين التأويل أيضا ، فها هو محي الدين بن عربي الذي كان منذ لحيظات ينظم شعرا في باب التوكل وفضله ، نجده في الفتوحات المكية أيضا ينشد قصيدة في ترك التوكل ، ويذيل شعره بنثر شارح للنظم ، موضحا أن التوكل مشروع فينال الحد المشروع منه ، ويشير إلى أن التوكل الحقيقي غير واقع من الكون في حال وجوده ، فما هو للمعدوم في حال عدمه ، وما ثم مقام يتصف به المعدوم ولا يصح في الموجود من جهة الحقيقة إلا التوكل ، فلا يزال المعدوم موصوفا بالتوكل حتى يوجد فإذا وجد خرج عنه التوكل ، قائلا فذلك المعبر عنه بترك التوكل . يقول ابن عربي :
أنت الخليفة فيما أنت مالكه … والحق ليس به نفع ولا ضرر
ترك التوكل حال ليس يعلمه … غير الوكيل فلا روح ولا بشر
كيف التوكل والأعيان ليس سوى … عين الموكِّل لا عينٌ ولا أثر
_________
*مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا