الـحـاجــز

خاص- ثقافات

*أحمد غانم عبد الجليل

تتنازع مواضيع المحاضرات أمامه منذ ساعات دون أن يوليها أدنى تركيز، صرير الباب يفاجئه بولوجها كهف وحدته، تسند ذراعيها على جانبٍ من المكتب، ضوء المصباح المنضدي يتسلط على وجهيهما المتقاربين, تسأله بابتسامةٍ وديعة، تستحوذ على تعاطفه حينا وتثير سذاجتها استفزازه أحيانا آخرى، إن كان يريد شايا يعينه على سهر المذاكرة… يهز رأسه نفيا وعيناه تقتنصان طرفي نهديها المتدليين أمام دهشة منه، تكشف عن جمالهما فتحة الجلباب الواسعة، يرقب خطاها الوئيدة نحو الشباك، تغلقه في وجه تيار هواء منعش البرودة، تقف عنده بنظراتٍ حيرى تلفحها غلالة من الخجل، تقيس الخطوات المعدودة بين جلسته والفراش، وبشيء من الضجر تلوي وجهها عنه نحو ستار الظلام الكثيف في الحديقة… زفرات أنفاسها تجوب فضاء الغرفة بقوةٍ لم يعلن عنها صمتها في لجة كل ما عصف بها منذ يوم دخولها دارهم, زوجةً لأخيه الكبير…
جلَ ملامح وجهها الذابل تغادره في لحظات، صدرها يصير أمام ناظريه أكثر اكتنازا من تحت بلوزة قطنية بيضاء اللون، يداها تضحيان أكثر نعومة، وأصابعها أكثر رشاقة، أظافرها طويلة مطلية بعناية، تندسان في جيبي بنطال جينز ضيق, كانت ترتديه زميلته الفاتنة يوم الرحلة الوحيدة التي اشترك فيها منذ دخوله الكلية…
كان غريبا عن رفقتهم، عن أحاديثهم ومرحهم العفوي، ولولا تأكده من وجودها لما ذهب إلى تلك الرحلة، وإن كانت ستمضي الوقت برفقة فارسها الوسيم، أما وجودها من دونه فكان أشبه بتسرب الماء من بين كفيه، كما يحصل عند وضوئه الطويل المتكاسل، ونظراتها المتحفظة تستنكر خيبة عينيه في مداراة شره أشواق تحثه مراوغاتها كل حين على معاودة التقرب منها، فلا يظفر إلا بخذلانٍ جديد يقصيه عنها وعن عالمها أكثر…
لا يدري إن كان يهمس بإسمها أثناء نومه قبل دخول أخيه غرفته، يهزه من كتفه عنيفا حتى يجبره على النهوض قبل موعد أذان الفجر بنصف ساعة والإسراع نحو الحمام، يواري خجله من تأففاته واستغفاره إن وجد في لباسه الداخلي ما يدعوه إلى الاغتسال السريع قبل الذهاب برفقته إلى الجامع، يطول الطريق حينا بعد حين، في الذهاب و الإياب، لا يملك خلاله سوى هز رأسه مصدقا على كلامٍ لا ينفك صقر البيت عن ترديده بذات الوتيرة التي حفظها عن شيوخه، موليا وجهه ما أمكنه عن نظراته المتربصة به باستمرار، رافق غضبها صفعة قوية كادت تخلع فكه الأسفل لما ضبطه يدخن سيجارة في ركن منزوٍ من حديقة دارهم, هدير صوته العنيف يزعق في أذنيه من حينٍ لآخر، دفعه ضربا على ظهره نحو غرفته لتفتيشها بالكامل، لم يصدق المعجزة التي أخفت علبة السجائر، حين استبقهما ذعرها نحو الغرفة التي اعتادت تنظيفها يوميا، ترتب الفراش، تمسح الأخشاب وأغلفة الكتب بعناية، قد تثير انتباهها بعض عناوينها، فتحثها على تصفحها، خاصة دواوين الشعر والروايات التي كان يجلبها خفيةً عن الأنظار، فيضعها تحت الكتب الخاصة بدراسته، تدهشها حينا، يستفزها غموضها حينا، فيما تزم شفتيها وتلطم خدها برقة خجلا من بعض تفاصيلها حينا ثالثا، ولكنها لا تملك التغاضي عن رغبتها في تصفح أحد تلك الكتب في اليوم التالي باهتمامٍ أكبر، وبعض فقراته الحميمية تسطو على خيالها في ساعات السهاد أكثر من أي وقت آخر…
يحيط خصرها في ارتباكٍ حذر، تنتفض بين ذراعيه أول الأمر، إلا أن كفيها تسارعان بإحاطة وجهه الحليق، تشتهي عناقه الحار، تود لجلبابها الرمادي الخفيف الذي اشترته منذ يومين، بعد خروجها من ضريح أحد الأولياء الذي اعتادت زيارته والبكاء عند شباكه طويلا، التمزق بين راحتيه…
يبعدها عنه فجأة، ينظر إليها بعينين مصعوقتين، صفعة أخيه تتجدد على صدغه، جسدها اللدن يعبق برائحته، لحيته الكثة وخز دبابيس تندس بين شفتيها، في خديها، في جيدها وصدرها البض… في خصل شعرها التي لم تنكشف أمامه حتى بعد عقد قرانهما رضوخا لأمر والده العجوز، بمباركةٍ من أبيها إمام الجامع، وتوسلات والدته الا يحرمها من رؤية حفيدتها يوما واحدا، بينما كانت جثة شقيقه المدماة تحت عجلة السيارة التي صدمته تتجسد أمامه بوحشيةٍ قاسية…
تتراخى ساقاها حتى السرير، تنظر إليه في ذهول، فيولي وجهه نحو الحائط كصبيٍ معاقب، مشلول القوى، تلقي بظهرها على الفراش، تنهداتها الجريحة سهامٌ شرسة تنخرز في أحشائه، تصلبه على أطراف حلم بل أحلام عدة جمعتهما معا خلال أشهر زواجها الأولى، أنبَ نفسه طويلا، جلدها، لعنها وتمنى التبرؤ منها، كان يغلق عليه باب غرفته الملاصقة لغرفتهما أغلب الوقت حتى لا تكشف عيناه سر خباياه أمام الجميع، وبالأخص شقيقه حاد الطباع، لم يسمعه يكلمها إلا بنبرةٍ خشنة آمرة ترعد قلبها، تقحمها في خياله عصفورا صغيرا منتوف الريش بين تلكما الذراعين القويتين، صلى و دعا و استغفر كثيرا، واصل قراءة القرآن بدموعٍ ازداد تطافرها في ليالي أرقه حتى أخذت الأسطر بالاختلاط أمام عينيه، ووقع الأقدام نحو الحمام في آخر الطرقة يقرع رأسه دون هوادة…
تغمض عينيها والدموعٍ عالقة في محجريهما، تلعن حماقتها الفاضحة أمام ذلك المنكمش على نفسه قرب الحائط، عله ينتظر خروجها ليجهش ببكاء طفل مسلوب الإرادة، ولكنها لا تملك القوة على النهوض ولا المرور من جانبه إلى خارج الغرفة، ليتها تستطيع طلب مساعدته على إنهاء هذا الموقف السخيف … ليت لسانها يسعفها للنطق بكلمة تخفف عن كاهلهما عبء تلك اللحظات الثقيلة المحرجة…
في الجدار كابي اللون تنقش فرحة ولهى تزيد من إشراقة وجه حبيبته مع إقبال غريمه بخطاه الواثقة نحوها، تهفو نحوه كعود وردة فواحة الرائحة، يراقص نسائم الصباح العذبة، ينزوي جمر نظراته بين  شفاههما المتهامسة، تقهره المسافة شبه المتلاشية بين وجهيهما، يتتبع جلساتهما في الكافتريا أو إحدى زوايا باحة الكلية، بمنأى عن الجميع… يلتقيان خارجا, أين؟… يلمسها… يعانقها!!… تمتنع عنه في حياء أم تستسلم لجموحه بالكامل؟؟… أسئلة متلاحقة ترفدها أخيلة تنفث سمها عميقا في أوردة لياليه المهتاجة…
بدفعةٍ خفيفة من قدمه يغلق الباب، يلتفت نحوها، يجلس إلى جانبها، يرقب قسمات وجه يحمل ألقا غريبا يشع من ذلك الوهن الطويل المتسرب إلى العروق النافرة… يمس إصبعه جبينها الحار، يمرره بنعومة على خط أنفها المستقيم، يداعب شفتيها الشاحبتين، ينحدر نحو ذقنها، عنقها الطويل… يفك زر الجلباب الرابع، ويزيح طرفيه عن صدرها أكثر، ارتجاف كفيه يذكره بسخرية أصدقائه من صرامة الخجل (العذري) الذي يكمم فحولته، فيما كان شقيقه يحثه على الزواج المبكر من بنت أحد أقاربهم التي لم تبلغ السابعة عشرة بعد، وتكاد لا تغادر منزل أهلها منذ أن أنهت دراستها المتوسطة بمعدل عالٍ…
ترفع جفنيها قليلا نحو سكونه إلى جانبها، والسقف يدنو منه حتى يكاد يطبق على أنفاسه، شفتاه تتلمظان عناقا حارا ظلتا تأسرانه، أمالت رأسها بعفوية نحوه، أنوثتها الخجول تهمس بشوقٍ يحثه على معاودة الدنو بل الالتحام بها إلى ما لا نهاية… لا يدري إن كان يغار أم يأخذه الحنق على جرأةٍ غريبة عنها… يفزع فجأة، يد أخيه تعاود زغد كتفه، يهرب برجولته المتهاوية أمامها إلى خارج الغرفة والبيت ليعب رئتيه بهواء الخريف سريعا، يطلقه زفرات قاسية تكاد تخلع أضلعه، يجلس القرفصاء على جانبٍ من الحديقة، قريبا من شباك غرفتها المضاءة، تذر الريح عبراته صفيرا حرا يهدهد أوراق الشجر…
كسر وقع خطوه السريع في الرواق جليد استلقائها على سريرها الموحش، محتضنةً طفلتها الغاطة في نومٍ ملائكي، تنهك ساعات أرقها رغبة سماع صوت طرقة خافتة من يده، لأي سببٍ أو بأي حجة كانت، فتهرع إليه حافية القدمين، دون أن تمد يدها لالتقاط غطاء الرأس المرمي عند حافة الفراش أو ترتدي عباءتها المنزلية، بقلبٍ متخبط النبضات، يفتح له الباب الموصود على وسعه.

_________

*كاتب عراقي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *